عبدالرقيب الوصابي يكتب: إرث البَرَدُّوني الضائع.. «لصوص في منزل الشاعر»
- صنعاء، الساحل الغربي، كتب/ عبدالرقيب الوصابي:
- 08:48 2021/02/22
تكمن الإشكالية، فيما يتعلق بتراث البَرَدُّوني الفكري والشعري العالق بعد وفاته والمتعثر عن الطباعة، في موقف الورثة اللا واعي، ومحاولاتهم الاستحواذ وفرض الوصاية أو المحاصصة لما تبقى من دواوينه الشعرية وكتبه النثرية غير المطبوعة (العشق على مرافئ القمر - رحلة ابن من شاب قرناها... وغيرها من الكتب النثرية)، غير مكترثين بمسألة أن يكون البردوني حقاً متاحاً للإنسانية كلها.
الدائرة والخروج
بالنسبة للديوانين الشعريين العالقين للشاعر/ عبدالله البَرَدُّوني: "العشق في مرافئ القمر" و"رحلة ابن من شاب قرناها"، متوافران ضمن دائرة علاقات ضيقة لا تتجاوز ورثة الشاعر، بالإضافة للشاعرين الأستاذ/ محمد القعود والشاعر الصديق/ كمال البرتاني.
أين اختفى "العم ميمون"
وللحديث عن رواية "العم ميمون" هي ذاتها السيرة الذاتية التي تحدث عنها الشاعر في أكثر من موضع، وعند اشتغالنا بتجهيزات مهرجان المبصر تواصل بي مثقف عربي أثق به وأخبرني أن البردوني دفع بالرواية إلى دار عربية للنشر قبل موته بثمانية أشهر والدار أفلست وأغلقت أبوابها ولم تطبع الرواية، وكذلك لم يتم متابعة الدار، أو من كانوا قائمين عليها لاسترجاع مخطوط الرواية.
البردوني.. لغته في ضميره
الكارثة تكمن في مصير الثلاثة الكتب الأخرى، وهي كتب فكرية ونقدية، وهي: "شاعرية الزمان والمكان في الشعر العربي" وهذا كتاب خطير للغاية يدرس فيه البَرَدُّوني الزمان والمكان من خلال الشعر غير معتمد على التاريخ، لأن التاريخ يكتبه المنتصر وتقدم الأحداث فيه على التحوير والتزييف للحقائق. أما عن الكتاب الآخر فهو "الجديد والمتجدد في الأدب اليمني" ويقع في 1800 صفحة وهو من أهم الكتب التي أنجزها البردوني وعمل على إعادة صياغتها أكثر من مرة.
ومصير الكتابين: "شاعرية الزمان والمكان في الشعر العربي"، و"الجديد والمتجدد في الأدب اليمني"، سارعت أيادي الرقيب إلى مصادرتهما وإخفائهما.
التزام بالقضايا الكبرى
أما بالنسبة لكتاب "الجمهورية اليمنية"، وهو بالمناسبة الكتاب ذاته الذي يشير إليه بعض المثقفين باسم آخر "اليمن الوحدوي" فأكاد أجزم أن الشاعر والمفكر/ عبدالله البردوني قد قام بتعديل اسم الكتاب من "اليمن الوحدوي" إلى "الجمهورية اليمنية" تأكيداً للمواقف الصارمة التي تبناها الشاعر ضد الأخطاء السياسية المصاحبة لتحقيق مشروع الوحدة والاستشراف المبكر للمستقبل المشوه الناجم عن تراكم تلك الأخطاء الكارثية.
وأجدني هنا أضم صوتي إلى صوت القائلين بطباعة هذا الكتاب واحتجازه في مخازن وزارة الثقافة.
الحقيقة تزعج الآخرين
بالنسبة للدولة، تتجلى مواقفها السلبية في الحفاظ على إرث البَرَدُّوني انطلاقاً من مواقفه التي كانت تقدم معالجات فكرية للكثير من الأخطاء السياسية الكارثية.. فالشاعر البردوني لم يتمتع بأي امتيازات خاصة أو أي تكريم يليق بمكانته الشعرية والفكرية لا في حياته ولا بعد مماته، ففي حياته أحيل على التقاعد براتب زهيد من العيب أن يُذكر، وبعد مماته لم تحرص الدولة على الاعتناء بتراثه وجمعه أو الدفع به بطريقة مستعجلة للطباعة.. هذا الإهمال نجم عنه بعد ذلك ضياع الكثير من إرثه الشعري والفكري وأدى آخر المطاف إلى انهيار منزله كإدانة حقيقية لكل مؤسسات الدولة وفضح للوجوه الدخانية في زمان بلا نوعية أو هوية حقيقية.
