نبحث مع "سلوى" وطفليها عن "علي نعمان".. راح يشقي بالسعودية وقال لها "والله ما ارجع اليمن إلّا لمّا يمسكونا"!

  • تعز، الساحل الغربي، عصماء منير الكمالي:
  • 06:57 2021/06/28

سافر للبحث عن لقمة العيش.. ولم يعُد: "تسلفنا له حق السفر سلف".. هل توفي بكورونا؟
 
علي نعمان.. المهاجر إلى المجهول.. رحلة طويلة من المعاناة
 
*  مكتب الخارجية في تعز: "يتم دفن المتوفى بكورونا في مقابر المملكة العربية السعودية، بعد أن يتم استخراج وثيقة سفر له، وبعد ذلك يتم استخراج تصاريح وفاة ودفن من القنصلية".
 
أن يمتلك المرء أسرة دون مصدر دخل ثابت يؤمِّن به حياته، فذلك أصعب ما يكون. عندها يجد نفسه واقفاً عند قرار السفر والغربة بغرض البحث عن الرزق، تاركاً عائلته من أجل أن يضمن لهم لقمة العيش. اللقمة التي يبحث عنها في كل زاوية، والتي من أجلها ترك بلاده الأم التي جعلته عاجزاً عن الوقوف ببسالة ضد أوضاعها القاسية.. يهاجر ليموت جوعاً، عطشاً، وتعباً يومياً في سبيل البحث عما يسد رمق عائلته.
 
يذهب وفي رأسه الكثير من الأحلام، الكثير من السعادة، يبحث عن عمل، يعمل بجهد كبير، يستنزف قدرته وطاقته الكامنة.. هذا هو حال الكثير من اليمنيين الذين يسافرون إلى دول الجوار باحثين عن عمل بالأجر اليومي، وهذا ما سلطت منصة "الساحل الغربي" الضوء عليه في هذا التقرير، مُتتبعة تفاصيل قصة رب أسرة هاجر بغرض العمل، لكن يبدو أنَّه هاجر إلى المجهول.
سلوى أحمد هي جيش علي الوحيد، باستطاعته الركون على زوجته في تربية وإعالة أولاده، تجاهد لجعلهم أفضل
علي نعمان، أربعيني العمر، مُتزوج، ولديه أسرة صغيرة تتكون من زوجة وطفلين، تسكن بيتاً صغيراً في مدينة تعز، وتعيش ظروفًا صعبة.. ضاق الحال بالرجل حتى قرر السفر إلى المملكة العربية السعودية على أمل أن يتخلص وعائلته من شبح الفقر والجوع وتفاصيلهما الأليمة.. واقع مرير وأيام أمر خصوصاً في زمن الحرب، التي ضاعفت من ضائقة الكثيرين.
 
ترك الرجل زوجته مع طفليها تعمل في رعي الأغنام.. هي ليست راعية، ولا تهوى تربية الحيوانات وبيعها، لكن الظروف أجبرتها أن تكون كذلك، فالزوجة تساند زوجها في كل شيء.. أم تكافح الفقر برعي الأغنام، تجوب المناطق يومياً بحثاً عن شيء تأكله أغنامها، لتحصل منها على حليب يسد جوع طفليها الصغيرين.. تضحية غير عادية تقدمها هذه الأم، وما أعظمها من تضحية!
 
لديه أسرة صغيرة تتكون من زوجة وطفلين، تسكن بيتاً صغيراً في مدينة تعز، وتعيش ظروفًا صعبة.
لديه أسرة صغيرة تتكون من زوجة وطفلين، تسكن بيتاً صغيراً في مدينة تعز، وتعيش ظروفًا صعبة.
 
يقال: "لا تخف من الارتباط بامرأة قوية، فربما تكون يوماً ما جيشك الوحيد". حقاً، فسلوى أحمد هي جيش علي الوحيد، باستطاعته الركون على زوجته في تربية وإعالة أولاده، تجاهد لجعلهم أفضل، وتنتظر بصبر ما سيقدمه زوجها لتسدد ما عليها من مديونية، وتعيش بعدها بسلام.
 
