نساء «الحالمة» على جبهة اليمن الجمهوري.. ملحمة «امرأة من تعز»
- تعز، الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
- 01:29 2022/02/19
المرأة في دائرة الحرب: قصة الشهيدة أم الشهداء
نساء تعز.. جزء من الحرب وتفاصيلها..
امرأة وثلاثة من أولادها ضحايا القناصة في تعز
يُقال لكل زمن رجاله، ولكل حرب رجالها.. كلمات تُرددها الألسن، وحكمة لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة تجارب كثيرة.. فما من حرب استعرت نيرانها إلا ووجدت رجال القوم يتجهون نحو ساحة المعركة.. البعض يتكفل بقيادتها، والبعض الآخر يصير وقودًا لها.. عدا في تعز فقد كسرن نساء المدينة تلك العادة أو القاعدة التي تفرض بقاء المرأة خارج دائرة الحرب، ليصبحن بمشاركاتهن جزءاً منها.. واحدة حملت البندقية وقاتلت، وثانية كانت مهمتها الاستطلاع والرصد، وثالثة تكفلت بإدخال المواد الغذائية.. ورابعة جادت بمالها وذهبها، وخامسة جعلت من بيتها مددًا للمقاتلين.. توزعن المهام، تجرعن المُعاناة واقتسمن التضحيات وصِرن من تفاصيلها.
في هذا التقرير سنسلط الضوء على دور المرأة في الحرب، وكيف لعبن أدوارًا ومهمات مُتعددة.. هنا قصة امرأة أنموذجية في الشجاعة والقتال، في السخاء والمدد، في الصبر والصلابة، وفي الدفاع عن الكرامة.. المرأة التي ضَحّتْ بنفسها وأولادها وهي تُقاتل في سبيل حماية المدينة.. إنها والدة إبراهيم المُحمدي، خامس ضحايا القناصة.
"قُنصتْ والدتي وهي تحمل الصبوح لأفراد الموقع.. سجدتْ فوق الأكل وتوفيت".
مهمات مُتعددة
عند استذكار تفاصيل القصص المؤلمة، عليك أن تُنحي قلبك جانبًا إن كنت مُستمعًا أو قارئًا.. أما وأنت طرفًا مُتأثرًا فشرح الحادثة قد يوقظ غصة بداخلك.. هذا ما بدا لنا حين استهل مُعتصم المُحمدي حديثه عن والدته بدمعة توضح مشهد القنص الأليم، الذي يرفض مُغادرته، وكيف يغادره وهو ما زال يرى أمه حتى اليوم ساجدة على مائدة الأكل تنزف دمًا ثم تُفارق الحياة وسط حزن أولادها والمقاتلين الذين كانت تمدهم بالطعام والشراب.
يضيف: "قبل ما تُقنص بدقائق، رأت بعض الأفراد استيقظوا من النوم قبل الظهر (أصحاب دوام الليل) فراحت إلى البيت تجيب لهم فطور.. خرجت تحمل الصبوح وعندما قطعت الشارع المؤدي إلى الموقع أصابها القناص بطلقة دخلت من الكلية اليسرى وخرجت من اليمنى وتوفيت مباشرة". أن تُفارق والدتك الحياة أمامك، وأنت لا تجد ما تفعله لإنقاذها فذلك الوجع الكبير، والعذاب الذي لا يتوقف عن تأنيب الضمير وملامة الروح طوال حياتك.
مُخلص طاهر، خمسينية العمر أخلصت حتى لحظاتها الأخيرة.. امرأة لم يتكرر وجودها، ولن يكون لها نسخة ثانية.. إنها واحدة من أقوى النساء، بدأت حربها مع قناص الميليشيا منذ أن خطف روح ولدها الأصغر طارق، 14 عاماً، إلى داخل منزلهم في بداية الحرب.
