”توطين الجوع“.. الرغيف تحت قبضة الحوثيين

  • خاص - الساحل الغربي
  • 03:49 2025/01/08

عندما تتأمل قرار مليشيا الحوثي بمنع استيراد الدقيق عبر موانئ الحديدة، قد يتبادر إلى ذهنك مشهد مثالي لدولة تهتم بدعم الإنتاج المحلي، تسعى بخطى ثابتة نحو الاكتفاء الذاتي.. لكن الواقع، كما عوّدتنا هذه الجماعة، يروي قصة أخرى، تُهيمن عليها سياسات القمع والتجويع والدمار؛ وكأنما "المواطن" بات مجرّد حقل تجارب لممارسات الفوضى وتطبيقات الخراب.
 
في بيان براق خالٍ من المنطق، أعلنت وزارة الاقتصاد الحوثية أن هذا القرار يهدف إلى ”توطين الصناعات المحلية“.. عبارة تذكّرك بفقاعات الصابون، جميلة لكنها فارغة تماماً؛ إذ كيف يمكن "توطين" صناعة الدقيق في بلد بالكاد يستطيع أن يُطعم نفسه؟ بلد طحنته الحروب، ليس فقط بالمعنى المجازي بل حرفياً، حتى باتت معدته خاوية وأرغفته شبه معدومة.
 
لا غرابة أن يظهر القرار وكأنه خطة عبقرية لجلب الأمن الغذائي.. فبعد عقد من الحروب، يبدو أن الحوثيين يعتزمون تصدير "الوطنية الاقتصادية" إلى العالم؛ لكن الحقيقة أن هذا القرار لا يعدو كونه دعوة مفتوحة للسوق السوداء لتلتهم ما تبقى من رغيف المواطن.
 
"منع استيراد الدقيق" يعني ببساطة احتكار وتسليم مفاتيح السوق إلى سماسرة الجوع، حيث يتحول الرغيف إلى حلم باهظ الثمن، ويصبح المواطن البسيط زبوناً دائماً لتجار الموت البطيء؛ وكما قال أحدهم: "قرارات كهذه تُذكّرنا بأن المليشيا تتقن فن التجويع، تماماً كما تتقن فن الدمار."
 
ربما علينا أن نصدق أن الحوثيين سيبنون مصانع دقيق تنافس كبرى الشركات العالمية.. ربما سيبدأون بتصدير دقيق ”صعدة الفاخر“ قريباً! لكن قبل أن نحلم بهذا الإنجاز الوهمي، دعونا نعود إلى الواقع: أين هي تلك المصانع؟ وأين هي الموارد؟ الحقيقة المرة أن القرار لا يخدم سوى فكرة واحدة: "التحكم الكامل في كل شيء، حتى في الرغيف".
 
بل الأكثر إثارة للجدل أن المليشيا، التي تتحدث عن "توطين الصناعات"، كانت قد أوقفت سابقاً استيراد الغاز اليمني من مأرب لصالح الغاز الإيراني، وكأن "توطين" الصناعات في اليمن يبدأ دائماً من طهران! هل يمكن اعتبار ذلك "استراتيجية وطنية" أم مجرد تدوير لعجلة الهيمنة الإيرانية على الاقتصاد اليمني؟ يبدو أن الحوثيين اكتشفوا أن أقرب طريق لتحقيق الاكتفاء الذاتي هو القضاء على الذات أولاً.
 
يذكّرك هذا القرار بمشهد من مسرح العبث، حيث تُصدر القرارات باسم الشعب، لكن المواطن آخر من يعلم.. قرارات مثل هذه لا تنفع سوى قلة منتفعة تجيد السباحة في بحر المعاناة؛ أما المواطن البسيط، فهو كالمتفرج المأخوذ بالتصفيق لمسرحية لا يفهم منها سوى أن دوره ينتهي دائماً بالجوع.
 
ورغم الادعاء بأن القرار يهدف إلى دعم الإنتاج المحلي، فإن الجميع يعلم أن الحوثيين لا يملكون خطة ولا إرادة حقيقية لإنشاء مصانع؛ الحقيقة أنهم يتقنون خلق الأزمات بدل الحلول، وتحويل الاقتصاد إلى ساحة حرب أخرى، حيث يتحول الرغيف إلى "هدف استراتيجي" يتنازع عليه تجار السوق السوداء، فيما المواطن يقف في طابور طويل من الخيبة.
 
هكذا تسعى المليشيا لتثبيت سيطرتها عبر سياسة ”الجوع أولاً“.. فكلما زادت معاناة الناس، زادت فرص السيطرة عليهم، تماماً كما يفعل صياد ماهر يُضعف فريسته قبل الانقضاض عليها؛ أما الحديث عن "توطين الصناعات"، فهو أشبه بوعدٍ ببناء جسورٍ في الصحراء: يثير الآمال لكنه لا يؤدي إلى شيء سوى سراب آخر.
 
في مشهد كهذا، يبدو الأمل بعيداً، لكنه ليس مستحيلًا.. فمن بين أنقاض القرارات العشوائية، تبرز قوة المواطن الذي يدرك أن قوته الحقيقية تكمن في رفض الانقياد لهذا العبث؛ ربما حان الوقت لإعادة تعريف مفهوم ”الصناعة الوطنية“، ليكون أولها صناعة قرار يُنقذ اليمن من هذا الجوع المفروض والمخطط له بعناية.
 
"الرغيف ليس مجرد خبز؛ إنه الكرامة.. وحين يُحتكر الرغيف، يُحتكر الوطن".

ذات صلة