"الصحافة".. مهنة الموت في زمن ميليشيا لا تحترم الحقيقة

  • الساحل الغربي - خاص
  • 10:02 2024/05/03

"السقوط لا يعني الفشل، وسلم النجاح محفوف بالمخاطر".
بهذه المفردات يلخص المصور وليد القدسي، قصته المليئة بالإصرار والتحدي، الذي فقد ساقه بقذيفة حوثية؛ لكنه لم يستسلم للإعاقة، بل عاد من جديد ليقاتل بطريقته، في سبيل توثيق ما خلفته حرب الميليشيا في مدينة تعز المحاصرة، التزامًا بمهنية المهنة، والدقة في نقل الصورة الأكثر وصفًا وتعبيرًا للواقع.
 
قبل ثمانية أعوام، كان الشاب يوثق الاشتباكات في الجبهة الشرقية لمدينة تعز، حيث سقطت قذيفة عشوائية أفقدته قدمه اليسرى، واستشهاد ثلاثة من زملائه (وائل العبسي، تقي الدين الحذيفي، سعد النظاري)، ورغم ذلك يواصل هذا الشاب مشواره الصحفي والإعلامي في رصد وتوثيق ما يدور في المحافظة، ونقل المعاناة الإنسانية جراء الحرب الحوثية، ورصد الانتهاكات بحق المدنيين.
 
ومنذ بداية الإنقلاب الحوثي، شكل الصحفيون نقطة مضيئة محاولين قدر الإمكان نقل الصورة الإنسانية، ورصد تبعات الحرب بإمكانات بسيطة، إلا أن الميليشيا لم تحترم الحقيقة، ففي مدينة تعز سقط العديد من الصحفيين بين قتيل وجريح إثر عمليات القنص والقصف المتعمد، ونتيجة لهذه الانتهاكات القمعية، صُنفت اليمن كأسوأ بيئة خطرة في العالم بالنسبة للصحفيين.
 
ومع استمرار الانتهاكات، تبرز الكثير من المعوقات، فالقيود المفروضة ضيقت من قدرة الصحفيين على العمل بحرية خصوصًا في صنعاء، وخلال الربع الأول من العام الجاري، وثّقت التقارير سبعة عشر حالة انتهاك، تنوعت بين الإعتداء والتهديد، في ظل حالة الإفلات من العقاب لمنتهكي حرية الصحافة، وضعف روح التضامن الحقوقي المحلي والخارجي.
 
 
مهنة الموت
 
في بلد تشهد حربًا منذ أكثر من تسع سنوات، لاقى خلالها العاملون في مهنة التصوير الكثير من المخاطر، خاصة عند نزوله الميداني إلى مناطق التماس، وهنا يجوز لك أن تسمي التصوير مهنة المتاعب، المليئة بالصعوبات، حيث تقل أو تندر التسهيلات الأمنية، بالتالي تصير مهمة التقاط الصور الجيدة صعبة.
 
رئيس نقابة الصحفيين اليمنيين، نبيل الأسيدي، يؤكد لـ "الساحل" أن المصورين في اليمن هم أكثر شريحة بين الصحفيين يتعرضون للمخاطر، وبحسب توثيق النقابة فإن ما يزيد عن 50 صحفيًا راحوا ضحايا الحرب خلال السنوات الماضية أغلبهم من المصورين، تنوعت أساليب الاستهداف فالبعض قتل أثناء أداء مهامه، والبعض جرى قنصه مباشرة أمام عدسات الكاميرات، ومنهم من كان يحمل الكاميرا ولا تزال عدسته ملطخة بالدماء حتى الآن.
 
يرجع الأسيدي أسباب زيادة عدد ضحايا هذه الفئة إلى أن غالبية المصورين في الداخل لا يمتلكون أدوات السلامة المهنية، وعدم تدربهم على أساليب السلامة المهنية، وكيفية تعامل المصور الصحافي أثناء النزاع.. إضافة إلى الحماس الذي يدفع البعض بالدخول إلى الخطوط الأولى للجبهات، أو رغبة القيادات العسكرية والمسؤولين بتوثيق الانتصارات بشكل سريع دون تأمين المنطقة كما حدث مع ثلاثة من المصورين في تعز، توفي اثنين وأصيب الأخير إثر سقوط قذيفة أثناء عملية توثيق المواجهات شرق المدينة.
 
إصابات مباشرة وغير مباشرة يتعرض لها الصحفيون في اليمن، حد قول طه صالح، مصور وثق العديد من القصص الإنسانية داخل مدينة تعز، جنوب غرب البلاد.. "نزلت خلال سنوات الحرب الماضية أماكن ميدانية كثيرة في مناطق التماس، صورت، والتقيت قصص مأساوية.. في العام 2015 أصابتني طلقة قناص بالرقبة، وكادت أن تخطف حياتي.. نجوتُ من هذه الحادثة بشكل عجيب...".
 
يضيف صالح، أنه تعرض لأكثر من عملية اختطاف، من قبل جماعات مسلحة تابعة للحكومة الشرعية.. وعند كل عملية اختطاف كان الصحفيون لا يجدون وسيلة لإخراجه سوى إبلاغ نقابة الصحفيين، وإطلاق حملة إلكترونية على منصات التواصل الاجتماعي بغية التضامن مع صحفي صار مجهول المكان والأسباب.
 
