يوسف محمّد عبد الله... الإنسان والعَالـِم

  • د. حميد العواضي
  • 02:52 2021/06/12

تضيق العبارة في الحديث عن العلّامة الدكتور يوسف محمد عبد الله، وما يـتّسم به من الخصال الحميدة والأخلاق الرفيعة والتواضع الجم، بالتوّازي مع ما له من علو كعب في العلم والمعرفة واللغات. وقلّ أن تجتمع في شخص مثل هذه الصفات. لقد فرقت ببننا الحرب، وشتت شمل اليمنيين شذر مذر، وأنهكت قدراتهم على العمل والإنتاج، وخرّبت ما صنعوه خلال سنوات، ودمّرت ما تآلفت عليه الأجيال خلال عقود. وفوق هذا كانت سبباً في فقدان زملاء الحرف والمهنة وفي طليعتهم المرحوم الدكتور يوسف. وفي هذه العجالة -بحسب ما يقتضه المقام هنا- سوف أقف على جانب ذاتي في علاقتي بالدكتور يوسف استعرض فيه بعض المحطات التي جمعتنا كما أقف على إسهام أساسي وتأسيسي للدكتور في مقاربته للتاريخ اليمني.
 
يوسف الإنسان
 
لا شك أن هناك من هو أكثر مني التصاقاً بالدكتور يوسف، لا سيما الزملاء في قسم الآثار. ولا شك أن له من التلاميذ، وتلاميذ التلاميذ من يعرف عنه الكثير. ولكني هنا أعبر عما خَبِرْتُ في صحبته، وألفت في صداقته اللتين امتدتا لما يزيد عن ثلاثة عقود. إذ ترجع معرفتي بالدكتور يوسف إلى ثمانينيات القرن الماضي حين زار تونس محاضرا ضمن الأسبوع الثقافي اليمني في تونس وكنت حينها طالبا في المستوى الجامعي. كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع منه وهو يلقي محاضرة. ثم شاءت الظروف أن نلتقي مرة أخرى في باريس وأنا أحضر الدكتوراه. ثم انضممت إلى مشروع كبير حين كُلفتُ برئاسة تحرير الموسوعة اليمنية في طبعتها الثانية، والتي كان من مؤسسيها الأوائل معية التنويري العظيم في اليمن المرحوم الأستاذ أحمد جابر عفيف وطائفة من العلماء على رأسهم الأستاذ الدكتور حسين العمري والمحامي أحمد الوادعي وسواهما ممن لا يتسع المقام لذكر أسمائهم على جلال قدرهم. كما جمعتنا صحبة في العمل الثقافي على تنوع اتجاهاته. فقد ترجمتُ له إلى الفرنسية ما تحدث به في أحد الأفلام الوثائقية عن آثار اليمن. وكتبَ هو تصديرا لكتاب ترجمته بالمشاركة مع زميلي الدكتور عبد اللطيف الادهم عن "بلاد اليمن في المصادر الكلاسيكية". وصار لنا لقاءات متكررة في مجلس الدكتور حسين العمري والجمعيات الثقافية التي تشاركنا عضوية العمل بها، وسوى ذلك من مقامات الود والإخاء.
 
