غطوا تزمتهم بثوب الإسلام.. وموقفهم من الغناء مثالاً

09:21 2021/06/29

الإنسان ميال إلى الغناء بحكم غريزة خلق عليها، وقد أثبتت بعض الدراسات العلمية أن الجنين وهو في بطن أمه، يتفاعل مع الموسيقى، ويسعد كلما أدرك أن أمه تغني.. قبل عشرة قرون تقريباً قال الفقيه الصوفي محمد الغزّالي الطوسي (أبو حامد): من لم يهزه العود وأوتاره، والروض وازهاره، فهو فاسد المزاج، ليس له علاج.. فلماذا إذن يكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي يناهض الغرائز، ويحرم الغناء، خاصة في هذا العصر الذي شاع فيه الغناء شيوع الهواء؟
 
المسألة لا تبدو هكذا، إذ هناك إسلام ضد الغناء، وإسلام مع الغناء.. فإذا أدرك المترددون والضعفاء هذا الخلاف، قوى يقينهم الديني أن الغناء حق من حقوق المسلم.
 
يكفينا أن الغناء منذ ضحى الإسلام وإلى يومه هذا، ظل موضوع خلاف داخل المذاهب السنية الرئيسية الأربعة، وفقهاء الفرق الشيعية الرئيسية الثلاث (الزيدية، الاثناعشرية، الإسماعيلية).. فهو عند بعض الفقهاء الأول والمتأخرين محرم لذاته.. أي لأنه غناء.. وهؤلاء يقولون إن الغناء هو لهو الحديث المذكور في الآية القرآنية: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم}.. وإضافة إلى ذلك يستدلون بمجموعة من الأحاديث المنسوبة لنبي القرآن تحرم الغناء.. بينما فقهاء آخرون في كل هذه المذاهب لا يعتبرون الغناء حراماً لذاته، أي لأنه غناء وكفى،  بل لأعراضه، فإن تضمن أعراضاً محرمة (أقوال وأفعال) يكون محرما، أما إذا خلا من ذلك فهو جائز شرعا.. إذ إن الغناء كلام، فحسنه حسن وقبحه قبيح.. وقالوا أيضا إن الأصل في الأشياء الإباحة، وليس في القرآن آية أو نصف آية تستثني الغناء، أو تخرجه من بين المباحات.. وأن الآية التي استند إليها القائلون بحرمة الغناء لا تؤيد قولهم، لأن الغناء شيء ولهو الحديث شيء آخر مختلف، كما أن الأحاديث النبوية التي اعتمدوا عليها تتناقض مع أقوال وأفعال النبي.
 
نعتقد أن الذين يحرمون الغناء، يجرمون المسلمين الذين عاشوا في مختلف المراحل التاريخية، دون مبالاة، أو أن تصلبهم الفكري دفعهم إلى ذلك.. وهناك وقائع تؤيد قولنا هذا، سوف نستحضر بعضاً منها.
 
الفقيه أبو المعالي الجويني (الملقب بإمام الحرمين الشريفين) سجل في كتابه (نهاية المطالب في دراية المذاهب)، الواقعة التالية، قال: نقل الأثبات من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات (يعزفن على العود أو الكمان)، وأن عبد الله بن عمر بن الخطاب دخل إليه ذات يوم ورأى عودا جنبه، فقال له: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله ابن الزبير العود، فتأمله ابن عمر، وقال: هذا ميزان شامي؟ قال ابن الزبير: يوزن به العقول.
 
وذكر الإمام المحدث الشافعي ابن حجر العقسلاني في كتابه لسان الميزان، حكاية حكاها التابعي حسين بن دحمان الأشقر، قال: كنت بالمدينة المنورة، فخلا لي الطريق وسط النهار، فجعلت أغني: ما بال أهلك يا رباب خزراً كأنهم غصاب.. فإذا خوخة (كوة) قد فتحت، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال لي: يا فاسق، أسأت التأدية، ومنعت القائلة، وأذعت الفاحشة، ثم اندفع يغني، فظننت أنه طويس (اسم مغني)، فقلت له: أصلحك الله، من أين لك هذا الغناء؟ فقال: كنت أتبع المغنين وآخذ عنهم، لكن أمي قالت لي: إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء، واطلب الفقه، فإنه لا يضر معه قبح الوجه، ولذلك تركت المغنين واتبعت الفقهاء. فقلت له: أعد (كرر الأغنية) جعلت فداك، فقال: لا، أتريد أن تقول للناس: أخذت هذا عن مالك بن أنس؟ قال حسين بن دحمان الأشقر، حينها عرفت مالك بن أنس، ولم أعلم به من قبل.
 
هذا مالك بن أنس إمام المدينة المنورة، وصاحب أحد المذاهب السنية الأربعة.. المذهب المالكي.. بدأ مغنياً، لكن أمه نصحته أن يطلب الفقه لأن وجهه قبيح، بينما يتعين في المغني حسن الصورة.
 
ثم في زمن مالك وبعده كان هناك مغنيات وملحنات مثل جميلة، عزة الميلاء، حبابة، عريب، شارية، سلامة، عقيلة العقيقية، والشمسيتان خُليدة وربيحة.. وكان هناك مغنون وملحنون وموسيقيون كثر، منهم معبد بن وهب، ابن عائشة، عطرد، طويس، إبراهيم الموصلي، إسحاق بن إبراهيم الموصلي، إبراهيم بن المهدي، وزرياب.. هؤلاء كانوا معنين وملحنين وموسيقيين، دون نكير، ولم يقل أمير أو حاكم أو فقيه دعوا الغناء واشتغلوا بالتسبيح.
 
في حياة الرسول محمد، كان في مكة مغنيات، ويوم فتح مكة أهدر دماء مغنيتين غنتا قصائد شعراء أفحشوا في سبه، فقتلت واحدة، بينما اختفت الثانية ثم شفع لها صحابي عند الرسول فقبل شفاعته.. وفي المدينة كان الغناء سائدا ومألوفا في المناسبات السارة، لكن الآلات الموسيقية اقتصرت على ضرب الدفو…