فيما كان المصور محمد الحميدي، يتفاجئ بطلب المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها، بالنزول الميداني إلى ساحات القتال دون وسائل حماية، ومع ذلك يذهب لتوثيق تطورات المشهد العسكري، ويتحول حينها من هاوٍ للتصوير إلى مصور حربي، خطواته ترافق أول المقاتلين، متجاهلًا المخاطر، لا يفكر إلا برصد انتصارات المعركة وخسائر الحوثيين.
 
ولأن مهام التصوير محفوفًا بالمخاطر، في ميدان أشد خطورة، يحاول المصور رسم سيناريو مغامرته بشكل تلقائي وقتما يصل مواقع الاشتباك؛ لكنه لا يملك هذا الخيار في غالبية المرات، فواقع المكان قد يفرض على المصور أن يصير مقاتلًا.
 
ويؤكد الحميدي بأن "المصور الحربي أشبه بمقاتل"، مشيرًا إلى قصة حصاره في منطقة "كلابة" شمال تعز، التابعة للشرعية.. الحدث الذي استدعاه إلى حمل السلاح بدلًا عن الكاميرا، والدفاع عن نفسه.. ليخرج بعد ساعات ثمان ملطخًا بدماء جندي أصيب بجواره.
 
 
رُهاب
 
بين الهروب والتكيف، يتفق كثيرون بأن الحرب أثقلت كاهل الصحفيين بدينٍ، ما تلبث طوال الوقت تطاردهم لدفعه، والمتتبع لحياة هؤلاء، يجدها بعيدة كل البعد عن الصورة النمطية التي يبدو فيها المصور بطلًا يتنقل من منطقة حرب لأخرى. فالواقع المعاش يكشف أن خلف كل بطل يختبئ شخصًا مُنكسِرًا، نتيجة الأهوال والمواقف التي شاهدها.. وأيامهم مليئة بالمخاوف والشكوك ومشاعر الوحدة.
 
وكثيرة هي الصدمات التي يتعرض لها الصحفيين الذين يعمل غالبيتهم في مجال التصوير.. أحدهم يعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة، وثانٍ يشكو ديمومة الاكتئاب، وثالث لا يعرف مشكلة الشتات الذي يصيبه، غير قادر على إدارة أمور حياته أو التعامل مع الآخرين.
 
وفي هذا السياق يؤكد نفسانيون أن بعض عاملي هذه المهنة مصابون بأمراض نفسية يحاولون اخفائها وعدم التظاهر بالمعاناة، خوفًا أن يفقدوا حضورهم في ساحات العمل، يصارعون الحزن بعيدين عن الرعاية والتأهيل النفسي.. هنا قصة شاب فضل عدم ذكر اسمه، يعمل في التصوير الحربي منذ سنوات، يروي أن نوبات فزع تأتيه يوميًا على أوقات مختلفة وأثناء النوم، طفل تحت ركام منزل أسرته، أو جثة رجل مبتور الرأس، وذلك الكابوس الذي يلاحقه.
 
هكذا تأبى مشاهد الجثث مُفارقة ذهن الشاب، حتى بات يعاني من رُهاب ضحايا الحرب، ويمتنع بعض أحيان عن ممارسة مهنته، يُرجع ذلك دكاترة علم النفس إلى الوسواس الذي يرفع منسوب القلق، ويضاعف اضطراباته النفسية، الأمر الذي يفيد بأن العمل الصحفي ليس سهلًا في بلد تشهد حربًا منذ سنوات، فمن لم يمت بالحرب، ماتت روحه وفقد توازنه، وعاش حالة من اليأس واللاوعي.
 
وفي كل مرة يعودون إلى مربع المعركة، يدرك الجميع حجم الضريبة التي سيدفعونها من أجل المغامرة، فالأسباب تقود المصورين إلى دوامة الموت باستمرار؛ وبعكس الجنود لا يتدربون على العنف، بل يتعايشون مع المخاطر في الجبهات الأمامية، ويتناسون الأضرار النفسية.
 
 
ذاكرة الحرب
 
مدنيون صاروا في عداد الموتى، وأطفال فقدوا ذويهم، ليبقوا وحيدين.. أناس يحملون أمتعتهم هاربين من الحرب، يبحثون عن أمان، وعوائل منسية، نزحت وتشردت، فوضعت رحالها تحت خيام لا تصلح للعيش.. ووجوه تختزل المعاناة، وتُجسِّد مظاهر الخراب والدمار.. لم نستهل الحديث بإبراز هذه العذابات، كما لو أنها ارادت أن تكون نهاية مؤلمة لفلاش قصير يجيب عن أسئلة تستحق عناء التفكير والتعقب أهمها كيف تصون الصورة الأحداث، لتصير هي الشاهد الذي لا يموت.
 
وتغدو الصورة تاريخًا وذاكرة في زمن الحرب، تحجز لنفسها المرتبة الأولى عند سباق التوثيق والتأثير.. هذا ما يفسر حضور صورًا لا نهائية في ضمير اليمنيين، وذاكرتهم، إذ يكاد يكون ممكنًا عرض سلسلة من الصور تشرح المعارك وضحاياها، ومحطات الحرب، ونتائجها.
 
ويمتلك مصورو الحرب في اليمن، ارشيفًا من اللقطات والصور التي وثقت تفاصيل الحرب، وانتهاكات ميليشيا الحوثي وجرائمها التي اُرتكبت بحق المدنيين، لتبقى هذه المشاهد ذاكرة للبلد والأجيال من بعد رحيل معاصرو هذه الفترة.. فذاكرة الحرب لا تصدأ، والتاريخ لن يموت.

ذات صلة