وفي كل هذه المقامات كان الدكتور يوسف ودوداً في التعامل، لطيفا في القول، خفيفا في النقد، لبقا في الإشادة والإطراء. لم ألقه غاضبا أو عرفته محتدا. حتى إذا رغب في التعريض بأحد، فإنه يقول ذلك كالمادح أو الممازح، وبحسب ذكاء المتلقي يكون الفهم والإفهام. ويغمز بالكلمة الموحية والتضمين الخفي، لا يتخير من الإيماء ما يجرح، ولا من القول ما يقدح. وكانت له شبكة علاقات إقلمية ودولية كبيرة في مجال علمه وعمله؛ لا سيما أنه صار الحجة، وإليه تطوى الأسفار وتعقد المحجّة. وكان خبيرا بمعادن الناس، وله كفاءة على فهم مقدراتهم. وكما عرفته يحتفي بزملائة وطلابه احتفاءً أخوياً، ويراعي قدراتهم المعرفية واللغوية مرعاةً. ويسهم في تعريفهم بما يجدّ من الكتب والبحوث تباعاً. ولا يُعير كتابا فريدا أبدا! وكانت له إطلالة واسعة على ما يصدر عن اليمن في الخارج. ولا يتبجح فيما يعرف ولا يبالغ فيما يحيط به علما. بل قد يشير إليه لماما إذا ما رأى في التكرار فسادا. كانت له رؤية في التعامل مع الناس بحسب درجات إدراكم؛ فيراعي توجهاتهم مرعاة ذكية لا تُفسد وده بهم، ولا تخلق عداوة لا طائل له منها، ولا تلحقه بطرف من الأطراف. فقد كان يحافظ على استقلاله الفكري. وكان يحرص على عدم مشاطرة رأيه المتحرر في القضايا الكبرى للتفكير الإنساني، والتصرف البشري إلا لذي ثقة ومعرفة، وقد حظيت بذلك منه. وله خصال ومزايا أخرى يعرفها آخرون. هذا بإيجاز شديد ما رأيته وقدرته.
 
مع إيماني بأنه مزج بين الإنسان والعالم مزجا مميزاً، فإني فصلت بين الأمرين لغاية منهجية فقط وسوف اتحدث فيما يلي عن قضية واحدة ضمن إنجازاته العلمية هي: الهمداني وعقلانية الكتابة التاريخية عن اليمن.
 
يوسف العالم
 
للدكتور يوسف إنجازات علمية واسعة سواء تلك التي باشرها بنفسه من بحث وكتابة وتحقيق، وتنقيب وكشف وريادة، أو تلك التي أشرف عليها ورعاها وحررها وقدم لها. فأما جهده فيما يخص علما من أعلام اليمن والجزيرة العربية هو أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني، المشار إليه بلسان اليمن وعالم الجزيرة، فأمر واضح للعيان. فقد كان الهمداني فيما سجله من أعلام اليمن وأعيانها موضع بحثه للدكتوراه بالمقارنة مع النقوش القديمة. ولعلي لا أُغفل هنا أيضا الدكتورين الفاضلين إبراهيم الصلوي وعبد الله الشيبة ممن عملا على تراث الهمداني أيضا في طور الدراسة وكلاهما ينتميان إلى المدرسة الألمانية في البحث. كما أن الدكتور يوسف ترجم مقدمة المرحوم كريستوفر تُل وحرر عمله المحقِّق لكتاب الجوهرتين للهمداني. كما نظّم الدكتور يوسف ندوة دولية كبرى احتفاء بألفية الهمداني وحرر وقائعها في كتاب نفدت كل نسخه. كما كتب عنه عدداً من المقالات نشرت متفرقة ومجتمعة. وقد أحصيت جهد الدكتور يوسف في هذا الباب بحوالي عشر إسهامات سجلتها في ببليوغرافيا الهمداني التي سوف تخرج نسختها الثالثة قريبا (أرفق ما كتب في نهاية الورقة).
 
وقد اكتنفت الإشارة إلى الهمداني المنازعات والأهواء، في الماضي، وما انفكت في الحاضر. وذلك تعبير عن اجترار الخلافات القديمة وتوظيفها في الإساءة إلى عالم جليل القدر واسع المشاركة. فله باع في التاريخ والجغرافيا والفلك والتعدين واللغة والشعر، ويحتل علميا مكانة مرموقة في أهم الموسوعات العالمية. فالهمداني كبير كبير وتراثه فوق الإحاطة حتى الآن. وجهد الدكتور يوسف في تقديم الهمداني يتناسب موضوعيا مع هذه الأهمية. ولكن جهده ينأى عن الشطط والإسراف في التقديس أو التدنيس. وهذا ديدن الدكتور يوسف وميسم بحثه. ففي صيغ ترجمة الهمداني كما حررها نطالع سردية موضوعية واضحة في تدرجها منهجيا في سلم الزمان، وتنقلها في أرجاء المكان، وإلماعها إلى من أثر بها من الأعلام والأعيان. مع الإشارة أن ما يقدمه هو "محاولة سريعة"، وأنها قد "تفتح آفاقا رحبة لدراسة سيرة الهمداني". ومن الامثلة على ما لـمّا يحسم في سيرة الهمداني هو ما يلفها من الغموض في أمور الولادة والوفاة والعمر الممتد بينهما. فثمة من يرى أنه توفي عن ست وخمسين سنة كالخزرجي أي سنة 336ه/، ويرى الأكوع أنه عُمِّر أكثر من ذلك بعقد من الزمن، وهناك من يرى أنه عُمِّر حتى الثمانين. ولا يحسم الدكتور يوسف هذا الجدل وإنما يشير "أن الهمداني عاش إلى ما بعد 334ه بسنوات وربما بعد 336 أيضا ولكن ليس هناك دليل قاطع بذلك". والقضية هنا ليست لمناقشة هذا الأمر، وإنما لفهم المنهجية التي يعمل بها الدكتور يوسف والعبارة الحذرة التي يستخدمها، وهو يعلم خطر الجزم والرجم بالغيب أو الترجيح ظنا. وهناك مثال آخر هو ترجمته لـ"بلقيس" في الموسوعة اليمنية.
 