لم يمتلك المال ليدخل السعودية بطريقة نظامية؛ لهذا لجأ إلى طريق التهريب كما تسمى. هروبٌ من الحكومة التي جعلت مهمتها الأولى اللحاق بكل شخص غير نظامي داخل بلادها ناهيك عن حرس الحدود الذين لن يترددوا عن تصويبك إذا تمكنوا من رؤيتك وأنت تتسلل ليلاً في منفذ الحدود.
 
"تسلفنا له حق السفر سلف" هكذا قالت سلوى بعد يومين من مغادرة زوجها وثلاثة من جيرانه.. خرجوا جميعهم باحثين عن طريق آمن، طريق يخلصهم من ضيق وقسوة الأيام.. من تعز إلى صنعاء فصعدة، وصولاً إلى منفذ الرغو –منطقة حدودية فيها الكثير من الطرق- وهناك تلتقي بالمهرب الذي تقتصر مهمته على أن يتجاوز بك المناطق ليوصلك إلى داخل الأراضي السعودية.. وبين مسافة وأخرى ينزل الجميع من سيارة المهرب ليقطعوا مسافة مشياً على الأقدام، تجنباً للاصطدام بالعساكر السعوديين، كما يقول المسافرون.
السفر غير النظامي، رحلة طويلة من المعاناة، في طريق الموت المحفوفة بالمخاطر.. عذاب، وشقاء، والكثير من الركض، والمشي في الجبال.. أياماً قضوها بين الجوع والعطش ناهيك عن الرصاصات التي توجه إليهم مباشرة من حرس الحدود.. كادت إحدى الطلقات أن تصيب علي لولا أن أنقذه أحد أصدقائه بسحبه سريعاً من مكانه المكشوف.. العبور على تلك الحدود مخاطرة بالحياة، وما أكثر اليمنيين الذين يخاطرون بحياتهم.
 
بعد أسبوع من السفر المتواصل وصل علي إلى مدينة "جدة" السعودية، وحصل فيها على عمل "سبّاك".. طمأن أهله بوصوله وبحصوله على العمل.. وبعد 23 يوماً أرسل مبلغ 200 ريال سعودي لزوجته لتتمكن من قضاء ديونها، وتوفير احتياجاتها دون اللجوء للغير.. الزوجة التي بدأت تشعر بالاستقرار نفسياً لكنها لم تدرِ إلى أين سينتهي بها هذا الأمر.
 
تقول سلوى لـ "الساحل الغربي": "لمّا بدأ يشتغل رسل لي بالفلوس وقال لي "والله ما أرجع اليمن إلّا لمّا يمسكونا، بجلس أشقي لما يقِّدر الله". سعادة ممزوجة بالتعب يحلم بها علي وزوجته، لكنها تبقى سعادة ناقصة طالما الأب بعيداً عن أولاده.. يحلمون بالعيش الكريم لكن القَدَر قد يعاكسهم.
 
أسيرٌ بين أربعة جُدُر بلا علاج
من ضيق العيش إلى ضيق التنفس
 
"تركناه في باب المستشفى بسرعة وهربنا.. كنا نشوف من بعيد، نتأكد إنَّهم بيأخذوه".. وأنت تسمع هذه الكلمات تشعر بالألم. كيف له أن يترك صديقَه ويهرب! يتركه يصارع الموت وحيداً مرميّاً على بوابة إحدى مُستشفيات جدة ليأتي الجواب على كل تساؤلاتنا: "كنّا خائفين لو يمسكونا".
 
لم يكد يمضي شهر واحد على علي وهو يعمل حتى بدأت أعراض المرض بالظهور عليه، إرهاق، وتعب، كما يقول صديقه أحمد غالب، لكن الرجل رفض التوقف عن العمل قائلاً: "من بيشقي على أولادي، حتى لو مريض باشتغل".. فهو الذي وصل بعد عناء طويل، لا يريد البقاء فارغاً من دون عمل وإن كان مريضاً. كأنَّه يريد أن يفني حياته في العمل. 
 
يقول أحمد: "مرض علينا علي في بداية شهر أبريل الماضي.. جلسنا نعطيه مهدئات لأننا ما نقدر نسعفه للمستشفى، كلنا في السكن غير نظاميين". ويضيف: "عملنا الذي قدرنا عليه.. ما كان أمامنا سوى تقديم العلاجات البسيطة فقط".
 
