بين حكام الأمس وحكام اليوم

12:42 2022/01/03

رحم الله حكامَ الأمس الذين قرأنا عنهم في كتب التاريخ، على الأقل كان لديهم من الإحساس والقيم الأخلاقية ما يؤهلهم لأن يكونوا من عظماء التاريخ فعلا، كانت فيهم من الخصال الحميدة ما تحفظ لهم ماء وجوههم وتمحو عنهم بعض أخطائهم؛ خلافًا لبعض رؤساء اليوم للأسف. 
 
لبعض الحكام قيم معينة أو خصلة ما تستثير حميّته وتهز وجدانه في لحظة من اللحظات، فيسجل موقفا للتاريخ، إلى حد أنه صار يُضرب المثل في أخلاق الملوك والأمراء، فيمدحون شخصا ما قائلين: فلان فيه أخلاق الملوك.
بيتان من الشعر جعلتا الخليفة هارون الرشيد يقلب معادلة الدولة رأسا على عقب، وينهي العصابة البرمكية حين غنت المغنية: 
ليت هندًا أنجزتنا ما تعد    وشفت صدورنا مما نجد
واستبدت مرة واحدة        إنما العاجز من لا يستبد
ومثل هذين البيتين قصائد كثر جعلت الحاكم أو الخليفة يسجل موقفا ما، إلى حد أن بعضهم يسخو بكل ما في يديه لهذا الشاعر أو ذلك العالم، كما فعل الأشرف الرسولي مع الفقيه والمحدث ابن حجر العسقلاني، حين أفرغ له خزينة مالية كاملة، وكذلك فعل قبله مع ابن المقري وجمال الدين الريمي. 
 
الخليفة المعتصم لم يكن شاعرا أو أديبا تحركه الكلمة ويهزه البيان أو يطربه السجع، كما هي عادة أبيه، أو أخيه المأمون؛ لكنه كان شهمًا ذا مروءة ونجدة. جاءه صوت: "وا معتصماه" من امرأة عربية اعتقلها أحد علوج عمورية، فهب كالأسد الهصور، منقذا لتلك المرأة ومسجلا موقفا للتاريخ. وتم تسجيل هذه الواقعة شعرا ونثرا؛ لقد صارت مفخرة عربية إلى اليوم. 
 
قبل هذين الخليتفين: الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، كان يهزه الوعظ الديني، فيتأثر لأيسر الأعمال، ومن ثم يعدل عن قرار جائر، أو يقوم بعمل ما، طمعًا في الأجر والمثوبة. 
 
حتى على مستوى اللصوص سابقًا، كانت فيهم مروءة وشهامة، يروي الإخباريون أن دهم بن عسقلة ــ وهو كبير اللصوص في العصر العباسي ــ حين شعر بالموت كتب وصيته لرفاقه اللصوص، وفيها: "لا تسرقوا امرأة ولا جارًا ولا نبيلاً ولا فقيرًا. وإذا سرقتم بيتًا فاسرقوا نصفَه، واتركوا النصف الآخر، ليعتاشَ عليه أهله، ولا تكونوا مع الأنذال". رحمك الله يا دهم بن عسقلة ما أنبلك؟! وما أزكى ضميرك؟! 
 
نحتاج اليوم لسارق مثلك ينصح قومه: إذا سرقتم موازنة مؤسسة أو وزارة فاسرقوا النفقات التشغيلية كاملة؛ أما الرواتب فدعوها لأهلها.. إذا سرقتم بئر نفط فتعهدوا موظفيكم.. إذا سرقتم السيارات فلا تسرقوا الموتورات، ودعوها للفقراء.. إلخ. 
 
قبل دهم بن عسقلة عروة ابن الورد العبسي وهو من الشطار والعيارين المشهورين، كان صاحب وفاء ونبل وشهامة، لقد كان يغير على القوافل وينهبها، ليطعم بها الفقراء والمساكين، فقال: 
فلا أترك الإخوان ما عشت للردى   كما أنه لا يترك الماء شاربـــــه
وإن جـــــارتى ألوت رياحٌ ببيتها      تغافلت حتى يستر البيتَ جانبه
 
ويقول أيضا في قصيدة أخرى، حين لامه البعض على قسمة رغيفه الوحيد الذي يملكه:
أُقَسِّمُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرَةٍ     وَأَحسو قَراحَ الماءِ وَالماءُ بارِدُ
اليوم لدينا رؤساء من فصيلة نادرة جدا، أندر من فصيلة A-  التي لا يمتلكها إلا 1% فقط من سكان العالم كما يُقال. 
 
لدينا مسؤولون لا يهزهم الشعر، ولا تحركهم الإنسانية، ولا يتأثرون بالوعظ الديني، لا يملكون خشوع عمر بن عبدالعزيز، ولا طرب الرشيد، ولا نخوة المعتصم، ولا كرم الأشرف الرسولي. حتى قراقوش الهمجي الأرعن الذي وصفه ابن مماتي في كتابه "الفاشوش في حكم قراقوش" بقوله: "لا يقتدي بعالم ولا يعرف المظلوم من الظالم"، لكنه مع هذا لم يكن يخطف اللقمة من أفواه المساكين كما يفعل بعض حكامنا اليوم..!
 
 مسؤولنا اليوم كتلٌ صلدة من لحم ودم بلا أحاسيس أو مشاعر، أقرب ما يكونون إلى البغال العليفة والبليدة في نفس الوقت، تكثر من الاعتلاف، ولفرط اعتلافها تترهّلُ أجسادها وتتبلد أحاسيسُها، وتخيلوا أنّ البغل هو الحيوان الوحيد من ذوات الأظلاف الذي لا يستشعر الزلازل قبل وقوعها؛ لأن كل ذي ظلف أو حافر يستشعر بظلفه أو حافره وقوع الزلازل قبل أن تحدث، فيغادر الأماكن الخطرة إلى الأماكن الآمنة إلا البغل فإنه الوحيد الذي لا يستشعر خطر الزلازل بظلفه..! ومن هنا ضرب المثل القائل: "فلان أغبى من ظلف بغل".! 
 
لهذا كانت الصور اليمنية القديمة التي تصور الوعول تعمد إلى تصويرها على مرتفع ما، أو صخرة ناتئة، وهي في أشد ما تكون حذرًا وترقبا للزلازل؛ لأن الوعول أشد ذوات الأظلاف استشعارا للأخطار، حتى أنها تغادر الأودية إلى الربوات في اليوم المطير تحسبًا للسيول. 
 
آه يا قوم.. ما أشقانا ببغالنا..! ومتى سيكون لنا "وعلٌ يماني" أصيل يستشعر الأخطار والزلازل والكوارث..!