08:49 2025/03/05
02:21 2025/01/19
حين يصبح الصف الدراسي جبهة حرب: مأساة التعليم تحت سلطة الحوثي
02:00 2025/04/13
من قال إن جبهات القتال محصورة على أطراف المدن وفي الجبال الوعرة والصحاري المتناثرة والوديان العميقة في اليمن؟، وتحديداً في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي، بل أصبح الصف الدراسي جبهة من نوعٍ آخر، بالفعل جبهة ففيها معلم يرتدي زياً مموهاً أكثر من القلم، وطفل يردد "لبيك يا..." بدلاً من (أ، ب، ت)، ومنهج دراسي مليء بالطلقات أكثر مما هو مليء بالمعارف، لقد تحولت المدارس التي كانت في يوم من الأيام مصنعاً للعقول إلى معامل لإنتاج المقاتلين الصغار، والسبورة البيضاء لم تُعد بيضاء بل تلطخها اليوم شعارات سياسية دنيئة، وصور قتلى الحوثي، وكأن الفصل ليس درساً في مجال معرفي بل تدريباً على الكراهية والحقد وإلغاء الآخر.
المعاناة التعليمية في المناطق التي تسيطر عليها مليشيا الخراب الحوثية لا تقتصر على نقص الكتب أو تسرب التلاميذ بل تجاوزت كل ذلك نحو مرحلة درامية عبثية من تسيس التعليم، وتغيير المناهج وأصبحت (الهوية الإيمانية الشيعية) التي يبشر بها الحوثي تتسلل بين دفتي الكتاب المدرسي، حتى أن القارئ يظن أنه أمام كُتيب تعبوي وليس كتاباً تربوياً، مادة اللغة العربية لم تسلم فتجد نصوصاً تمجد القائد الحثالة وتُدرج مفردات من معجم الطائفية، بينما اختفت قصائد الزبيري والبردوني، وربما اُعتبرت معارضة تستحق الحذف أو الحرق، التلاميذ الذين بالكاد فهموا جدول الضرب يُدرسون الآن دروساً في الجهاد والولاء، ويُطلب منهم حفظ خطب زعيم الجماعة كما لو كانت جزءاً من المنهج المقرر، وهناك تلاميذ في المرحلة الأساسية صاروا يُؤخذون إلى دورات صيفية (تعبئة فكرية) يعودون منها وقد نسي بعضهم كيف يُكتب اسمه، لكنهم يحفظون أسماء قتلى كُثر لا يعرفونهم، ويعرفون كيف تُركب بندقية كلاشينكوف لكن لا يعرفون كيف تُحل مسألة ضرب بسيطة.
في كثير من المدارس تحت سيطرة مليشيا الحوثي تم تغيير كادرها الإداري بكادر حوثي أول قرار لهم أن تبدأ كل حصة دراسية بـ"الصرخة"، وهي نشيد الجماعة السياسي، والتلميذ الذي يرفض ترديد الشعار يُوبخ أمام زملائه، ويُتهم بـ"الوهابية" و "العمالة" و"ابن داعشي"، وامام الجميع، وبهذا الشكل صار الولاء قبل العلم، والانتماء قبل الفهم وكأن المدارس تُعد تلاميذاً لخوض معركة الهوية قبل أن تعلمهم الفرق بين خط الرقعة والنسخ والفاعل والمفعول به، وكذلك المعلمات اللواتي يُجبرن على ارتداء الزي الأسود المغطى حتى أطراف الأصابع ويُراقبن كما لو أنهن متهمات في قضية أمنية وليس مربيات أجيال.
هذه المأساة ليست حكراً على اليمن وحده بل تكررت نُسخها الرديئة في العراق، حينما سيطرت المليشيات الطائفية عليه وأدخلت مفاهيم عقائدية في مناهج التعليم، حتى بات التلاميذ يتعلمون عن "ثارات" مذهبية أكثر مما يتعلمون عن العلوم، وتحولت الكثير من المدارس العراقية إلى مراكز إحياء مناسبات دينية فقط، وكأن وظيفة التعليم هي التلقين الطائفي لا التفكير العقلاني، وأيضاً في لبنان بات معلوماً أن بعض المدارس الخاصة المرتبطة بجماعات مسلحة تُدرس الأطفال سردية مقاومة محددة، لا تختلف كثيراً عن حكايات ألف ليلة وليلة، لكنها مغلّفة بلغة دينية وشعارات ثورية، لا تصلح لبناء جيل، بل لبناء حائط طائفي جديد.
الخطير في هذه التحولات أن التعليم لم يعد أداة للارتقاء بل صار وسيلة لضمان الخضوع، الخضوع لفكر، لشخص، لجماعة، وهذا يعني أن الطفل الفقير الذي كان يأمل أن يصير طبيباً أو مهندساً أصبح مشروع مقاتل في خدمة (المسيرة القرآنية)؛ وسط هذه الكوميديا السوداء لا عجب أن يتراجع اليمن في مؤشرات التعليم، ولا غرابة أن تتضاعف معدلات الأمية، فكيف ننتظر من طالبٍ أن يتعلم بينما الصف صار جبهة والمعلم صار أداة دعاية، والمناهج تُكتب في كهوف السياسة لا في وزارات التربية؟ هل نلوم الطالب حين يهرب من المدرسة؟ أم نلوم أنفسنا حين صمتنا طويلًا وسمحنا لهذه المليشيا لتحويل التعليم إلى ساحة معركة؟
قد يكون الصف الدراسي اليوم جبهة حرب في مناطق سيطرة مليشيا التطرف والارهاب الحوثية، لكن الأسوأ من الحرب هو أن تُخاض هذه المعركة في عقول الأطفال الصغار والشباب المراهق لأن الطلقة تُقتل مرة أما الفكرة إذا سُمّمت فإنها تقتل أجيالًا قادمة بأكملها.