 
مرّت الأيام وحالة علي تزداد سوءاً، وبحسب ما قاله صديقه فإنَّه بدأ يشعر بالاختناق، يحاول التنفس بصعوبة، ثم يختنق من جديد.. يتماسك لكن الهواء يمتنع عن القدوم إليه بقدر محاولته في الحصول عليه وربما أكثر.. أسيرٌ بين أربعة جُدُر، دون أي علاج قد يخفف عنه ما يعانيه.. الموت وحده من يحلق بالقرب منه ثم يبتعد.. لا يمكنه الخروج، ولا العودة إلى حضن وطنه الذي عرف قدره حين وجد نفسه غير قادر على الخروج للعلاج.. إنّه غريب وسط مجتمع غريب.. إنها الغربية يا علي!
 
بقدر خوفه من الخروج إلى يد حملة الإمساك بالمجهولين، كانت مقاومته لفكرة الإسعاف والعلاج.. قلقاً من أن يتم إنقاذه من مرضه، والعودة به إلى الضيق الذي فرّ منه.
 
وبحسب أحمد: "تدهورت صحته بشكل أكبر في أواخر شهر أبريل.. أخذناه إلى مجمع "نسيم جدة الطبي".. وبعد الفحوصات تبيَّن لنا أنَّه مصاب بڤايروس كورونا". نتيجة ثقيلة على قلوب أصدقائه.. صادمة وقاتلة للأمل الذي بدأوا برسمه بالأمس القريب.. وما جعل دموعهم تتساقط كان قول الأطباء لهم "إسعفوه الآن للمستشفى الخاص بأمراض كورونا، وإلّا سيموت عليكم.. المريض مُحتاج للأكسجين".
 
في الغربة كل شيء ظالم، منفى قاتل، ووطنك يجبرك على أن تعاني خارجه بهذه الطريقة القاسية، هرب من الحرس في الحدود، فجاءه الجندي (..) الذي لا يمكنه التخفي منه، بل وتخفى داخل أحشائه ووسط خلاياه ورئتيه، ليتمكن من قتله بهدوء.
 
أحلى الأمرّين... ترك إجباري
الفقر والغربة.. كلاهما قاتل
 
إما أن يقتل الفيروس صديقهم أمام أعينهم، أو أن يخاطروا جميعهم في سبيل إنقاذ علي.. خياران لم تدع الحياة ثالثا لهما.. وكان الخيار الأمثل بالنسبة لهم أن يحملوه مُتجاهلين خطر الڤايروس المُعدي، لكن الحياة أجبرتهم على التوقف عند نقطة لا يستطيعون تجاوزها.. أمام بوابة المستشفى.
 
يوضح مختار سعيد: "أخذته أنا وصاحبي وتركناه قدام المستشفى وبجيبه الإقامة المزيفة.. بعد قليل تأكدنا أنَّهم أدخلوه". تركاه مجبرين وظلا يراقبانه من بعيد. مُقيدين بالخوف.. استمرا بتفحص المكان ومن سيأتي لنجدة صديقهما المنهك بالڤايروس.
 
يبدو أن علي لم يتم استقباله بشكل جيد، فقد غادر المستشفى بنفس اليوم، عائداً إلى مسكنهم.. يؤكد صديقه: "رجع بنفس اليوم.. قال إنَّ الأطباء قالوا له إنّه بخير.. لكنه كان يشكو بقوله "نقلونا من قسم إلى قسم، تعبَّثوا بيّ عبث لأننا لوحدي". على لسان أحد الأطباء السعوديين في المستشفى جاءت عبارة "أنت بخير" وجهها لعلي وأجبره على العودة إلى المنزل.. عاد محملاً خطراً أكبر، عاد وهو يجُرُّ الخيبة خلفه.
 
من جديد أُخِذ علي، وتُرِك أمام بوابة مُستشفى الملك عبد العزيز.. تكرر مشهد الترك الأليم، لكن هذه المرة وبغفلة من أصدقائه لم يتأكدوا مما يحمله المريض.. ليتضح لهم فيما بعد أنه كان يحمل بطاقته الشخصية بجانب الإقامة المُزيفة باسم غازي.. وما إن تم إدخاله إلى الداخل، اتصل به أصدقاؤه ليطمئنوا عليه.. وكانت الكارثة، لا إجابة، المستخدم مُغلق.. لا مجال للرد، لا معلومات تصلهم، لا جرأة لديهم فالخوف مسيطر على المكان، والدوريات العسكرية المتنقلة في شوارع جدة.
 