تخيل طفلاً بجوار والدته، يتحدثون بطبيعية وهدوء ثم تأتي طلقة من حيث لا يعلمون، لتستقر في رأس الصغير، وتتركه هامد الجسد.. لا تكاد الأم تستوعب المصيبة التي حلّت بصغيرها، حتمًا صرخت وبكت كثيرًا من شدة فجيعتها، هذا إن لم تُصب بالجنون.. ما سبق ليس خيالًا، بل مشهد حقيقي حدث ذات يوم لمُخلص التي صارت منذ تلك اللحظة تُردد "هاتوا القناص، سأُقطِّعه بدل ابني" بهذه الطريقة بدأت حربها ثائرة الدم، لا تعلم أن قاتل ولدها ربما يكون قاتلها في قادم الأيام.
نوبة مُعسكر الأمن المركزي، مُطلة على حي
لم تكن صدمة الأم بقنص ولدها إلا شرارة للكثير من المواقف، وبابًا للمشاركة في هذه الحرب.. فتحت منزلها وجعلته مصدر زاد وتمويل لأكثر من عشرين مُقاتلًا في جبهة "الفتح" التابعة لـ"كلابة" بقيادة ولدها مُعتصم: "أمي دعمت كثيراً خصوصا أيام كنا مُحاصرين لا نملك تغذية ولا شيء.. تقريبًا سنة ونصف ونحن نأكل من بيتنا.. كان أبي يشتغل بالسعودية ويرسل بمصاريف، وأمي تتكفل بأكلنا وشربنا، أنا والأفراد".. "بعد تشكيل الألوية العسكرية، وجاءت التغذية، كانت تأخذها وتخرج لنا الصبوح والغداء للموقع، عملت معانا كثير، الرحمة لها". ليست أم مُعتصم فحسب، إنما أمًا لجميع المقاتلين كما كانوا ينادونها.
ما كانت تقوم به مُخلص، ربما يثير لديك الاستغراب والدهشة، لكن وأنت في مدينة تعز عليك أن تتوقع المزيد، فقد اقتضت الحاجة ذات يوم على الأم أن تخوض مهمة الاستطلاع على مواقع العدو، فاتخذت من شكلها حطّابة، تصعد الجبل لجمع الحطب.
يتذكر مُعتصم لـ "الساحل الغربي":
"مرة من المرات طلعتْ إلى موقع الحوثيين. وبيدها عَطِيف (فأس) وكأنها تبحث عن حطب، لأن الغاز كان معدوم.. اثنين من الحوثة شافوها، وصاح أحدهم: "يا حجة، امشي لك من هنا" ردت: "بأخذ لي حطب، وأنزل". حملت الحطب ونزلت تقول: "فرصتكم اطلعوا لهم، في اثنين، واحد يقرأ ملزمة، والثاني راقد". حينها طلع الأفراد وقتلوهم وسيطروا على التبة".
تنقلت هذه المرأة من مهمة لأخرى يرافقها في ذلك هيبتها ومكانتها وسط الحي الذي تسكنه.. إذ كانت تتمتع بشخصية قيادية، قوية الحضور، وشجاعة. ومن العمل بمفردها توسعت إلى العمل الجماعي مع نساء الحي في مهمة تشبه هذه المرة مهام التوجيه المعنوي وفق حديث مُعتصم: "جمعت النساء وقالت لهن: "أني فتحت صندوق السلاح حق زوجي وسلحت أولادي الثلاثة عشان يقاتلوا الحوثي.. أنتن قَدِّمين الذي تقدرين عليه.. الذي عندها لقمة تجيبها، بتشبع بطن فرد.. وتابعت: أي واحدة بتشوف حوثي يقفز لفوق بيت أو يتسلل، تتصل لي وأني ببلغهم".
ويستطرد الرجل: "أي حوثي كان يحاول يقفز بالليل من فوق سور الأمن المركزي، أو يتسلل للحارة، يتصلوا لنا، وما هي إلا ثلاث دقائق وتسمع الرصاص تجاهه كاشف. الحوثيون جننوا، قالوا قد معانا نواظير ليلية، وأسلحة ومعِدّات، ونحن ما معانا إلا مجهودنا".
