شقيقان ونهايتان في نفس المكان... ثقبه قناص حوثي برصاصة في صدره بعد ثلاث سنوات من قنص شقيقه
- تعز، الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
- 06:34 2023/08/17
رحل صدام، مُعيل الأسرة الوحيد، وبقي محمد، يصغره بثلاث سنوات، الذي وجد نفسه ينوب مكانة أخيه.. وبعد ثلاث سنوات رحل هو الآخر بذات الطريقة وفي ذات المكان.
مُسن، في عقده الخامس، يستند على كتفي ولديه الكبيرين بعد أن أفنى عمره في العمل.. عاش حياته حربًا مفتوحة من أجل أسرته.. يُقاتل فيها باحثًا عن لقمة عيشه.. لم يجد طريقًا غيرها للخلاص من هموم ظروفه.. تُرهقه الأيام، لكنه لا يتوقف، فالألف الريال (الدولار الواحد) قد يعني له الكثير.. يحصل عليه بعد جهد مُتعب وعناء طويل.. هؤلاء الآباء دائمو النظر إلى أبنائهم بعين تتساءل متى تكبرون لتعملوا بدلًا عنا.. فقد شخنا وأصبحنا عجائز.. أمنية الأغلبية من الآباء اليمنيين.
شاخ جسده، وانحنى ظهره، واشتعل الرأس شيباً.. سلطان عبد القادر، رجل الكفاح والعمل الحر، وخبير المهن الثقيلة كالحدادة والنجارة والبناء.. يعيش في منطقة الشرف الواقعة في "صالة" والقريبة من الحد الفاصل بين جبهتي الحوثي والمقاومة.. للرجل أسرة كبيرة العدد، تتكون من 12 فردًا، ستة أولاد، وست فتيات.. ما إن شَبَّ ولداه صدام ومحمد حتى صارا عكازتين يتوكأ بهما في حياته.
روحان من روحه، ومصباحا البيت المعتم، ونورها الطاغي، وكنزه الوحيد وثروته القائمة.. يؤمن والدهم بالمَثل الشعبي القائل إن من يمتلك الأولاد لا يمكن أن يبقى فقيرًا طويلًا، ومن كان عكس ذلك فليس في عينيه نور.. والأمثال ديوان مفتوح يختصر التجارب.. شقيقان كانا فرحة الأب وبهجة الأم، بل وعمودان يسندان ذلك السقف الذي ترعرعا تحته.. أرادا أن يُقدّما لوالديهما القليل من الراحة، وأراد القناص عكس ذلك.. خطف روحي المنزل وعموده الفقري ليُخيم الحزن فوق ساكنيه.
صدام، ومحمد.. في العشرينيات من العمر، عاشا حياة تقشف ومعاناة، وسط أسرة تعتمد كلياً على عمل الأب.. أقعد المرض والدهم فزادت حياتهم تقشفًا.. الأمر الذي جعل صدام، 27 عامًا، يعمل سائقًا لإحدى الدراجات النارية.. تلك المهنة الوحيدة التي يجيدها.. مهنة للرزق ووسيلة للموت، قد لا يرعبه الأخير بقدر ما يعنيه سابقه، ذلك حال المجبرين.. في العام 2017م فضّل الانتقال إلى منطقة الحوبان والعمل على دراجته عوضًا عن الدراسة الجامعية، ليختصر طريقه إلى المستقبل كما لو أنه يختصر الطرقات بعجلته، ناهيك عن أسرته التي كان يزودها بمصاريف شهرية.
شقيقان ونهايتان.. وقناص!
ثقبه برصاصة في صدره بعد ثلاث من قنص شقيقه
بعيدًا عن الأهل، قضى الشاب ما يزيد عن خمسة أشهر مُنهمكًا في عمله.. في صباح أحد أيامه، قرر العودة، وزيارة عائلته الساكنة منطقة التماس.. يأمل رؤية والده، ويشتاق حضن أمه.. مُسرعًا على دراجته يقطع طرقًا أشد وعورة لأكثر من 6 ساعات مُتتالية، لكنه لم يصل.. هناك على بعد بضعة أمتار من منزله، لقى قدره أمام عيني والدته رقية التي تقول باكية: "عاد من أجل يزورنا.. اتصل لي وقال أنا بالطريق، سنلتقي اليوم.. أربع ساعات، وأنا عندك، وبقيت أنتظره أمام الباب.. لما شفته قريب فرحت، وهو كان يبتسم.. في تلك اللحظة أصابته طلقة القناص بالصدر وسقط ينزف دم".
هكذا تتحول بعض لحظات الشوق إلى بكاء وجراح عميقة.. بالكاد لم تقوَ الأم على رؤية ولدها ينازع الموت.. لم تتمالك، تصرخ بصوتها ثم تسقط في حالة من الإغماء.. يخرج من في البيت، البنات بجوار والدتهن، والأب مع أولاده حول الضحية.. يتحسسون جسده، صدر نازف وقلب شبه نابض يريد الخلاص والتوقف.. لا يجدون أملًا لإسعافه وإنقاذه، وفوق هذا أخذ محمد أخاه مُتجهًا إلى مُستشفى الثورة، لكن يبدو أن أوانه كان قد فات.
