عندما يصبح النهب سياسة والنهابون سلطة: نصف راتب ونصف كذبة

  • خاص - الساحل الغربي
  • 04:08 2025/01/05

إن ما يحدث في صنعاء اليوم ليس سوى عرض مسرحي سخيف، حد الهزل مليء بالوعود الكاذبة والتهديدات المبطنة، تختار جماعة الحوثي أن تحتفل بـ”إنجازات“ ربما تفوق في سخافتها خيال أكبر الكتاب الساخرين.. ففي الوقت الذي تُمارس فيه سيطرة دكتاتورية على كل مفصل في حياة المواطن، تأتي الوعود بسداد ديون المودعين الصغار، الذين كانو يحلمون بنهاية سعيدة لأموالهم المعلقة منذ سنوات.
 
تخيلوا الفكرة؟ المليشيا الحوثية، التي تحتفظ بالعديد من الحسابات الجارية التي لا تحصى، قد قررت في خطوة تاريخية أن تقضي على أرباح الـ 20 عاماً الماضية، ثم تقدم لهم شيكاً بمقدار 200 دولار شهرياً! نعم، 200 دولار شهرياً، مما يعني أن "الوفاء" بهذه "الدَين" سيتطلب حوالي 17 عاماً؛ ولكن لا تقلقوا، فالأمر سيظل طيباّ طالما كان البنك المركزي في صنعاء يمرر كل هذا عبر "آلية تسديد دقيق"!
 
في هذا السياق، يصطف أولئك الذين "استثمروا" في أذون الخزانة ضمن فئة المودعين المتميزين.. ومع ذلك، يكمن الجمال في الطريقة التي تحول فيها المليشيا هذه الودائع إلى "حسابات جارية"، بما يعني أن المودعين لن يتلقوا أرباحهم المتراكمة، بل سيتم تحفيزهم "بدفع أقساط" لمدة عقدين من الزمن؛ وبالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أن هذه خطوة "حكيمة"، فلا شيء يمكن أن يكون أكثر سخرية: إنهم يشتكون من فوات الفوائد التي تم "شطبها"، كأنما كان هذا القرار يشمل فئة من الرفاهية المالية المفرطة.
 
لا تتوقف المأساة عند هذه الحدود؛ فالمليشيا الحوثية لم تكتفِ بمصادرة الأرباح التي تعود للمودعين عبر تحويل الودائع إلى حسابات جارية، بل اختارت أن تبتكر "اللامعقول"؛ فبدلاً من توفير حلول للاقتصاد، وللتجار، وللمواطنين، هم بصدد إطالة أمد الأزمة بإجراءات تُعرَف بأنها عمليات "طحن" للطبقات الفقيرة، والذين يعانون أشد المعاناة بسبب الجبايات وغياب السيولة.
 
لكن ما يثير السخرية أكثر هو تداعيات هذا القرار على البنوك نفسها.. القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين يعاني من حالة شلل تام، ومن المؤكد أن أي محاولة لإنعاشه ستنتهي بكارثة؛ فإلغاء الفوائد على أذون الخزانة والسندات الحكومية لن يؤدي سوى إلى تفاقم أزمة السيولة؛ فبينما يواصل الحوثيون فرض الأسعار التي لا يمكن تبريرها في ظل انهيار اقتصادي شامل، تقترب قيمة الديون من أكثر من 9 مليارات دولار.
 
أما في مسألة الموظفين الحكوميين، فالمشهد لا يختلف كثيراً.. فبينما ينتظر الموظفون بفارغ الصبر نصف الراتب، يبدو أن الأمر تحول إلى "حفلة" سياسية هدفها تلميع صورة حكومة تُصر على اللعب بمصير المواطنين؛ يتفاخرون الآن "بصرف نصف راتب"، ولكن من وجهة نظر المواطن، هذه نصف الحقيقة فقط؛ كيف لا، وهؤلاء الذين كانت لهم حقوق ثابتة من عرقهم وتعبهم طيلة سنوات، أُغتصب حقهم في الراتب منذ 8 سنوات، واليوم يُقدَّم لهم فتات "مساعدة" تحت شروط قاسية؛ يلتزم فيها الموظفون بتقديم تقارير شهرية عن حالهم، وكأنما يستطيع الموظف البائس التجديد والبقاء على قيد الحياة في مثل هذا المأزق! والنتيجة؟ إحلال موالين للجماعة بدلاً من الموظفين الحقيقيين، مع الاستمرار في الممارسات الجائرة التي تهدف إلى التحكم بمصير هؤلاء المظلومين؛ وكأننا في مسرحية حقيقية نعيشها، حيث يكون الوزير هو الممثل الوحيد الذي يحاول الخروج بنهاية سعيدة، بينما تتناثر "الوجوه العابسة" في زوايا هذه المأساة.
 
ويبدو أن طوفان الجبايات من قبل الحوثيين لم يكن كافياً، فبدأوا بـ "تصفية" الموظفين، بما فيهم الذين هُجّروا بسبب حروبهم العبثية، واستبدلوهم بموظفون موالون لهم؛ من هنا يصبح الاستحواذ على حياة الناس وأموالهم استراتيجية مكشوفة، ولكن الأدهى أن المليشيا لم تكلف نفسها حتى عناء تجميل هذه السياسات الجائرة المقيتة بشيء من الشفافية أو الحس الإنساني.
 
وفي خضم هذا كله، تنتشر المعارك الإعلامية داخل صفوف الحوثيين أنفسهم.. فبينما يُطلق البعض حملات تهليل واحتفال بنصف الراتب، نجد آخرين يفضحون الأكاذيب والخداع الذي تُحيكه الجماعة؛ أحد المعلقين تساءل، كيف يمكن أن يكون نصف راتب في ظل هذا الواقع المُر، هو الحل؟ إذ أن المستحقين ليسوا سوى مجرد ضحايا لصراع داخلي مرير بين قادة المليشيا الذين يتصارعون على منصات إعلامية تُحسن صورتهم. 
 
الإنجازات السياسية التي تبجّح بها مسؤولون حوثيون عبر قنواتهم الإعلامية، تحوَّلت إلى مادة للسخرية؛ تغريدات هنا وهناك تفتقر إلى الحد الأدنى من الجدية، والوزراء يتهامسون عبر منصات التواصل الاجتماعي في مشهد يُذكرنا بأعمال "التمثيل" أكثر من كونها مسؤوليات؛ وفي الوقت الذي يشدّد فيه وزراء ”سلطة الأمر الواقع“ على شروط دقيقة لصرف الرواتب، يبدو أن "المكر" هو السيد الأول في هذا اللعبة السخيفة.
 
كيف يمكن للمرء أن يصدق أن هؤلاء الذين يروجون للمظلومية يمكنهم أن يحققوا أي تقدم؟ كيف يمكن لمجموعة إرهابية قامت على جثث الموظفين والقتلى أن تدّعي الإصلاح؟ إن الحديث عن سداد الديون والرواتب لم يعد سوى لعبة جديدة في مسرحية طويلة من الأزمات المتراكمة، التي كان أول ضحاياها المواطن اليمني، وآخرها "الوعود الجوفاء".
 
أمام هذه الفوضى، لا يمكن أن ننسى أن المواطن المطحون هو من دفع الثمن؛ فكل كلمة وكل "حل" يأتي من هؤلاء، هو بمثابة دفع آخر للناس نحو هوّة اقتصادية وسياسية عميقة.

ذات صلة