ملف - تعز.. القناصة (10) | "طفلة الماء" قصة أقرب من مُعجزة.. موت مُحقق وإنقاذ بطولي

  • تعز، الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
  • 08:50 2022/05/22

موت مُحقق وإنقاذ بطولي...
"طفلة الماء".. أيقونة جديدة للمعاناة
عودة "رويدا" إلى الحياة رويدًا رويدًا
 
بجوار وعاء بلاستيكي، طفلة في العقد الأول من العمر، مُلقاة على الأرض بثياب بسيطة ومُهترئة.. حافية القدمين، مُنكفئة على وجهها، باسطة ذراعيها فوق بركة من الدماء النازفة.. رأس مثقوب من الخلف، وجسد صغير روحه على المحك، وقدمان يُضاربان بعضهما.. لربما تريد الخلاص مما هي فيه من عذاب، أو التماسك بحياتها كي تستطع إعادة ذلك الوعاء الذي خرجت من أجله.
 
طفل يسحب طفلة بعد تعرضها للقنص.. يسحب شقيقته لينقذها من الموت في مشهد سريالي، يجرها على الإسفلت من إحدى قدميها.. ومع كل خطوة يخطوها المنقذ إلى الخلف كان رأس الضحية يترك خلفه سيلًا من الدماء.. مشهد يُعيد إلى الأذهان قصة "محمد الدرّة".. تلك القصة التي هزت الضمائر أجمع، وأبكت العيون والقلوب معًا وهم يشاهدون على قنوات التلفزة طفلاً يحتمي خلف ظهر والده الذي حاول عبثًا أن يحمي صغيره، ولم يفلح.. بعكس الطفل عمري الذي استطاع إنقاذ شقيقته التي صارت أيقونة جديدة للمعاناة تُدعى بـ"طفلة الماء".
 
 
تفاصيل .. الماء والدماء!
 
رويدا، وعمري.. طفلان تصغر الأخت أخاها بعامين، يعيشان مع والدهما الثلاثيني، دون والدتهما التي اختارت الانفصال لتترك طفليها بين جحيمين: الظروف والقناص.. شقيقان وحيدان في البيت، يعتمد والدهما عليهما في كثير من الأشياء.. مساء السابع عشر من أغسطس العام 2020م خرجت رويدا في رحلة مع أخيها، ليس للتنزه واللعب، كما هو حال الكثير من الأطفال، بل للبحث عن قليل من المياه، تروي به ظمأها، وعطش الآخرين في المنزل.. كانا يحملان دبة (وعاء) فارغة، صفراء اللون، كبيرة الحجم، لا يقوى أحدهما أو كلاهما على حملها.
 
عبرا البيوت المجاورة، وقطعا الشارع المؤدي إلى جولة سبأ، وصولًا إلى مكان خزانات السبيل (خزانات تبرع بها محسنون أو جمعيات خيرية أو إغاثية).. ساربت الفتاة من أجل تعبئتها، فيما راح شقيقها يلعب مع الأطفال.. ملأتها ثم نادت أخاها يساعدها في زحزحة الوعاء المملوء، لكن القناص تَدَخّل وأراد مساعدتها بطريقته، وتخليصها من عذابها اليومي بقتلها، رماها بسهم الموت بطريقة وحشية وأكثر إجرامًا.
 
لم يكن إهمال الأب سبب تعرض الطفلة للقنص، إنما ظروف السكن والمعيشة على خطوط القنص هي من ساقت الضحية إلى هناك.. يقول عمار صالح، والد الطفلة: "نحن قريبون من المواجهات، نسكن جوار مسجد الإيمان بالروضة، لا قدرنا ننزح ولا نبقى بأمان.. نزح كل أهالي المنطقة، ولم يتبق إلا أنا وجهالي، وأربع بيوت جنبنا.. كنا نتحاصر ونخرج نجمع المياه من البيوت المتروكة (الخالية من السكان).. أما في الأوقات التي ما يكون فيها قنص، يخرجوا الأولاد".
 
 
ويضيف الرجل: "كانا يسيران في الشارع. ملأوا الدبة، ثم اتجه عمري ليساعد أخته في إيصالها.. عندها سمع طلقة الرصاصة، ورأى أخته تقع على الرصيف.. افتجع وهرب إلى طرف الشارع". فرّ يحتمي بنفسه، يُخادع القناص ليعود إلى إنقاذ أخته بتخفٍ وكأن إلهام الرب هو من يُسيّره.. عاد زاحفًا مُتخفيًا إلى جوار شقيقته. يسحبها من رجلها في مشهد مُوجع وثقته الصور.. يروي الطفل الحادثة: "هربت وكنت أبكي، فجأة حسيت إننا لا بد أنقذ رويدا، زحفت نحوها ثم سحبتها إلى الطرف الآمن، شفتها تحرك رأسها، صيحت لأصحاب الحارة، وأخذوها للمستشفى".
 
وبحسب بشير حميد، ابن عم الطفلة، فإنه شاهدها وهي تقع أرضًا بينما طفلة أخرى تمكنت من الفرار وسط رصاصات متتابعة على الضحية، كما صادف خروج أخيها الذي قام بسحبها إلى المكان الظاهر في الصورة التي وثقها أحد ساكني الحي من نافذة منزله.. حملها بشير في حضنه وقاد دراجة نارية كانت بالقرب منه مُتجهًا نحو مستشفى الروضة، ثم إلى الصفوة بعد أن فقدت دماء كثيرة.
 
نجا بأخته وسط خوف بالغ، ورصاصات من حوله، شيء نادر فعله طفل قاصر، ربما لم يتجرأ غيره على القيام به وإن كانوا شباباً.. يقول الصغير إنه لم يتأثر بالرغم أنه عايش كل ذلك الرعب.. إنه شخص عصامي، تغلبت إنسانيته على خوفه، فتحدى قاتل رويدا ونجا بها.. لم تنتهِ مهمة الطفل بعد، إذ وجد من الضروري إخبار والده بما حدث.. عاد مُسرعًا بوجه شاحب عكس ما خرج تماماً، ومن دون رويدا.
 
 
طرق الباب، صائحاً بملء فمه "رويدا قُنصت بالرأس". على عجل خرج الأب مفزوعًا، يؤكد: "افتجعت على بنتي من الموت، كان شعوري أب حزين على أطفاله، فأنا من رباهم". في أروقة المستشفى وطواريده يحوم الرجل وكله قلق وتوتر على رويدا، آخر أطفاله وفقدانها ليس سهلًا عليه.
 
"رويدا" ... رويداً رويداً
 
خمس ساعات، هي المدة التي مكثتها طفلة الماء في غرفة العمليات.. لم تكن العملية التي خضعت لها بسيطة، بل مُعقدة حد وصف الأطباء.. على سرير غرفة العناية المركزة نامت رويدا برأس ملفوف بالشاش الأبيض، وحيدة، ليس بجانبها أحد.. لا شيء أمام والدها سوى الانتظار، فقد استوطن سبع بلاطات من ممر عام خارج الغرفة، يشاهد حاملي الكاميرات بمختلف أحجامها، يلتقطون صورًا لجسد هامد، ومن حوله أجهزة بأصوات مُخيفة، ثم يعودون لإقناعه بالحديث لهم، والبحث مع الأطباء عن تفاصيل أوجاعها التي تركت بصمات واضحة على جسدها المرهق.
 
 
التعاسة ذاتها أن يبلغك الطبيب بالحكم التالي: عد إلى منزلك، الطفلة ستستيقظ بعد أسبوعين أو شهر، وقد تكون فاقدة للذاكرة.. زد على ذلك مني حكمًا أتعس: لست في الخارج، أنت في تعز.. يا لها من كلمات صادمة في مدينة منكوبة وبلد عاثر الحظ.. يُغادر الأب ليلًا على وقع تلك الكلمات التي تخلو من التفاؤل بصحو الطفلة وطول عمرها.
 
رويدا على فراش الصفوة بين الحياة والموت، ووالدها على فراش بيته بين الصحو والنوم.. يفكر بحديث الطبيب، ويتساءل ماذا لو فارقت طفلته الحياة، هل سيواجه هذا الخبر الصادم كما واجه خبر قنصها.. يستيقظ، يصلي ركعتين، حد قوله، ثم يلهج بالدعاء لها.. صباح اليوم التالي كان الأب بالقرب من غرفة الطفلة، ينتظر الأخبار من الطبيب المناوب.. لا جديد، هو كل ما قيل له. لم يُبارح مكانه، ولسانه لم تفارق الدعاء.. تمر الساعات وتتطلب الضحية المزيد من الأدوية، بلا نتيجة.
 
كان الوقت يشير إلى الثانية عشرة وبضع دقائق من ظهر ذلك اليوم حين استفاقت رويدا من غيبوبتها، وبدأت تحرك يدها.. تصور طفلة على سرير العناية منذ يومين لم تفق، وعليها أسلاك المغذيات والدم.. تصحو فجأة، تصرخ وعيناها مليئتان بالدموع، تبكي وتتوجع، ولا أحد يسعى لتهدئتها.. فرحة الأب باستعادة ابنته قد لا توصفها كلمات عابرة ولا أسطر مصفوفة ضمن قصة أصبحت أشد قربًا من مُعجزة.. من هنا كانت نقطة البداية لعودة رويدا إلى الحياة بعد أن كانت على شفا حفرة الموت.
 
