ملف - تعز.. القناصة (13)| محمد اليمني حتى آخر المشوار: الروح ثمن الصورة!

  • تعز، الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
  • 03:22 2023/01/03

الصورة أكثر بلاغة من الحديث، تلامس النفس، تُعَبِّر عن آلاف الكلمات، قادرة على تحوير النقاش، وتسليط الضوء على قضايا بعينها، وتحشيد الرأي العام، وتغيير المواقف والسياسات.. تكمن قوتها في اختصارها للزمن والمكان وعناء التحليل؛ لكنّ ثمة صوراً ومشاهدَ مُظلمة في مناطق الحرب، وحده المصور يوثقها كي يشاهد الناس الحدث على عين الحقيقة.
 
مصور الحرب أو مراسل الصورة.. اسمان لمهنة واحدة، مهنة مملوءة بالمتاعب، فضلاً عن المعاناة النفسية التي تتولد نتيجة أحداث مؤلمة، ومشاهد حزينة يعايشها مُلتقط الصورة، لا غيره.. بل ويكون مضطرًا لنقلها إلى العالم البعيد من منطلق الواجب المهني والإنساني.. إنها مهنة البحث عن لقطة لا تُنسى، بعدسة لُطخت بالدموع والدماء.
 
الروح ثمن الصورة أحيانًا..
 
فحامل الكاميرا كما لو أنه يحمل كفنًا.. هي لقمة عيشه، ومصدر رزقه، ووحدها مهنته الخطرة، ومصيره الأليم.. في الصباح أو عند المساء.. وسط شارع المدينة تعز، في منزل قُصِف للتو بقذيفة عشوائية، أو بجوار مدرسة مسح الطيران مبانيها قبل دقائق، فالزمان والمكان لا يعنيان شيئاً، تجده عند كل حدث، وفي كل حادثة لا يغيب.. يتوسط الضحايا، يوثق أنفاسًا مُثقلة، وروح تلهث الرحيل.. قريب من أفواه الناس، وصراخ كل مدني يشكو الحرب والحصار.. ينقل المعاناة، يرصد الانتهاكات، ويوثق الدمار.
 
 
مهنة راصدة، هدفها نقل الواقع، ورفع أصوات المنسيين.. بل فرصة وحيدة تسنح للآخرين رؤية ما وثقته العدسات، وتحت أي ظروف.. ساعة في المدينة، وساعة عند خطوط التماس، وثالثة في الجبهات، يرافق الهجوم، خطواته تسير مع أول مهاجم، بيد تُثَبِّتُ سلاحه الخاص "الكاميرا"، وأخرى على زنادها.. يتقدم بجسد مجرد من أدوات السلامة الخاصة بالصحفيين الميدانيين، يبحث عن المغامرة، ويتجاهل المخاطر.. لا يرى سوى زواياه المُختارة، يقتنص منها مشاهده والأهداف.. لا يتردد، لا يخاف، ولا يهاب الموت.. حين يعتلي ظهر طقم يتوجه نحو المناطق الشرقية أو الغربية، جُل ما يهمه الوصول وقتما تبدأ ساعة الصفر، كناية عن معركة نارية، هي بداية لفتح جديد.. رجل استثنائي، مغامر.. ما من أحد في تعز إلا ويعرفه.
 
محمد اليمني..
 
بهذا الاسم عُرف في الوسط الإعلامي وصل به الاعتزاز بوطنه إلى استبدال لقبه "المجيدي" بـ"اليمني".. يحب بلده، ناضل بصدق، لا يجيد التَلَون، ولا يحبذ التّزلف، ففي صنعاء كان عضوًا في مجلس شباب الثورة في العام 2011، المجلس الذي جمعه بعدد من شباب تعز الذين سرعان ما صاروا حلقة واحدة يتبادلون الأفكار، ويغوصون عمقًا في أحاديث السياسة.
 
 
في تلك الفترة، كان الرجل يفتش بين مشكلات البلد ويتساءل متى سيصبح اليمن السعيد سعيدًا كما اسمه.. وهل سيسود الأمن والاستقرار مرحلة ما بعد الثورة، أم العكس..؟! ثمة أمور كانت تدور في بال اليمني، يناقش الشباب من حوله، الذين انخرطوا في الحوار الوطني، ولم يكتفِ.. فيعود إلى صديقه مجيد الضبابي، مسؤول إعلامي في لجنة الحوار آنذاك، يسأل ما إذا كان الحوار هو المخرج الوحيد لحل مشاكل اليمن، وهل يمكن بناء الأمل على ما يدور خلف الطاولات، لكن توجساته كانت تظهر في سؤاله وجوابه: "كيف الجماعة يحلو مشاكل البلاد..؟! يلعبوا علينا". في همته تتجلى وطنيته، وبحرصه يحضر شخصه الحالم بالحرية والكرامة، والبلد ذو السيادة.
 
سارت الأيام، ومعها جرت الأحداث..
 
سيطر الحوثيون على صنعاء، منذئذٍ لم يطب لليمني المقام فيها، فاختار تعز وجهة لسفره، مدينة المقاومة والثورة والتحولات السياسية التي تؤكد تاريخ نضالها الطويل منذ قديم الزمان.. اندمج مع الشيخ حمود المخلافي، قائد المقاومة الشعبية، وَثِقَ بمكانته، حب تفانيه وإخلاصه النادرين.. رافقه في عمليات التحرير، ووثَّق بطولات المقاتلين.
 
