"بدر" وأمه يحكيان - طفولة مسروقة: قذائف الحوثيين تباغت ضحكات الأطفال في تعز
- تعز، الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
- 08:51 2023/09/08
"رجلي اليمنى مبتورة، وجسدي غارق بالشظايا.. أما شقيقي محمد فقد كُسِرَتْ ساقه وأصيب بجروح أثناء الحادثة"..
بهذه الكلمات المتقطعة، والتي تكشف عن نبرة حزينة، لا تخلو من الحسرة والوجع، بدأ الطفل بدر ناصر، في الثامنة من عمره، بسرد قصة شقيقين خرجا من المنزل بهدف التعلم، لكن سرعان ما تحول هذا الثنائي إلى ضحية قذيفة حوثية سقطت عشوائيًا على رؤوس الأطفال.. ليتساءل بعدها كثيرون كيف أفلت هذان الصغيران من الموت.
في الثلاثين من أكتوبر 2022، لم يكن الطفل بدر يعرف أنه لن يستطع العودة إلى منزلهم الواقع في حي المطار القديم، غرب مدينة تعز، بعد ذهابه إلى المدرسة برفقة أخيه والعديد من زملائه -جميعهم تحت سن العاشرة- إذ اعترضت قذيفة "هاون" طريق الأطفال وتسببت ببتر أقدام الصغيرين، وإصابة الكثيرين.
يتذكر الطفل بدر لـ"الساحل الغربي": "يوم الحادثة، كنت أنا وشقيقي في مدرسة "المظفر"، وعند الظهيرة خرج الطلاب جميعهم، وخرجت مع أخي نسير في طريقنا إلى المنزل، فجأة جاءت قذيفة، بترت رجلي، ورجل أخي، ورجل صاحبي هاشم.. وقتها كنت أشوف رجلي معلقة، أحاول أنهض من الأرض، لكن لا أستطيع".
يكرر الصغير عدم استطاعته النهوض وقت الحادثة، تأكيدًا على مدى حزنه، وأسفه لما كان عليه بالأمس، وما صاره اليوم.. إنه بكاء الروح، ذلك البكاء الصامت.
يضيف الصغير: "وجدت نفسي مرمياً بالأرض، والدماء تسيل من ساقي.. أتذكر كنت أبكي من شدة الخوف، بينما كان محمد يصرخ بصوت كبير، بعد ذلك دخلت بحالة إغماء، وغابت عندي ملامح الرؤية".
وبحسب أهالي المنطقة فإن القذيفة سقطت على حي الصيانة بالمطار القديم، أثناء عودة الأطفال من المدرسة، وقبل وصولهم البيت، حيث تعد أسرة بدر نازحة، وتسكن في منزل بالإيجار.
يقول أحد الساكنين: "سمعنا صوت انفجار القذيفة عند الساعة 11 ونصف ظهرًا، خفنا من شدة الصوت، اتجهنا نحو المكان، وتفاجأنا بصراخ الأطفال.. كان المكان ممتلئاً بالدماء، وأحد الأطفال كانت ساقه قد بترت".
ويتابع: "حاولنا نقلهم إلى مستشفى الثورة، وصلنا وبعض أجزائهم قد انتهت، وبعد تلقيهم الإسعافات الأولية، تم نقلهم إلى مستشفى الروضة، ثم بترت رجل الطفل بدر".
في زمن الإرهاب الحوثي، يحدث أن تسقط قذيفة وسط تجمع كبير من الأطفال، أحدهم يهرب، والآخر يصرخ، وثالث يقع على أرضية الشارع، ورابع مصاب بالشظايا، وخامس فارق الحياة.. بهذه الصورة تباغت قذائف مليشيا الحوثي ضحكات الأطفال، وبراءة الصغار.
حياة جامدة: متاعب يومية
بقدم واحدة وعكازتين يسير الطفل بدر بجوار شقيقه محمد، الذي بات هو الآخر يتوكأ على عكازة فردية تعينه أو تساعده على الخروج إلى مدرسة الحي.. "عدسة الساحل" التقت بالضحايا، ووثقت حياة الطفلين اليومية، وما تترتب عليهما من متاعب وصعوبات.
في شارع الحي، كان يتخطى بدر ببطء وحذر كبيرين، تخوفًا من السقوط وسط ممرات المنطقة، تجنبًا التعثر أمام أصدقائه الصغار.. هكذا يسير الطفل مترنحًا بين عكازتيه بخجل شديد، ومقارنة بمعاناة شقيقه الأكبر الذي كان له نصيب من حادثة القذيفة؛ حيث صار يمشي بقدم مكسورة، وشريان ممزق، وجسد تسكنه الشظايا وتتوزع عليه الجراح.
تحدث بدر: "أروح المدرسة بالعكاز، وكذلك البقالة ومختلف الأماكن.. لقد صارت بمثابة السند، أخرج الشارع حاملًا هاتين العكازتين، وأعود إلى المنزل بواسطتها".