رحل صدام، مُعيل الأسرة الوحيد، وبقي محمد، يصغره بثلاث سنوات، الذي وجد نفسه ينوب مكانة أخيه.. حاول جاهدًا أن يخفف ألم الفراق ووجع الفقدان بتحمله للمسؤولية، وكي لا يُشعِر والديه بغياب شقيقه الأكبر.. أراد أن يكون الاثنين (محمد وصدام) في آن واحد.. كانت السادسة صباحًا موعد خروج الشاب للعمل.. ينزل إلى وادي صالة، وهناك يقتطف شجرة القات حتى الظهيرة ثم يتوجه إلى أسواق المدينة لبيعه.. عمل طويل وشاق، بل ومسؤولية ليست سهلة على عاتقه، إذ يعود منها عند غروب شمس كل يوم.
ذات مساء، كان محمد في طريقه عائدا إلى المنزل.. يتسلل خفية بين الأشجار، يتنقل من مترس لآخر.. يخطو بحذر، ويخشى القناص، الذي تمكن من رصده، وثقبه برصاصة في صدره، بعد ثلاثة أعوام من قنص شقيقه.. ثُقِبا في ذات المكان، بحسب والده.
بالأمس كان مُنقذًا، مُلطخًا بدماء أخيه، واليوم صار ضحية مُضرجًا بدمائه.. ووفقًا لحديث والده فإنه: "نُقِل على ظهور إخوانه الصغار للمستشفى العسكري، ثم إلى الصفوة.. عملوا له عملية، وبقى في غرفة العناية حتى الصباح.. ما دريت إلا وهم يتصلوا لإبلاغي "ابنك توفي".
أن تصحو على رنين هاتف يحمل خبر وفاة ولدك.. بالتأكيد ستشعر أن أحدًا يسعى إلى قتلك خنقًا.. غصة لن تبارح روحك، وحزن لا يغادر قلبك.. تُسائل نفسك أي عزاء سيقام في سيادة الموت، وأي موكب يليق بتشييع جسده.. رنة الموت سترافق حياتك، لن تفارق مسمعك.. رنين يُجبرك على البكاء بصمت وذهول دائم.
مغامرة يومية..
استسلام واضح للموت
على شفا حفرة من الموت، وعلى مرمى حجر من قاتلك، قد تصبر على العيش في خطوط كلها نيران قناصة، ومن حولك بيوت بلا أناس.. لا خيار سوى أنك تتجول وتتفاعل مع الحياة من أطرافها الخطرة.. حياة تعني الاستعداد للموت أو لفقدان قريب أو صديق.
اليوم يسكن سلطان وأسرته جوار مدرسة عمر بن عبد العزيز، الواقعة في وادي صالة، تعلوها تبة "السلال" بقناص مُحترف.. وذلك بعد أن تركوا منزلهم في الجهة المقابلة للتبة، منذ حادثة قنص محمد.. ربما يحتمون بمبنى المدرسة الذي يبدو في الصورة هيكلا عليه آثار واضحة لطلقات قناصة.. هكذا هي الحياة في زمن الحرب، ينزحون من مكان الخطر إلى طرفه الأقل خطورة.
أحجار، ثياب، وأشياء بلاستيكية، وضعها الرجل على نوافذ المنزل الذي يسكنه بغرض الحماية.. لم يعد العيش هنا يسمى سكنًا، فكل المؤشرات تفيد عكس ذلك.. لا سكنًا ولا سكينة، يجلسون على قلق، لا يجرؤون على إنارة الأضواء ليلًا، أو الصعود نهارًا إلى السقف والظهور.. يعيشون تفاصيل مؤلمة والمتتبع لحياتهم اليومية، قد يرصد أو يلمس جزءًا منها.. المياه تكاد تنعدم، ما يجدونه هو القليل مما يتجمع خلال الأيام الماطرة، قد لا يكفي حاجتهم.. فما بالك إن انعدم تماما، فالحصول عليه ليس سهلًا.
ظروف معيشية سيئة، وكفاح مُستمر خصوصًا بعد رحيل ولديه، فقد عاد سلطان إلى العمل في شوارع المدينة.. عند الخامسة من فجر كل يوم يتسلل الأب بين الأشجار، يمشي بهونٍ، وتمويه.. حد قوله- مرة يقتلع الأشجار ليتنكر ويضعها فوق رأسه، وأخرى يرتدي ملابسَ غير واضحة.. مُتخفيًا يمر من بين المتاريس والخوف يملأ قلبه بدقات مُتسارعة، فَزِعًا من أن يلحقه القناص بأولاده وتبقى زوجته مكلومة وأولاده الصغار يتامى، بلا عائل.. يصل المدينة ويبدأ عمله في النجارة حتى المساء.. ليعود إلى منزله بنفس الطريقة التي خرج بها، لكن بعد اختفاء الضوء وحلول الظلام.
سألنا الرجل عن سبب عدم مُغادرته المنطقة رغم خطرها.. رد: "نزحنا وعدنا.. ما قدرنا نعيش ونستأجر في المدينة بالراتب الذي أتقاضاه مقابل عملي.. ولأن دخلنا محدود عُدنا".. استسلام واضح للموت في أماكن مليئة بالمخاطر والأخطار.