د. ثابت الأحمدي يكتب: الشيخ ناصر أحمد عثمان القعاري.. رجل الدولة وشيخ القبيلة

  • د. ثابت الأحمدي
  • 05:07 2022/03/15

صبيحة يوم 24 أغسطس من العام 1990م عرفتُ الوالد الشيخ ناصر أحمد عثمان القعاري (القيادي المؤتمري وأحد رجالات ريمة) لأول مرة في معهد الصديق العلمي آنذاك، قُبيل افتتاح ثانوية المعلمين بشهر تقريبا. 
 
أتذكر هذا اليوم تحديدا لسببين: 
الأول: كان هذا هو أول يوم أدخل فيه معهد الصديق للالتحاق بالثانوية، وفيه أيضا عرفت مدير المعهد آنذاك الشاب الأستاذ شاكر حسان الهتاري، لأول مرة على مكتبه، بثوب أبيض، وشعر منتفش، وأمامه كومة أوراق وملفات. 
 
الثاني: حضر الوالد ناصر أحمد عثمان إلى إدارة المعهد وسلم على المدير، قائلا له بنوع من الانتشاء: اليوم هي ذكرى تأسيس المؤتمر الشعبي العام. ويبدو أن مدير المعهد لم يكن يتذكر لحظتها تلك المناسبة؛ أما أنا فلم أكن أعرف يومها ما هو المؤتمر ولا الإصلاح الذي لم يُعلن عن تأسيسِه رسميًا بعد؛ أمّا عن الاشتراكي فلم نكن نعرف عنه أكثر من كونه حزب "الكفرة الملحدين"..! فقط. ولحظتها لم أكن أعرف أيضًا من هو ذلك الشخص ذو الطلعة البهية واللسان الفصيح الذي زار المعهد، وأشار إلى هذه المناسبة، إلا أني حدست أنه شخصية مهمة، فارتسمت ملامحه تلك في ذاكرتي وحتى اللحظة.      
 
بعد عودتي من معهد النصر بالمنصورية للالتحاق بثانوية المعلمين بالرباط بعد شهر تقريبا من ذلك اليوم تعرفنا على عدة وجوه جديدة في المنطقة، لعل أبرزها الوالد الشيخ ناصر أحمد عثمان. وحينها أستطيع القول أنه كان أبرز شخصية اجتماعية في المنطقة؛ لا لكونه شيخا قبليا فحسب؛ ولكن لكونه قياديا حزبيا في المؤتمر الشعبي العام، في فترة سياسية ملتهبة، غلب عليها الجدل والصراع وقليلٌ من الطيش السياسي من قبل الجميع بلا استثناء. كانت الوحدة اليمنية طريّة النشأة، وكانت الأحزاب السياسية حديثة التأسيس، وكان ثمة حلم وطني يتشكل على امتداد اليمن، مصحوب بجدل سياسي مختلف عن أي مرحلة سابقة، غير أن جدل منطقة الرباط شيء آخر، أو هكذا يبدو لي..! 
 
خلال تلك الفترة تحول الشيخ ناصر من التجارة إلى السياسية بعنفوان وقوة لا مثيل لهما، ولا أدري هل يعرف الشباب الجدد الذين عرفوه فيما بعد أنه كان تاجرا أم لا؟ عرفوه قياديا حزبيا مخلصا لحزبه، ومدير أمن محترما لدولته، وشخصية اجتماعية، منتمية لقيم القبيلة، ولم يعرفوه تاجرا من قبل. 
 
 
الرجل ضحى بالتجارة في سبيل السياسة، لكنه لم يجْنِ من السياسة إلا أوجاعها ومن الحزبية غير دخانها. والحقيقة أنه أعطى أكثر مما أخذ؛ بل أستطيع القول أنه لم يأخذ شيئا. كان الرجل شخصية استثنائية بوفائه، بكرمه، بأخلاق الفرسان. خذله الرفاق قبل الخصوم. وأظن أن خذلان الرفاق لبعضهم البعض متلازمة لن تفارق قيادة المؤتمر، وقد أكون ممن قصر في حقه يوما ما. حاولت أن أقدم له ما أستطيع كجزء من رد الجميل له، في وظيفة أو منصب يليق به، لكن اعتذار مدير مكتب رئيس الجمهورية كان الأسبق. "لا وظائف بعد الأربعين". هكذا رد عليّ.  
 