ولأن هذا الصغير بات عاجزًا عن التنقل أو الحركة بمفرده، ففي المنزل يلجأ إلى الاستعانة بالجدران للتنقل عبرها، وتعد هذه الطريقة هي الأصعب -حد تعبيره- أما في خارج المنزل فيرى الطفل أن السير بواسطة العكازتين يعرضه كثيرًا للسقوط، وبين هذه وتلك تتضاعف المعاناة، وتزداد نسبة عذاباته اليومية.
تجولت عدسة "الساحل الغربي" في المنطقة التي يسكنها الصغيران، حيث التقطت العديد من المشاهد المؤثرة، يظهر فيها الطفلان بملامح حزينة، فالإعاقة تمنع هذا الثنائي من مشاركة الأطفال فرحة لعب كرة القدم.
في حديثه يؤكد الصغير: "عندما أشوف الأطفال يلعبوا كرة القدم.. ينتابني شعور الوجع، أريد ألعب معاهم، لكن لا أستطيع لأن رجلي مبتورة". هكذا حرم الحوثيون الصغير مرح الطفولة، تلك الميليشيا التي اعتادت قتل أطفال تعز قنصًا، وبتر صغار المدينة بالألغام والمقذوفات العشوائية، وتعطيل حياة الكثيرين.
أمنيات: العيش الصعب
شحوب وجه والدة بدر يجسد مختلف الطعنات، وحزنها الكبير تجاه حال الصغيرين، وحال الأسرة التي تعيش قصة نزوح موجعة منذ أعوام.
توضح الأم: "كنت أسكن في شمال المدينة، بسبب القنص العشوائي والقصف بالقذائف، نزحنا هربًا من الموت.. لجأنا إلى هذا المنزل في خط النار؛ لأن السكن في المدينة يحتاج إلى تكاليف شهرية، وحالتي المادية صعبة.. لا أقدر على دفع إيجار شقة، لذا سكنت مع أطفالي في خطوط التماس بالرغم من خطورة الوضع".
وبحسب المرأة فإنها تحاول التكيف مع الحال والمكان نظرًا لأزمتها المالية، وصعوبة ظروفها المعيشية، لكنها تضعف عندما ترى أطفالها مقعدين على الأرض، كما تشعر بالألم والوجع، وتجد نفسها غير قادرة على تقبل مصير الصغيرين.
تشرح والدة بدر: "الحادثة غير متوقعة، وبالنسبة لي كانت بمثابة الصدمة.. اختلطت المشاعر بين دموع الإصابة وفرحة البقاء على قيد الحياة.. ومع مرور الأيام، بدأت أشعر بمعاناة الأطفال، وكيف تحول بدر ومحمد إلى ضحايا، وكيف تغيرت حياتنا.. أصبح الخوف والقلق يسيطر علينا كلما سمعنا صوت رصاصة قناص أو قذيفة، وبالرغم من ذلك لم نجد حلًا سوى البقاء في خط التماس".
وبنبرة صوت ممزوج بالحسرة تقول الأم، إن الخوف يلازمها في كل مرة يخرج أطفالها إلى الشارع، وأنها تخشى رؤية أولادها الآخرين بالوضع الذي وصل إليه الطفلان بدر ومحمد.. كما تتمنى أن تنتهي الحرب، وأن ترى أبناءها يسيرون بسيقانهم حتى وإن كانت صناعية، وأن تعيش بعيدًا عن الخوف.
تؤكد لـ "الساحل الغربي": "أتمنى أن تهدأ الأوضاع من الضرب والقصف، وأن ينتهي حصار تعز حتى أتمكن من العيش بسلام مع أطفالي الصغار.. هذه كل أمنياتي. ما بعد هذا إلا الموت".
أرقام: الأطفال الضحايا
على مدى تسعة أعوام، كان لأطفال مدينة تعز مسلسل طويل من القنص والقصف، خصوصًا أن الطفولة باتت في مرمى وحوش بشرية، وتحت رصاصات الموت، حيث تشير الأرقام والإحصائيات إلى أنه منذ 2015 وحتى منتصف العام الماضي 2022 بلغ عدد ضحايا القتل والوفاة بسبب الحصار لدى فئة الأطفال 470 طفلًا.
وبحسب تقرير منظمة رايتس رادار لحقوق الإنسان، فإن عدد قتلى القصف الحوثي على ساكني مدينة تعز يزيد عن 250 طفلًا، بينما يصل عدد القتلى نتيجة القنص المباشر 130 حالة، أما ضحايا الألغام فالتقرير يفيد بأن أكثر من 70 طفلًا سقطوا ضحايا عشوائية الألغام بينهم 10 أطفال سقطوا عند الحواجز، وفي المناطق القريبة من خط النار.
وتفيد معلومات "الساحل الغربي" بأن ما يقارب 200 طفل في تعز فقدوا أطرافهم خلال حرب الحوثيين على المدينة.. إلى جانب ذلك، تأتي أعداد ضحايا سوء التغذية من أطفال المدينة بسبب الحصار، ومن واقع كشوف رسمية موثقة تقدر بأكثر من ألف ضحية، بينهم 15 حالة وفاة.