 
أُغلقت الأبواب، لم يجد الأصدقاء سبيلًا للوصول إلى علي، وكلما بعثوا أحداً بغرض السؤال عنه باسمه واسم غازي.. النتيجة واحدة، لا يوجد مريض لدينا بهذا الاسم.. السائل يعود حاملًا الخيبة، وليتمكنوا من معرفة مصير الرجل يجب أن يذهبوا للبحث عنه برقم الإقامة.. الرقم الذي لا يدرون به وفقاً لـ مختار سعيد.. ويضيف مُتسائلًا بحِيرة: هل وجدوا بطاقة علي الشخصية، بجانب الإقامة المزورة؟ وهل هو قد تعافى ومُحتجز بتهمة التزوير؟ أم أنّه مات كما يموت الكثير من اليمنيين في كل أنحاء الأرض؟ يعيشون ويموتون غرباء دون أن يعرفوا أرضاً صلبة يقفون عليها.
 
أمر مثير للتساؤل، دفعنا لمعرفة مصير اليمنيين الذين يموتون خارج الوطن تأثراً بالفيروس.. طرحنا العديد من الأسئلة على مدير عام مكتب الخارجية في تعز، هشام المخلافي.. والذي أجاب: "يتم دفن المتوفى بكورونا في مقابر المملكة العربية السعودية، بعد أن يتم استخراج وثيقة سفر له، وبعد ذلك يتم استخراج تصاريح وفاة ودفن من القنصلية".. ويضيف: "دور الخارجية يكون إما عن طريق السفارة في الرياض أو القنصلية في جدة، فالسفارة والقنصلية ممثلتا كل الجهات المختصة داخل الوطن بعد إرسال الوثائق من الداخل للأشخاص الذين لا يوجد لديهم وثائق قانونية".
 
العيش على الانتظار
سلوى وطفلاها.. بحث وانتظار لا نهائي
 
"هل في خبر عن علي" هكذا كان رد سلوى على تحية محرر "الساحل الغربي"، وكأن السؤال عن زوجها أصبح شغلها الشاغل في حياتها اليومية.. المرأة التي كانت عصامية بنفسها قبل غربة زوجها، صارت اليوم مُنهزمة، قلقة.. ملامحها مليئة بالانتظار، الهالات المرسومة تحت عينيها توضح أنها مرّت وما زالت بمسلسل طويل من المعاناة، فقر، توتر، فانتظار لا نهائي.
 
صحيح أن الرجال يهاجرون للبحث عن اللقمة، لكنهم يعودون أحياناً على أكتاف رجال آخرين، وقد لا يعودون وهذا أسوأ ما يمكن أن يجعل الأسرة في ترقب للمجهول، عودته.
 
"أبي مريض، عنده كورونا.. ما نتواصل معه، جواله مع الدكاترة، قالوا لا يكلمنا" والده مريض، وهاتفه بحوزة الأطباء، هكذا يقول عبد الله علي الذي لا يتجاوز عمره السبع سنوات.. يثق بأنَّ والده سيكون يوما ما بخير، وأن هاتفه محجوز لأغراض طبية يجهلها، بل يثق كثيراً بأنّه سيعود ليحضنه ذلك الحضن الذي ودعه به قبل أشهر.. أما والدته فقد ضاق صدرها بالشائعات التي تصلها تارة بخبر وفاته، وتارة أخرى بالنفي.
 
ضياع حقيقي، منذ أكثر من شهرين وزوجته لا تعرف أي شيء سوى أنّه في المستشفى، وأن طفليها يشتاقان إليه، فهل سيأتي الفرج بعودته أو عودة ظهوره على الأقل أم سيظل خبره مجهولاً؟
 
لم تترك سلوى أي أسرة من أُسرِ أصدقاء زوجها إلا وزارتها مُتسائلة عن حال زوجها المفقود.. تصلي، تلهج بالدعاء كل يوم على أمل أن يهاتفها أو أن تجد أثره، وأن لا يصلها خبر وفاته، الخبر الأشدّ والأثقل على قلبها من بحثها، بكائها، وانتظارها.. وما أصعب أن تنتظر عودة سندك بخيبة أمل!

ذات صلة