وهو ما يقودنا إلى الإشارة إن جملة من العلماء اليمنيين قد كرسوا دراساتهم للبحث عن الحقيقة الموضوعية في تاريخ اليمن، وقادوا ما يمكن أن نطلق عليه "المدرسة التاريخية"، إزاء نموذج آخر على النقيض يمكن أن نطلق عليه تجوزاً الـ"مدرسة الخرافية" في النظر والدرس التاريخي اليمني. ومعظم المنتمين إلى هذه الأخيرة ينزعون منزعا "شوفينيا" لا يخدم قيمة التاريخ ولا يراعي ألفباء كتابته. وما يهمنا هنا هو أن الدكتور يوسف يتربع على قائمة االمدرسة التاريخية العقلانية. وهنا أورد ما كتبه الدكتور يوسف عن الهمداني لعل غيري يجد به أفقا للبحث والنظر.
 
ما كتبه الدكتور يوسف عن الهمداني:
 
1. الهمداني لسان اليمن: دراسات في ذكراه الألفية، جامعة صنعاء، 1986، القسم العربي 206، القسم الإنجليزي، 189ص. [الكتاب يجمع وقائع أعمال الندوة التي عقدتها جامعة صنعاء في 19-25 أكتوبر 1982م، بمناسبة الذكرى الألفية للهمداني]، [تحرير].
2. "ترجمة الهمداني"، مجلة الإكليل، وزارة الثقافة، صنعاء، س2، ع1، 1982، ص54-63.
3. "ترجمة الهمداني: صياغة جديدة"، ضمن: عبد الله، يوسف محمد، [تحرير]: الهمداني لسان اليمن: دراسات في ذكراه الألفية، جامعة صنعاء، 1986، ص185-200.
4. سيرة الحسن بن أحمد الهمداني "صياغة جديدة" ضمن كتابه أوراق في تاريخ اليمن وآثاره، دار الفكر، دمشق، بيروت ط1، 1985، ط2 1990، ص 126-139.
5. "الهمداني وكتابه صفة جزيزة العرب"، ضمن أوراق في تاريخ اليمن وآثاره، دار الفكر، دمشق، بيروت ط1، 1985، ط2 1990، ص147-164.
6. " الهمداني في صورة الحضارة العربية الإسلامية"، ضمن أوراق في تاريخ اليمن وآثاره، دار الفكر، دمشق، بيروت ط1، 1985، ط2 1990، ص430-462.
7. "مصطلحات عربية في المعايير والأوزان كم كتاب الجوهرتين العتيقين للهمداني"، ضمن أوراق في تاريخ اليمن وآثاره، دار الفكر، دمشق، بيروت ط1، 1985، ط2 1990، ص 414-429.
8. الأعلام في كتاب الأكليل للهمداني ونظائرها في النقوش اليمنية القديمة، أطروحة دكتوراه.
9. "الحسن بن أحمد الهمداني"، الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، ط1/ 1992، ص383-385.
10. "الهمداني، الحسن بن أحمد"، الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2/2003، ج4، ص3097-3100.
 

ذات صلة