صحيح أن الإنسان صانع الأحداث، والقادر على قلب موازين كل المُعادلات سواءً السياسية أو العسكرية.. ففي كلتا الحالتين يُعد القائد قائدًا متى ما التفَّ حوله أفراده، وكان له قاعدة شعبية وحاضنة جماهيرية في أماكن ومقرات تواجده.. لكن ليس كل قائد هو عسكري، وليس كل عسكري هو قائد.. فقد تكون المرأة قائدة بلا عسكرية، لها أفرادها ولها أتباعها ومناصروها.. وهذا ما وجدناه عند مُخلص التي شكّلت نُقطة تمحور لجبهة الفتح، دعما واستطلاعا وتوجيها معنويا للقطاع النسائي.. هي صاحبة الكلمة المسموعة والمهمات الحساسة، استطاعت أن تلفت انتباه الأهالي، وتوحد صفهم لمقاتلة الحوثي، وتأمين المنطقة والعيش بهدوء.. الهدوء الذي أصبح حلمًا لدى ساكني هذا المكان.
حارسة الموقع
سكنتْ مُخلص الجبهة دون التخلي عن منزلها القريب من خط النار، الذي يُقابل جويًا نوبة الأمن المركزي، مُعسكر الحوثيين.. حاربتْ بأولادها الثلاثة، ورافقتهم بالطعام والشراب، ولم تكتفِ بذلك، ففي الوقت الذي غاب فيه المقاتلون نابتْ مكانهم، وحلّتْ مَحلّهم، وبالتالي لم تتردد عن القتال.
بيوت كلها متارس.. في كلابة
عادة كانت الميليشيا تلجأ إلى الهدنة لأيام بعد كل عملية تنفذها على كلابة، يستعيدون نَفَسَهم الحربي ربما.. عندها كان مُقاتلو المقاومة يتركون المتاريس -في بداية الحرب- بمبرر هدوء المعارك، والحاجة إلى زيارة أسرهم وترتيب أمور تخصهم طبقا لما أكده القائد مُعتصم: "الشباب كانوا يمشون في بعض الأيام.. واحد عنده مرض، وواحد يزور زوجته، كنت أبقى أنا وأخي ماجد وحدنا في المترس، يستلم الليل وأنا أداوم بالنهار.. وإذا أنا بخرج، أقول لأمي امسكي البندق لو حصل شيء".
إقرأ أيضاً:
- ملف (8) - إنسانية الحالمة «رهام البدر» في ذكرى قنصها: موثِّقو الحرب.. ضحاياها!
- يمنيات في مواجهة الكهنوت- مروان يروي قصة أصيلة ونصيرة الدودحي
وفي يوم مُختلف بحسب مُعتصم، فإنه خرج وأولى والدته شأن الحراسة كالعادة، لكنه سُرعان ما سمع صوت الرصاص، فعاد إلى والدته ليجدها في حالة استنفار لمجرد أنها رأت فردًا حوثيا، صغير السن، مجردا من السلاح يتسلل من موقعه وقت الظهيرة.. يخطو ببطء، يتوقف، يتلفت من حوله وكأن مهمته الاستطلاع. كانت الأم بجوار بيتها حين رأته، ولم يكن أمامها سوى التعامل معه بهدوء وبديهية، وبإشارة مُحذرة منها مفادها "ابتعد وإلا سيقتلونك، إنهم قريبون، بجوار المنزل".. تُحذّره بالرغم من أن المكان يخلو من المقاتلين، تُرعِبه ليتراجع، لكنه ظل واقفا في مكانه.. ونقلًا عن ابنها فإن والدته عادتْ إلى البيت وأخذتْ السلاح ثم صوبته تِجاه الفرد المُتسلل ففزع لصوت الرصاص، وعاد هاربًا حافي القدمين.