بين الحين والآخر كان يزور الجبهات بمفرده أو برفقة صديقه الضبابي الذي يتذكر مواقفَ كثيرة جمعتهما، وعادة الاستذكار الندب والدموع حالما يبدو عاجزًا، متلعثمًا بنبرة البكاء عند وصف زيارتهما لجبهتي الضباب وجبل حبشي.. إلا أن تذكر أطراف الحديث أثقل ألمًا.. الضبابي: "كنت ألتقي باليمني، ونتحدث في أمور العمل، وعن المردود المالي.. وأتفاجأ حين يقول: "لا أتذكر آخر مرة، أرسلت لأولادي بمصروف، ما يهمنا تحرير البلاد، ونعود صنعاء منتصرين، وإلا كيف سأعود بيتي..؟!"..
 
التصوير الحربي، وتوثيق الدمار، ورصد أضرار أسر سقطت فوق رؤوسها قذائف عشوائية، مبانٍ ومنشآت نُسفت بصواريخ الطيران.. كل ما تخلفه الحرب كان شغله الشاغل، ومهمته الصعبة التي يخوضها بحماس نادر، وتفانٍ عجيب.. بالمقابل كان ملف المدينة يعني له الكثير، لهذا كان مدركًا لما يدور فيها.. فالاهتمام يقال إنه طريق إلى المعرفة. 
 
"لماذا يتعمد التحالف العربي، والشرعية إهمال ملف تعز..؟" تساءل اليمني، لم يكن هذه المرة لمن حوله، وإن حدث ذلك فهو بغرض البحث عن الأسباب.. إنما كان للمدينة بعينها، يحاول أن يجد تفسيرًا منطقيًا للإهمال والتهميش، والدعم غير الكافي، وعدم الجدية في مسألة التحرير.. ظل يرى أن ثمة أموراً خفية تعرقل الحسم العسكري، وتقف أمام معركة مصيرية تخلص المدينة من جماعة تحاصر المدنيين بالموت جوعًا قبل الموت قنصًا أو قصفًا، وهذا ما كان يجعل الرؤية أكثر ضبابية.
 
عصر الواحد والعشرين من مارس 2016 كان موعد معركة تحرير المنفذ الجنوبي الغربي للمدينة.. ثلاث دبابات، أربع مدرعات، ومئات من أفراد المقاومة بقيادة المخلافي تهدف إلى تحرير حدائق الصالح القريبة من الضباب.. يومها رفيق المعارك، وموثق الأحداث كان قد أخبر الضبابي مجيد: "صبرك.. اليوم باسهر عندك"، مستبشرًا بالنصر، لكن خطأً حال دون وصوله.
 
 
وبحسب أحمد باشا، أحد زملاء الصورة لليمني، كان يتوسط تجمعًا من الصحفيين والمصورين أثناء وصولهم إلى المنطقة يوثقون التقدم إلا أن كميناً مرتباً استهدف التجمع برصاصات كثيفة: "هاجمونا الحوثيون، ونحن في شارع يخلو من السواتر.. تشتتنا، جرينا مسافة كبيرة.. كنا نتغطى خلف مدرعة أو طقم ثم نواصل.. كانت أصوات الرصاص مخيفة، واحدة تنفجر جنب رأسك، وأخرى في الأرض.. مشهد من الجحيم".
عادة اليمني قضت أن يكون دائمًا في الخط الأول.. يوم الحادثة كان في المقدمة يبعد عن تجمع المصورين بعشرة أمتار.. لهذا كان أول الضحايا، غدرته طلقة بالخلف من رأسه.. هرب الجمع، وبقى اليمني شهيدًا على الأرض، وحبل عدسة معلقة على عنقه، ملطخة بالدماء.. هكذا تغيرت خطته بفعل فاعل، فبدلًا من السَمَر في منزل صديقه، غادر كل أصدقائه ليلقى خالقه.
 
 
كسرة قلب، ودمعة عين، وصدر يائس في يوم ملبَّد بسواد الحزن والعزاء.. بعبارات قصيرة، هي أبلغ في توصيف حزن أنس الحاج، الذي تفاجأ حين رأى زميله يفترش ظهر هايلوكس مسرعة، والمصابين من بعده.. وثق المشهد، ثم غادر المكان.. وعند ثلاجة الموتى، كان مأتم الصحفيين، بكاء وفقدان، صدمة الرحيل والهجران.
 
شجاعًا في الحياة، وبعد الممات، ويمني حتى آخر المشوار.. في ثلاجة الموتى، جسد بجَرَمٍ أسود اللون، يتخلله خطوط عرضية بيضاء، تلطخت بدمه الأحمر الحر، لتشكل توليفة متناغمة لعلم جمهوري صار كفنًا يرتديه رجل ثابت المبادئ، راسخ القيم، مخلصًا في حبه للوطن، وتفانيه بالنضال.. حقًا إنه أسد الصحافة، حسن القول، نبيل الرأي، جسورًا بنفسه، شجاعًا في عمله.. عزيزًا، يحب الجميع ويحبونه.

ذات صلة