المضلون.. والمكذوب عليهم

06:38 2020/11/16

في رواية الرفيق بيشوني عرض كاتبها التركي مشهداً لزعيم اشتراكي- يساري وجماهير غاضبة يقودها إلى قرية يسكنها شعب كادح، يستغله ويتحكم به رأسماليون جشعون.. كان الرفيق قد حدث الجماهير عن مصاصي الدماء هؤلاء، وحرضهم على الاشتراك في التخلص من المستغلين الظالمين، فارتسمت في أذهان الجماهير لمناضلة صورة واضحة عن الرأسمالية والرأسماليين، لذلك ساروا وراء الرفيق بيشوني متحمسين لإنجاز المهمة النبيلة، وهي الإمساك بالرأسماليين الجشعين.. وصلت الجماهير الثائرة إلى القرية، والتفتوا نحو الرفيق الذي قادهم، ثم رجعوا خائبين، إذ وجدوا أنفسهم أمام أكواخ يسكنها فلاحون فقراء ونساء أرامل، وأطفال بؤساء، ولم يكن في القرية لا بروليتاريا كادحة، ولا رأسمالي، ولا برجوازي، ولا شيء مما صوره لهم الرفيق بيشوني.
 
نخمن أن مغزى هذا المشهد واضح، ولكن زيادة في توكيد فكرة المقال نسوق حكاية أوردها جوليان فيليكس في كتابه (تيارات الماء البحرية)، فقد ذكر أن سفينة تسمى المهد، ضلت طريقها في البحر بسبب عاصفة عنيفة، فتم تحريك فرقاطة تسمى الدجاجة الجميلة، للبحث عن تلك السفينة، وكانت عملية البحث تجري نهاراً، أي تحت ضوء الشمس.. فجأة حضر مراقب السفن ليخبر الضباط والبحارة -ومعهم جوليان فيليكس ذاته- أنه قد شاهد -بأم عينيه- زورقاً مضطرباً في مكان محدد عرض البحر.. وجه الأميرال ديسفوسي ووجه البحارة والضباط أنظارهم نحو المكان الذي رأى فيه المراقب ذلك الزورق، فشاهدوا طوافة بحرية عليها رجال خائفين ينتظرون الغوث، وهم على تلك الطوافة التي يجرها زورق.. قرر الأميرال ديسفوسي اتخاذ القرار الصحيح.. جهز قارباً مزوداً بمعدات وعليه ضباط بحرية، وأرسلهم في مهمة كبيرة هي إنقاذ أولئك الرجال المهددين بالموت غرقاً.. اقترب الضباط والبحارة من المكان فخيل لهم أنهم يرون مجموعة رجال يتخبطون في الماء ويمدون أياديهم لمغيث ويصرخون: النجدة.. النجدة.. اقترب ضباط المهمة من النقطة التي يفترض وجود الطوافة عندها، لكنهم عندما وصلوا لم يجدوا زورقاً، ولا وجدوا طوافة، وما عثروا على الرجال المهددين بالغرق الذين كانوا يمدون الأيادي ويصرخون.. لقد وجدوا عيداناً علقت بها أوراق تراكمت بفعل تيار الماء، بعد تساقطها من الأشجار الموجودة في الشاطئ!
 
حكاية الرفيق بيشوني التي أوردنا أحد مشاهدها عمل أدبي- فني، وهذه الحكاية التي سجلها البحار فيليكس، حكاية واقعية، لكن كلاهما يرينا أن الناس يظلون عرضة للتضليل طالما بقوا في حالة استجابة لمن يضللهم، حتى وإن كان هؤلاء الناس في مستوى معرفي أو علمي جيد، ولا يدركون أنهم يعملون ضد أنفسهم أو ضد مصالحهم إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن يكون المضلل قد حقق هدفه من خلالهم.. جدير بالإشارة هنا أن الكاتب الفرنسي المدهش غوستاف لوبون استخدم حكاية فيليكس لتقرير شواهد مختلفة لا تخلو من اضطراب، لكنه كان موفقاً في الاستدلال منها على حالة الهلوسة التي اعترت مراقب السفن، وتأثير هلوسته- تضليله في الذين حوله على الرغم من أن معظمهم في مستوى معرفي وعلمي أعلى منه.. أي أن مستخدماً بحرياً قليل الأهمية والمعرفة أثر في قبطان وبحارة وضباط، فقد تخيلوا نفس المشهد الذي توهمه، وأجهدوا أنفسهم في مهمة مكلفة دون وجود أي دواعٍ لمهمة من الأساس!