عمارة الجهيم، يتمركز فيها قناص حوثي بحسب أهالي كلابة
هكذا كانت تتولى الحراسة في كل مرة يخرج ولدها إلى حين عودته.. لم تترك فرصة لأي أحد يُحدث خرقًا في صفوفهم. وكثيرة هي المواقف التي حكاها لنا الآخرون عن صمود وحماس هذه المرأة، وصبرها العجيب.
أسرة كلها ضحايا
"كلابة" ندوب واضحة.. رُكام الحرب، ودمار المنازل.. تلك المنطقة التي كانت يومًا مُزدحمة بالسكان صارت أشبه بغابة واسعة فيها الأشجار نمت وتنمو بجوار البيوت وأزقة الحي وأرصفة الشوارع، وإن دل ذلك فإنه يدل اليوم على مكان هُجِّر ساكنوه بالأمس.. المكان ذاته الذي سكنته مُخلص، وعُرفت فيه بـ"المُقاتلة والدة المُقاتلين" حتى سقطتْ في فبراير من العام 2017 شهيدة القناص.. لقد تركت بصمة في أذهان من عرفوها.
"الشهيدة، أم الشهداء".. هكذا كُتِب على قبرها بعد أن قدمت نفسها وثلاثة من أولادها ضريبة لحرب القناصة في كلابة.. ولأن شوارعها مفتوحة فقد وقع سكانها في ملعب القناص.. يتجول ببندقيته بين الساكنين بحرية تامة، يطلق رصاصته متى ما أراد قنص حياة شخص ما، دون أن يثنيه أحد.. إنه يشبه حَكَمْ مُباراة يتجول ببطاقاته الصفراء والحمراء وسط اللاعبين في أرضية الملعب لطرد من يُخالف، بعكس سابقه الذي يُقَرِّب أجلك.
"طارق، إبراهيم، وماجد"..
ثلاثة ورابعهم أمهم سقطوا ضحايا قناصة الحوثي..
أولهم طارق، الابن الأصغر لـ"مُخلص" والذي قُنص إلى جوارها.. إبراهيم أكبر أولادها، والذي كان بطل قصتنا في الحلقة السابقة.. أما ثالثهم "ماجد" فقد لحق بوالدته بعد شهرين من حادثة قنصها.
كان الأخير قائدًا لـ"موقع الشميري" في كلابة.. وقصة قنصه كما رواها، محمد الزئبق، أحد شاهدي الحادثة: "قُنص وهو يسعف مُؤذن جامع الشيباني بعد تعرضه للقنص في الرجل.. تركه يصرخ في الشارع لقمة لقنص المُسعفين.. القائد لما سمع استنجاد الرجل، قفز يرمي بيد واحدة وسحب الضحية بيده الأخرى، وأثناء رجوعه أصيب بطلقة في الرأس، وتوفي".
أسرة.. نصف أفرادها ضحايا، ومن بقي تشتت حياتهم وانقلبت إلى بؤس وكآبة بعد أن فقدوا والدتهم.. تركوا منزلهم ليعيشوا أماكن غير تلك التي حرمتهم كل غال -حد تعبيرهم.. حرب تشبه جهنم حلَّت على هؤلاء، لم تكتفِ بالخسائر الباهظة التي لحقت بهم، بل ما زالت تُردد هل من مزيد.. وقناص الحوثي يشبه الحطّاب مع فارق أنه يجمع الأرواح البشرية، لا الحطب.
ولو كان سهماً واحدًا لاتقيته، لكنه سهم وثانٍ وثالثُ.. كما لو أن هذا البيت الشعري يُجسد طعنات الأب وحزنه على فقدان زوجته وأولاده الذين تركوه بلا استئذان، ورحلوا على غفلة منه، ففي الوقت الذي كانوا فيه يُقاتلون الحوثي، كان يعمل في السعودية ويمدهم بما يحتاجونه.. غربة أفقدته النظرات الأخيرة لوجوه شُهَدائه، والسير في جنازاتهم.. كما حرمه بُعدَه الوداع الأخير، ذلك الوداع بالأحضان والقُبلات الباكية، وهذا ما يزيده حزناً.