عنوان مرتبك
أما بالنسبة لما يحصل اليوم من طباعة مختارات نثرية أو شعرية على حد سواء، فمن الأجدر أن نقف قليلاً عند كتاب "تبرج الخفايا - تذكرات"، ففي الكتاب الصادر مؤخراً تحت أكثر من عنوان "تبرج الخفايا - تذكرات" عن مقهى ومكتبة "وسم" تركيا اسطنبول..
"وسم... مقهى ومكتبة"
ضم الكتاب آنف الذكر 44 حلقة نشرها الشاعر العبقري/ عبدالله البَرَدُّوني في صحيفة 26 سبتمبر بدءاً من 10/ 10/ 1996 م وحتى 26/ 8/ 1999 م ، وتعد هذه السلسلة من الكتابات أو التذكرات كما جاء في عنوان الكتاب من آخر الأعمال والذكريات التي كتبها الشاعر/ البردوني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في زمانه.
وجمع هذه "التذكرات" بين دفتي كتاب يسهم إلى حد بعيد في كشف خبايا حياة الشاعر وحياة معاصريه، كما سيجد القارئ في ثناياه تعليقات للشاعر على زمنه وأشخاصه وحوادثه، كما تظهر في مواضع متفرقة منه لفتات وذكاء وسخرية وملاحظات تدل على نباهة الشاعر وسرعة بديهته.
ذر الرماد في العيون
هذه سيرة ذاتية مختصرة للكتاب، أي أن قيمته المعرفية تكمن في توثيق واختيار الحلقات الـ 44 حلقة عن حياة الشاعر وذكرياته، وهي في إطار المتاح وكل الذي قام به الصديق الشاعر/ محمد القعود اختيار وجمع هذه الحلقات وإخراجها للمتلقي في هيئة كتاب جديد للبردوني..
جهد مسبوق وضجيج مفتعل
وعلى ما في هذا الجهد من عناء ومشقة إلا أنه جهد مسبوق، فهناك من سبق القعود إلى جمع هذه الحلقات ونشرها في كتاب وهو الدكتور/ حيدر غيلان، وأتذكر حينها أن القعود صعد الموقف والتجأ إلى وزارة الثقافة لمنع صدوره وانتشاره وأقام الدنيا حينذاك ولم يأذن لها القعود بالقعود..
تساؤلات تبحث عن أجوبة
ولكن السؤال الذي يضع نفسه هنا والآن، ما الذي يريد القعود قوله وفعله من خلال هذه المختارات سواءً النثرية كما في هذا الكتاب أو الشعرية كما سنراها في الكتاب الآخر "الطواف" الصادر عن مقهى ومكتبة "وسم" كذلك؟
هل يعد هذا ذراً للرماد في عيون المتلقين، ومحاولة عابثة لإسكات الأصوات المنادية والمطالبة باستعادة إرث البردوني الضائع، وضرورة التمكين من طباعته وإخراجه للنور باعتباره حقاً متاحاً للجميع ومن غير المعقول فرض الوصاية عليه وتحوير دلالته وسياقاته حسب ما يرتضيه مزاج القراصنة والأوصياء..؟!
وهل معنى ذلك أن هناك توجهاً سياسياً متديناً يقف وراء طباعة هذه المختارات وهو من يملي هذا النوع من الوصاية اللا أخلاقية في حق شاعر متسع بوفرة البردوني؟
البَرَدُّوني ظُلم حياً وميتاً
ثم ماذا عن مصير إرث البَرَدُّوني الضائع والذي لم يسبق له النشر على واجهات الصحف والملاحق الثقافية ولا على هيئة كتاب مقروء، وهل سيكون مصير هذه الكتب الضائعة حتى كتابة هذه السطور على هذا النحو من العناية والاحتفاء؟
أتمنى أن يكون الوضع كذلك...
* عبدالرقيب الوصابي : ناقد وأديب وباحث يمني ومهتم بشعر وسيرة وإرث شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني.