ملف - تعز.. القناصة (2) | "فردوس" الناجية تروي مأساة أول ضحايا قناصي الحوثي بتعز.. برصاصة واحدة رضيع ووالده قتيلين!
- تعز، الساحل الغربي، تحقيق/ ضيف الله الصوفي:
- 09:27 2021/07/02
ملف | ضيف الله الصوفي يُحَقِّق في حلقات : تعز.. حياة مُحاصَرة بالقناصة، تعايش يومي مع الموت (2)
إبادة أسرة.. حكاية الفقد الكبير؛ الزوج والولد!
"فردوس" الناجية: تروي لـ"الساحل الغربي" قصتها مع قناص تبة السلال
أول ضحايا القنص.. رضيع ذو عام واحد ووالده!
وجهٌ اختلط فيه الدمع والدم، وجسدٌ يرتعد من شدة الخوف. ترتجف كما لو أنها قضت عاماً كاملاً تحت الثلج المتساقط دون ما شيء يقيها، ثم تغيب عن وعيها لتصحو على واقع مُر، واقع لم تجد فيه طفلها الصغير الذي اعتادت سماع ضحكاته اللطيفة، ولا زوجها العمود الذي تستند عليه. لقد قُنصا أمامها.. أمام فردوس، التي روت لنا قصتها مع قناص تبة "السلال".
بنبرة مليئة بالوجع والفقد، قالت: "زوجي وابني قُنصا بجانبي.. دماؤهما تطايرت إلى وجهي الباكي، وجسدي الذي كان يرتجف من شدة الرعب"، عبارة ملؤها الحزن والألم، البكاء والندم، القنص والدم.
فردوس، ابنة تعز، التي حَنّ قلبها وزوجها سليم العريقي لزيارة الأهل، ومعهما طفلهما الصغير. حكت لنا حكايتها الأليمة، حكاية الفقد الكبير، فقدان الزوج والولد معاً، وما زالت بذات الحزن، والرعب، والبكاء من وقت الحادثة وحتى اليوم.
إقرأ أيضاً:
- ملف | ضيف الله الصوفي يُحَقِّق في حلقات : تعز.. حياة مُحاصَرة بالقناصة، تعايش يومي مع الموت (1)
تبحث عن أكسجين لتتنفس، تتوقف عن الحديث، ثم تلتقط أنفاسها بصعوبة، تغمض عينيها فتسقط دمعة مُعلنة الضعف والفقد اللذين يخيّمان على قلبها.. فردوس التي عادت بحديثها إلى يوم الحادثة لتتزاحم التفاصيل المُرعبة في ذاكرتها. تحاول بدموعها المُتساقطة أن تمسح الدم الذي ظنته لا يزال يُلوّن وجهها بالأحمر.. الأحمر الذي أخذ النصيب الأكبر من الكره عندها من بعد تلك الحادثة.
بعينين مرهقتين بالدموع، تحاول التماسك لتكمل حديثها، وتصف يوم الحادث -الذي كلما زارتها ذِكراه يحنّ قلبها وتموت ألف موتة- قائلة: "يوم الخامس من أكتوبر العام 2015م، هي يوم القنص وذكرى الحادثة.. كنا في طريقنا من صنعاء إلى تعز، أني وزوجي سليم وابننا محمد، البالغ من العمر عاماً واحداً.. نزلنا بغرض زيارة أهل زوجي، وقضاء أيام عيد الأضحى في مدينتنا وبين الأهل".
الساعة التي تتفاقدها بين الحين والآخر وضعتْ في قلب فردوس حسرة اسمها الثانية مساءً. تستطرد المرأة: "كانت الساعة تشير إلى الثانية مساءً حينما وصلنا إلى آخر نقطة للحوثيين الواقعة عند مدخل حسنات، المنطقة المجاورة لحي ثعبات.. استوقفنا الجندي بغرض تفتيش السيارة.. فتح شنطة السيارة الخلفية، ووجد شِناطاً وأكياس الملابس، كان يفتشها وكأنه يبحث عن شيء، سلاح ربما.. أكمل مهمته ثم سمح لنا قائلاً "اعبر، اطلع يلا".. الأسلوب ذاته لمقاتلي الحوثي عند كل نقطة.
طمأن قلبها، ردد عليها كلمات كُلّها أمل، ناداها أن لا تخافي، امسكي محمد.. تتابع فردوس سرد وضعهما والطفل الصغير بعد أن تجاوزوا النقطة: "كان المكان كُله خوفاً، نرى تجمعات المسلحين والأطقم، وسليم يردد: "لا تخافي".
وبعد نُهدة عميقة غادرتها بألم تقول: "تمالكتُ نفسي.. عبرنا الطريق بسرعة مُتوسطة.. وصلنا إلى جانب مبنى الهلال الأحمر تحديداً.. وبشكل مفاجئ سمعنا صوت طلقة غريبة، لأول مرة أسمعها.. حينها تعثرت السيارة وأحدثت إزعاجاً عند مؤخرتها.. قال سليم "القناص أصاب إطار السيارة".. لكن طلقة أخرى قطعت حديثه، كانت هذه المرة عند المُقدمة.. وبدأت السيارة تتوقف، فشعرنا أن الموت يحلق بجوارنا".
صراخُ طفل، دموع بريئة، عَلِقَت على ملابس والدته، ثم خرج من حضنها لتودِعه في مكان آمن، حضن والده الذي سيشاركه الموت. وبأمر من زوجها تحركت إلى الكرسي الخلفي. وفي الاتجاه المُقابل قناص الحوثي الذي استوقف السيارة ليتمكن من تثبيت عدسته على الأرواح البشرية بداخلها. وبتوقف السيارة توقفت ثلاثة قلوب، قلبان مدفونان تحت التراب، والثالث ميت منذ لحظة الحادث.
سمّر قناص الحوثي بندقيته على رأس الطفل الذي لا يقوى على مُقاومة حجر صغير فماذا إذا كانت رصاصة قناصة.. ولم يكتف القناص بقتله بل صوّب طلقته بعناية لتُردي الطفل ووالده قتيلين..
قالت المرأة لـ"الساحل الغربي": "اخترقت الرصاصة رأس محمد لتسكن صدر زوجي، وتقتل الاثنين معاً أمام عيني". أمام عينيها قُتل الاثنان. تمنت لو أنها عمياء لا تُبصر، فالذكرى تعود لتُرسم أمامها الحادث، صوت طفلها الباكي، طمأنة زوجها، قلقه عليها، وحمايته لها، بينما هي كانت عاجزة عن فعل أي شيء.. كل هذا يعود.
طفل لم يتجاوز العام، ووالده يقعان ضحية طلقة غادرة.. وأم تختبئ بروحها خلف كرسي الموت التي تحولت إلى بركة من الدم.. وبهذا تشرح المرأة: "من الفجيعة كنت أصيح وأصرخ بكل صوتي.. أشوف الدم فوق يدي وعلى زجاج السيارة، وفي كل مكان. يا محمد أني أمك جاوبني، تعال عندي بمسكك، يا محمد جاوبني لو سمحت، سليم ليش أنت ساكت؟ جاوبوني.. محمد.. سليم.. جاوبوا.. لكن لا صوت يصدر منهما، لا حياة، لا منقذ، ولا أمل. ذهبا إلى الأبد، وبدأت فردوس تبكي زوجها وابنها بكاء لم تبك مثله من قبل -حد قولها-، وظل القناص يبحث عنها برصاصاته كي تُرافق طفلها وزوجها في رحلتهما الأبدية.
هكذا بقت فردوس حبيسة السيارة، لا تقدر على الخروج خوفاً من القناص الذي لم يكتف بقتل عزيزين عليها، وكأن هدفه هو إبادة الأسرة بكامل أفرادها. هذا ما أكدته بقولها: "تجمدت في مكاني.. الخوف قتلني حين كنتُ أسمع صوت الرصاص تسقط جنبي وخلفي.. أصيح ساعدوني يا ناس، ابني قُتل، زوجي قُتل.. وما تجرأ أحد يقدم إلى السيارة". هكذا أبقاها القدر تستغيث تحت رحمة القناص ونيرانه دونما مُجير أو مُنقذ.. وبقدر خوفها وهلعها إلا أنها واصلت صراخها وبكاءها حتى سمع صوتها المُتعب أحد رجال المُقاومة يدعى طه سرحان.
ومن جانبه يقول طه سرحان لـ"الساحل الغربي": "سمعنا صوت امرأة تصرخ انقذوني انقذوني.. أرسلنا الاستطلاع فتفاجأنا بطلوع سيارة إلى ثعبات من خط ممنوع المرور فيه؛ نظراً لوجود قناص حوثي في الاتجاه المقابل".
