الحوثي.. لعنة الطغاة التي لا تتعلم من التاريخ

  • خاص - الساحل الغربي
  • 04:27 2025/03/05

 
منذ اللحظة التي انقض فيها الحوثيون على الدولة، كان المشهد واضحاً لمن قرأ التجربة الإيرانية في لبنان والعراق وسوريا؛ تحالف هش يبدأ بالتغلغل داخل المؤسسات، ثم تقويضها من الداخل، ثم إعلان السيطرة الكاملة تحت ستار واجهات شكلية توحي بوجود دولة، بينما القرار الفعلي يأتي من طهران.. لكن الحوثي، الذي توهّم أنه قادر على تكرار هذا النموذج في اليمن، لم يدرك أن الأرض تختلف، وأن أدواته ستظل ناقصة، وأنه مهما بالغ في تجريف مؤسسات الدولة، فستظل قوة المجتمع اليمني وتاريخه العريق أقوى من أن يُختزل في مشروع دخيل يسعى لطمس هويته.
 
الرهان على دعم خارجي للبقاء هو رهان خاسر، والتجربة تثبت أن أدوات إيران لا تبني دولاً، بل تحوّلها إلى أنقاض ثم تتركها لمصيرها؛ الحوثي، الذي صعد على أنقاض الدولة، يواجه اليوم حتمية السقوط بنفس الأدوات التي استخدمها للبقاء وفي فخ المعادلة نفسها، وحينها لن يجد طهران إلى جانبه، بل ستبحث عن أداة أخرى، أكثر قدرة على تنفيذ مشروعها، بينما سيبقى هو مجرد درس آخر في سجل المليشيات التي ظنّت أنها تستطيع أن تحكم الشعوب بالقوة، فاكتشفت متأخرة أن الأوطان لا تُختصر في بندقية، وأن من يحفر حفرة لغيره، حتماً سيقع فيها.
 
في كل عصر، يولد طغيان جديد بوجه مختلف، لكنه يحمل جوهر الطغيان نفسه؛ يرتدي ثوب الحق الإلهي حيناً، وشعار القداسة حيناً آخر، لكنه في النهاية يظل صدى لحقيقة واحدة: الاستبداد لا يبني دولاً، بل يُراكم الوهم حتى ينفجر؛ الحوثي اليوم ليس إلا نسخة جديدة من طغاة التاريخ الذين راهنوا على القوة المطلقة، فصنعوا لأنفسهم هالة زائفة، قبل أن يكتشفوا أن الشعوب لا تُحكم بالخرافة، ولا ترضى بأن تُسلب إرادتها.
 
يرفع الحوثي شعار "السيادة"، بينما يبيعها في سوق الولاءات الخارجية، ويتحدث عن "العدوان"، بينما بنادقه موجّهة إلى صدور اليمنيين؛ يتغنى بـ"الصمود"، بينما خزائنه مفتوحة لإيران، وينظّر عن "الاقتصاد المقاوم"، بينما ينهب موارد البلد لتمويل حروبه العبثية؛ كل ذلك يتم تحت غطاء ديني زائف، حيث يتلاعب الحوثي بالنصوص ليشرعن مشروعه الطائفي، متجاهلًا أن الطاعة ليست مطلقة، وأنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
 
الجماعة التي تدّعي "الحق الإلهي" لا تتورع عن التحالف مع المشروع الإيراني، الذي لا يرى في اليمن سوى ساحة لتصفية حساباته الإقليمية، وهو ما يكشف زيف خطابها؛ فلو كان الحوثي وصياً على الدين كما يدّعي، لكان أول من يدرك أن أخطر المعاصي هي "ارتكاب الباطل عن علم ودراية"، لكنه يستبدل الدولة بـ"الولاية"، والإرادة الشعبية بـ"حكم السلالة"، والمواطنة بـ"الفرز الطائفي"، ليجد اليمني نفسه محاصراً بين خطاب يقدّس الاستعباد، وقوة تفرضه بالسلاح، في مشهد يعكس جوهر الفكرة القاتلة: لا خيار لك، لا اجتهاد، لا رأي آخر، بل "سمعنا وأطعنا"، حتى لو كان المصير قعر الهاوية.
 
وإذا كان بشار الأسد قد احتاج إلى عقدٍ كامل من القتل والدمار ليكتشف أن إيران لا تحمي أحداً، فإن الحوثي يسير في الطريق ذاته، غير مدرك أن الأداة لا تملك مصيرها، وأن من يحكم بالوكالة، سيسقط بالوكالة، وأن "المشروع الإيراني" ليس أكثر من لعنة، كل من دخل فيها كان وقوداً لها، ثم احترق في محرقتها؛ لكن الوهم هو أكبر خدعة يُغرق المستبد بها نفسه، حين يتوهم أنه باقٍ إلى الأبد، وأن القمع يمكن أن يكون قاعدة حكم مستقرة، متناسياً أن كل مستبد، ظن الشيء ذاته، ثم سقط في اللحظة التي لم يكن يتوقعها.
 
الطائفية، كنظام إقصائي، تخلق بيئة مغلقة لا تسمح بحرية التفكير، مما يؤدي إلى تراكم الإحباطات الاجتماعية والسياسية؛ وعندما يُسد الأفق أمام الأجيال الصاعدة، يتحول القمع إلى وقود للانفجار، تماماً كالتفاعل البركاني الذي تحكمه قاعدة "الضغط يولد الانفجار"؛ وهكذا يصبح الشباب الذين لا يجدون فرصة لإثبات ذواتهم داخل المجتمع فريسة سهلة للاستقطاب، سواء في جماعات الجريمة المنظمة أو التنظيمات الإرهابية التي تتقن توظيف الإحباط والحرمان لصالحها؛ الحوثية، في جوهرها، ليست سوى مشروع لتفكيك المجتمع وإعادة تشكيله وفق منظومة طائفية لا تؤمن بفكرة الدولة، بل ترى في "الجماعة" بديلاً عن الشعب، و"الولاء للمرشد" بديلاً عن الانتماء للوطن، ما يجعل الانفجار والتحرر الحتمي مسألة وقت، لكسر هذا القيد الطائفي، واستعادة اليمن من قبضة الوصاية الإيرانية.
 
التاريخ، في كل مرة، يسخر من المستبدين الذين يتوهمون أنهم خالدون.. تماماً كما سقط ملوك أوروبا حين ادعوا "الحق الإلهي"، وكما سقط شاه إيران تحت وطأة ثورة شعبية، وكما سقط الأسد في مستنقع التبعية المطلقة لإيران، سينتهي الحوثي إلى المصير ذاته؛ اليوم، هو مجرد بيدق تحركه طهران، وغداً، حين ينتهي دوره، لن يجد من يرثيه، بل سيلحق بسلسلة الطغاة الذين ظنوا أن الأوطان تُحكم بالخوف، فاكتشفوا متأخرين أن الشعوب، مهما طالت معاناتها، تملك قدرة عجيبة على إسقاط الطغاة، الواحد تلو الآخر.
 
ليس السؤال: متى يسقط الحوثي؟ بل: كيف سيُكتب سقوطه؟ هل سيكون مجرد اسم سيُمحى من الذاكرة؟ أم سيكون درساً، يُضاف إلى سجل أولئك الذين ظنوا أنهم فوق الشعب، فوجدوا أنفسهم في النهاية، مجرد لعنة، يلعنها الناس كلما مرّوا على أطلال الطغيان.

ذات صلة