شخصيًا لي معه مواقف عدة منذ تلك الفترة. لعل أولها قبيل انتخابات 93م، أيام الدعاية الانتخابية، وعراك بالأيدي أثناء خطاب المناضل يحيى مصلح مهدي أمام منزل العاقل محمد محمود النهاري، رحمهما الله، هو من نتاج نزق تلك الفترة، حاول يأخذ مني رزمة مما يسمى "بيان علماء اليمن" التي أعطاني إياها أحد أساتذتي لتوزيعها، بينما تشبثتُ بها، وكان بعدها ما كان..!
 
كنا آنذاك خصومًا حزبيين لبعضنا، ولم يكن يخطر ببالي أننا سنصبح رفاقا في حزب واحد يوما ما، لكني أشهد أنه كان يخاصم بشرف الرجال الكبار، وأن انفعاله لم يكن يتعدى دقائق فقط، ثم ينسى كل شيء، وكأن لم يكن. كتبت عشرات التحقيقات والاستطلاعات والأخبار الصحفية في أكثر من صحيفة معارضة فيما بين 95م، إلى 2033م، قبل انتقالي إلى صنعاء، ضد المؤتمر الشعبي العام وضد سياسة الدولة يومها، وكان يقرأ تلك الصحف التي تصل إلى سوق الرباط أسبوعيا، ويقرأ كل ما أكتبه، وحين كنتُ أزورُه إلى مكتبه كان يعلق عليّ ويعترض على بعض ما أكتبه، وأحيانا يمازحني بقوله: "أنت من فين طلعت صحفي وأبوك رعوي"؟! وأحيانا يمازحني بقوله: "أنت ما تبطل الكتابة إلا بعدما يقع لك حبس"..! مضيفًا: "اليوم اجلس عندي نتغدى جميع". في الغالب كنت أعتذر عن ذلك. نتحاور، نتجادل، ثم ينصرفُ كلٌ منا في سبيل حاله، بكل احترام وتقدير. 
 
 
أقولُ هذا، وبوسعه آنذاك أن "يحبسني" فعلا، كما كان يحدث أحيانا في بقية المدن مع صحفيين آخرين، يتعرضون للاعتقالات والحبس، وأحيانا للضرب، بسبب أعمالهم الصحفية، مع أني كنت أتجنب أي إشارة إليه في أعمالي الصحفية إلا ما ندر. "المجنون يعرف بيت من يرجم"..!! وذات الشأن أيضا مع الشيخ حيدر البدجي الذي عمل مديرا للأمن بعده، لطالما اتفقنا، وطالما اختلفنا، ولكن باحترام. كانوا رجال دولة بالقيم الأصيلة والأخلاق النبيلة. 
 
ظل المرحوم ناصر أحمد عثمان رحمه الله وفيا لحزبه، ووفيا للدولة حتى آخر لحظاته، يقول ما يعتقد أنه صحيح، بلا مواربة، ولعل أبرز سمة تميزه عن كثير من رفاقه أنه كان صاحب وجه واحد فقط. لا يجيد التقلب والتلوُّن، كما يفعل البعض؛ منتميا إلى قيم المشيخ والقبيلة أكثر منه إلى قيم السياسة ذات الوجوه المتعددة. وهي القيم النبيلة التي حملها نجله الزميل والصديق العزيز الأستاذ محمد ناصر. 
 
في العام 2003م، وفي شهر رمضان آنذاك، وعلى غير تنسيق ترافقنا معًا في رحلةٍ جميلةٍ إلى مكة المكرمة، لأداءِ شعيرةِ العمرة، وانضاف إلينا أيضا مصادفة الأستاذان القديران المرحوم مهدي عبدالوهاب السعيدي والعقيد عبده إبراهيم الوليدي، وكانت من أجمل الرحلات. جَمَعَنا الحرم المكي، وجمعتنا المدينة المنورة، وجمعتنا ضيافة القاضي محمد مرشد الريمي في مدينة جدة، مع الشيخ محمد الزبيري وآخرين. أتذكر في تلك الرحلة قال لي: ذات مرة ترافقت مع والدك في رحلة إلى المملكة العربية السعودية، مطلع الثمانينيات، واليوم ها أنت ترافقني..!
 
في السنوات الأخيرة افترقنا، حتى فارق الحياة، وسنفارقها يوما ما من بعده، وقد خلد المرحوم حياته في ذاكرة محبيه وأصدقائه، بسيرته العطرة، بشهامته الأصيلة، بلسانه الفصيح، بأخلاقه الزاكية، بتسامحه الجم. بمنظومة من القيم التي نحن في أمس الحاجة إليها.

 

ذات صلة