ويضيف: "تواصلت مع القيادة وأبلغتهم بالأمر، وأن هناك امرأة تستغيث.. وصل التعزيز واشتبكنا مع الحوثيين لمدة ساعتين.. وبعد تغطية مُكثفة استطاع اثنان من الشباب المقاتلين الوصول إلى السيارة وإنقاذ المرأة.. ومن ثم أخرجنا جثتي سليم وولده".
قناصو الحوثي.. رعب ودموية
وبالرغم من الاشتباكات التي حصلت بين رجال المقاومة وميليشيا الحوثي إلا أن القناص ظل تركيزه باقياً على المرأة وكأن لسان حاله "لا بدّ أن أقتل الأسرة كلها، لن يقدروا على إنقاذك أو حمايتك".. الأمر الذي يوضح وحشية القنص، ودموية قناصة الميليشيا، فعلى مدى سنوات الحرب ارتكب قناصو الحوثي وما زالوا يرتكبون أبشع الجرائم ضد مدنيي تعز.
"لا تخافي بننقذك.. اصبري" هذه الكلمات أشعرتني قليلاً بالأمان وسط اشتباكات دامت لأكثر من ساعتين -كما تقول- وقناص لم يغفل عن الجسد الباقي على قيد الحياة.. حتى وصل اثنان من المقاتلين وأني بحالة صعبة، صرخت أمامهم ثم لم أدرك حين أخرجاني من السيارة". بحالة يُرثى لها أُخرجت فردوس، خائفة مرعوبة، مُلطخة بالدماء.
في تعز مُسلسل طويل من الوحشية والترويع، فعلى سبيل المثال فردوس التي حوصرت داخل السيارة بعد أن جعلها القناص امرأة ثكلى، مكلومة؛ بل وأرملة أيضاً.. أي وحشية هذه التي يُمارسها قناصو الحوثي ضد المدنيين منذ الوهلة الأولى لاندلاع الحرب في المدينة.
وأنت تتحدث إلى رجال المُقاومة الذين كانوا شهوداً على هذه الحادثة سيشرحون لك بشكل مؤلم كيف حوصرت المرأة وكيف أنقذوها.. إنما كيف وجدوها مُكبلة بالخوف والرعب، لا تقوى على الكلام أو الحركة.
يتذكر أحدهم لـ"الساحل الغربي": "عندما وصلنا إلى السيارة وجدنا المرأة مُنهارة، تبكي وتردد القناص القناص.. ثم أُغمي عليها". ويضيف: "أخذناها، وأخرجنا سليم وابنه من السيارة إلى داخل بطانية.. وجدنا محمد مُصاباً بطلقة في الرأس.. خرجت الرصاصة من رأسه ودخلت صدر والده، هذا ما يشير إلى أن القناص أطلق عليهم النار من أعلى.. أي من التبة التي تعلو تبة السلال بأمتار".
استقبال أليم.. ووداع أخير
القناص.. يبدل فرحة الأم إلى مأتم
تعيش زوجة سليم ظروفاً نفسية صعبة
هرباً من قناصة الموت.. غادرت الأسرة الحي
بشغف وفرح كبيرين بالإضافة إلى رائحة البخور التي تملأ المنزل كانت تستعد والدة سليم لاستقبال ابنها وزوجته وطفلهما الذي لطالما حلمت أن تلعب معه، أو تضعه في حضنها فيطمئن قلبها.. كل هذا وأكثر ظلت الأم تنتظر وصول ولدها غير مُدركة بأن المراسيم قد تتغير.. كيف لها أن تستقبل خبر قتل ولدها، أو تصدق ذلك.. هي لم تتخيل يوما أنها سترى ولدها في كفن أبيض، ينام بهدوء لن يبادر لعناقها، بل لن يمسك بيدها، ولن ينظر إليها نظرات الفرح بعد اليوم.
وبدلاً من وصوله إلى البيت، نُقل سليم على الفور إلى مُستشفى الروضة، وسط المدينة.. وفيه وقفت والدة سليم على جثتي ولدها وحفيدها معاً.. وبصوت صارخ "يا ولدي، يا ولدي" مُحتضنة جثة ابنها المُلطخ بالدماء.. تبكي، تصرخ، تُقبّل رأسه، ثم تحتضنه مرة ثانية.. لا ندري هل هذا وصف لمشهد وداع أم استقبال، أم الاثنان معاً، لا فرق.. هكذا اختلطت اللحظات ببعضها وتبدل الوصول إلى مُغادرة، لكن إلى الأبد.. وهكذا حوّل قناص الحوثي فرحة الأم إلى مأتم.
