05:52 2024/11/21
09:53 2023/06/22
تسجيل مبتور… أعاد للأذهان دور علي عبدالله صالح القومي ولمكانة الدولة اليمنية آنذاك
12:22 2025/12/17
لم يكن تسريب مكالمة هاتفية قديمة جمعت الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، برئيس المكتب السياسي لحركة حماس، آنذاك، خالد مشعل، كشفاً صادماً كما أُريد له أن يبدو، بقدر ما مثل محاولة متأخرة لإعادة تشكيل الوعي العام عبر اقتطاع لحظة من سياقها التاريخي، وإعادة تحميلها دلالات لم تكن جزءاً من معناها الأصلي.
المكالمة التي تعود إلى عام 2008، جرى إخراجها من زمنها السياسي، وإسقاطها على واقع وزمن مختلفين، في محاولة لتشويه إرث رجل دولة تشكّل عبر عقود، غير أن نتائج التسريب جاءت معاكسة تماماً، وأعادت فتح النقاش حول ثوابت صالح القومية وموقفه التاريخي من القضية الفلسطينية.
ما ورد في المكالمة لم يكن تراجعاً عن دعم فلسطين، ولا تشكيكاً بعدالة قضيتها، لكنها عبرت بوضوح عن مقاربة سياسية عقلانية ترى أن القضايا العادلة لا تُدار بمنطق النيات والشعارات، بل بحساب النتائج وحماية الأرواح.
سؤال صالح عن جدوى الصواريخ لم يكن إنكاراً للقضية وللمقاومة، بل اعتراضاً على تحويل الشعب الفلسطيني إلى وقود لمغامرات غير محسوبة، لا يمتلك أصحابها أدوات التحكم بمآلاتها.
في هذا الجانب، بدا الرئيس صالح متقدماً على زمنه، مدركاً لطبيعة السلوك الإسرائيلي القائم على البحث الدائم عن الذرائع، وتحويل أي تصعيد غير مدروس إلى فرصة لتوسيع دائرة الإبادة بحق المدنيين، وهو ما أكدته لاحقاً الوقائع المأساوية في قطاع غزة، حيث دفع الأبرياء ثمن خيارات لا يملكون قرارها.
مضمون المكالمة لم يكن موقفاً معزولاً، لكنها جزءٌ من سلوك دولتي متكامل انتهجه اليمن خلال سنوات حكم صالح.. فقد حافظت صنعاء، آنذاك، على حضور سياسي فاعل في الملف الفلسطيني، واحتضنت قيادات فصائلية، وساهمت في جهود المصالحة، وربطتها علاقة خاصة بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
في خطاب الدولة اليمنية، لم تكن فلسطين ورقة للمزايدة أو المتاجرة، بل ثابتاً «قومياً وأخلاقياً»، عبّر عنه صالح قولاً وفعلاً، دون ارتهان لمحاور إقليمية، أو خضوع لإملاءات خارجية.
هنا تحديداً يتكشف فقر الرهان لدى مليشيا الحوثي، التي ظنت أن تسجيلاً مبتوراً قادر على تقويض إرث سياسي تشكَّل عبر عقود.. فالجماعات التي لا تمتلك تجربة دولة ولا ذاكرة مؤسساتية، تتعامل مع السياسة بوصفها فضيحة محتملة، لا مساراً تاريخياً متراكماً.
لكن التاريخ، كما أثبت هذا التسريب، لا يُدان بالتسجيلات، لكنه يُقرأ بالمسارات؛ وما كُشف، من حيث لا يريد المُسرّب، لم يكن إدانة لصالح، بل إعادة تقديمه بوصفه رجل دولة يفكر بمنطق الجماعة لا الفصيل، وبمنطق الدولة لا العصابة.
في المقابل، فضح التسريب –دون قصد– مأزق من يستخدمون القضية الفلسطينية اليوم كغطاء رمزي لمشاريع تتناقض معها جوهرياً... فاستدعاء القوى الأجنبية إلى البحار العربية وشرعنة الوجود العسكري الخارجي عبر مغامرات غير محسوبة، لا يمكن تغطيته بخطاب صاخب عن المقاومة.
السياسة، في نهاية المطاف، تُقاس بما تحميه لا بما تهتف له، وبما تحقنه من دماء لا بما تستثمره من مآسٍ.
علي عبدالله صالح لم يكن تابعاً لمحور ولا ملحقاً بمشروع إقليمي، كان يرى أن استقلال القرار شرط لأي موقف قومي حقيقي، ولهذا تجاوز حضوره العربي حدود الجغرافيا، لا لقوة اليمن المادية بل لحرية قراره.
والمفارقة أن الرجل الذي حاولوا تشويه تاريخه القومي العربي النضالي، أعادوا تقديمه –من حيث لا يدرون– أنموذجاً نادراً لسياسي يفكر بعقل الدولة، ويتألم فعلياً للدم الفلسطيني، لا يتخذه رصيداً رمزياً قابلاً للصرف.
الحديث هنا ليس عن مكالمة هاتفية بقدر ما هو عن معنى أعمق: معنى فلسطين، ومعنى الدولة، ومعنى السياسة ذاتها.
«يخسر دائماً من لا يملك إلا الضجيج، بينما ينتصر –حتى بعد غيابه– من ترك أثراً متماسكاً لا يمكن فصله عن سياقه، ولا تشويهه بأدوات رديئة».