يوم يأتي، وآخر يذهب، وطفلة الماء تتلقى العناية.. تزداد التكاليف، ولا يجد الأب ما يدفعه، لكن الاستياء الشعبي الواسع والتنديد الحقوقي الذي لاقته هذه الحادثة ناهيك عن اهتمام الكتاب والصحفيين.. أمر جعل بعض التجار وفاعلي الخير يقفون إلى جانب الرجل المتأثرة نفسيته وظروفه بالحرب.
 
 
شهرًا كاملًا قضته الطفلة في الصفوة حتى استعادت جزءاً من عافيتها، لتعود بعد ذلك إلى حيّها، حيث قُنصت.. ذلك الشارع المؤدي إلى جولة سبأ، الواقعة بين شرقي كلابة والروضة.. شارع بمبانيه يقع كليًا أمام فوهة بندقية القناص المتمركز أعلى تبة "الذهب".. القاتل الصامت، كما يسميه أهالي الحي، الذين وصفوه بالمزاجي أيضاً، وعللوا ذلك بأنه لا يقنص الجميع، بل يختار من يريد، وعادة ما يكونون أطفالًا.. في شارع اعتبره أطفال المكان ملعبًا وحيدًا، يلعبون فيه عند كل مساء.. لا يملكون البديل، لذا ما زالوا يلعبون كرة القدم، والركض خلف بعضهم رغم ما يحيطهم من خطر.. يبحثون عن سلام مهما كان نوعه، ولا يجدونه.
 
جرائم.. لا تسقط بالتقادم
 
يقول البعض، إن هذه الجريمة لو حدثت عند شعب حيّ، لكانت شرارة لا تهدأ ولا تنام، ولأشعل الأرض تحت أقدام المجرمين.. ويتساءلون هل تبَقّى لدينا جلد يحس، ونخوة تُستثار، أم أننا ارتكسنا لأسفل درجات المذلة والهوان؟! فيما يرى آخرون أنه لو لم يكن للحوثيين من جريمة بحق الإنسانية في تعز سوى قنص طفلة في شارع عام لكفاهم محاكمة وعزلهم عن الحياة العامة، وتهجيرهم من اليمن.. لكن وبالرغم من هول الحادثة إلا أن مجلس الأمن الدولي لم يقم بواجبه الأخلاقي والإنساني من منطلق الوفاء بالقوانين والتشريعات التي وضعها، وفقًا لحقوقيين.
إقرأ أيضاً:
- تعز.. القناصة | ملف (9) - شقيقان.. ثُقِبا صدراهما في ذات المكان "صالة" !
- تعز.. القناصة | ملف (8) إنسانية الحالمة «رهام البدر» في ذكرى قنصها: موثِّقو الحرب.. ضحاياها!
- تعز.. القناصة | ملف (7) - قصة قنص عاقل عُقّال حي الروضة وطالب في امتحان الثانوية وطفل أمه "عبدالواحد"
- تعز.. القناصة | ملف (6)- «مُخلص طاهر» امرأة لن تتكرر.. ثلاثة ورابعهم أمهم ضحايا قناصة الحوثي
- تعز.. القناصة | ملف (5)- أول ضحايا القنص من المقاتلين ولمرَّتين.. قصة الشاب الشرعبي «بين طلقتين وعكازتين»
- تعز.. القناصة | ملف (4)- ثالث ضحايا قناصة الحوثي بتعز.. قصة الناجي من 6 رصاصات في جولة القصر
- تعز.. القناصة | ملف (3)- قصة ثاني ضحايا قناصة الحوثي بتعز: أبٌ في طريقه إلى أولاده!
- تعز.. القناصة | ملف (2) - "فردوس" الناجية تروي مأساة أول ضحايا قناصي الحوثي بتعز.. برصاصة واحدة رضيع ووالده قتيلين!
- ملف (1)- ضيف الله الصوفي يُحَقِّق في حلقات : تعز.. حياة مُحاصَرة بالقناصة، تعايش يومي مع الموت
مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، بل يبقى مُرتكبوها تحت طائلة المسؤولية، طبقًا لما قالته منظمة "سياج" للطفولة، التي أدانت قنص الطفلة رويدا، واعتبرت استهداف أطفال تعز عمدًا وبشكل مباشر من أبشع الجرائم على وجه الإطلاق.
 
طفلة الماء قصة بُعديها موت مُحقق، وإنقاذ بطولي.. نُسجت بخيوط ملونة بلون دم الضحية، وشجاعة أخيها، وحزن والدها، وجرح المدينة، ووجع أبنائها.. رويدا عادت إلى الحياة رويدًا رويدًا، لتقف اليوم برفقة مُنقذها في زوايا الشارع ذاته، يحكيها مُجازفته وبطولة إنقاذها.

ذات صلة