لم يكتف القناص بقتله بل صوّب طلقته بعناية لتُردي الطفل ووالده قتيلين
تقول والدة سليم لـ"الساحل الغربي": "رحل سليم وابنه دون وداع.. تركوا قلبي وقلوب الأسرة كلها موجوعة". وتضيف: "كلما أتذكر صورة ابني وصدره مقنوص.. أبكي أبكي وما أقدر أنام". بقلب مهزوم، تواصل حديثها: "حرمني القناص من حفيدي الذي كنت أحلم أشوفه حيا وأحمله بحضني.. الله يحرمه (القناص) من عياله". ألم ووجع الفقدان لم ينته بعد، فهذه الأم لجأت إلى القضاء الأعلى لإنصافها من قتلة ابنها وولده، فهي تظل تدعو على قناصة الحوثي باستمرار.
فردوس، الناجية، لم تعد كما كانت، فهي ثلاثينية العمر، لكنها أصبحت تبدو في سن يكبر عمرها بعشرين عاماً.. ألم تُكابده ليل نهار. حزن وبكاء أنهكا قواها. وحيدة بوجه شاحب تتخلله صُفرة باهتة اللون، ذلك لون المُعذبين في الأرض.. لا زوج ولا ولد.
تؤكد: لـ"الساحل الغربي": "بفقداني زوجي وابني، فقدتُ حياتي.. ماتت روحي بقتلهم أمام عيني.. ليت القناص قنصني معاهم، أو ليتني لم أنج". محروقة القلب، مُعذبة الروح، لم تحي، بل تموت كل مرة تتذكر فيها الحادثة المؤلمة التي لم تنسها، ولا تُريد نسيانها.. لأنها حدث لن يُنسى، الحدث الذي أنهى رب أسرة، كما تقول.
قبل ستة أعوام من الآن، وبين واقع استمرار قناصي الحوثي -على مشارف ثعبات ومناطق صالة والجحملية- قنص المدنيين وقتلهم، وبين حزن الأسرة وواقع أفرادها، وظروفهم النفسية الصعبة، قرروا مُغادرة المنطقة والعودة إلى قريتهم الأم "الأعروق" هرباً من قناصة الموت.
سيارة الموت.. تذكار الوحشية..
هيكل السيارة.. مزار فردوس الوحيد
عاقل المنطقة: "كان المرور يريد يأخذ السيارة؛ لكننا منعناهم.. تركناها محل تذكار لأول جريمة قنص"
هيكل السيارة.. شاهداً في مكان الجريمة
على رصيف ثعبات، وبالقرب من مبنى الهلال الأحمر لا تزال سيارة الحادثة تتواجد حتى اليوم.. زُرنا المنطقة، وبحثنا مع الأهالي حتى وجدنا السيارة، إن جاز لنا تسميتها سيارة؛ فلم يتبق منها سوى هيكل خارجي صَدئ.. وكما تبدو في الصورة على الرصيف مُنقلبة على رأسها.. وعليها تبدو آثار رصاصات القناصة وشظايا القذائف. قاطع تأملنا في آثار الجريمة وبقاياها سؤال عاقل المنطقة: "إيش تعملوا..؟! مُضيفاً: قبل ستة أعوام قُنص في هذه السيارة أب وابنه.. كان المرور يريد يأخذها قبل فترة قصيرة؛ لكننا منعناهم". وأضاف: "تركناها لتكون محل تذكار لأول جريمة قنص في تعز.. نتذكر نحن والجيل الذي سيأتي مدى وحشية ودموية قناصي الحوثي".
ليس هذا هيكل سيارة فحسب، بل أصبح شاهداً على أول عملية قنص مُروعة ارتكبتها قناصة الميليشيا في المدينة.. ناهيك أنه صار مزاراً تتردد عليه زوجة سليم بين الحين والآخر.. تستعيد عندها اللحظات الأخيرة التي كانتها أو عاشتها بجانب طفلها وزوجها.
فردوس؛ ليس لها من اسمها نصيب. اسمها (فردوس) لكنها تعيش حياة كل تفاصيلها تفيد بعكس ذلك. حياة مثقلة بالبؤس والحزن.. هي المرأة الأولى التي عاشت ألم الفقدان بالقنص، لكنها ليست الأخيرة، فلقناصة الحوثي ألف قصة وقصة.. قنص طفل، امرأة، رجل مُسن، وهكذا قادت وتقود الكثير لتغيبهم عن الحياة ضمن سلسلة طويلة من الجرائم، مُستهدفة المدنيين سواءً أكانوا مُقيمين أم زائرين.. مصير واحد للمئات في تعز.