بنك النباتات السقطرية المُهدَّدة بالانقراض - قصة مصورة

  • سقطرى ، الساحل الغربي ، عبدالملك النمري :
  • 11:03 2022/11/05

يعلم الحاج أديب بأنه سيفارق الحياة -ولو بعد عمر مديد- دون رؤية الشتلة التي بذرها منذ سنوات وقد نمَتْ وغدت بطوله؛ وهي حقيقة مُرَّةٌ تشعره بالفقد السابق لأوانه وببعض الحزن. "زراعة شجرة دم الأخوين النادرة (أعريهب) تحتاج إلى صبر. إنها عملية معقدة وبطيئة بأكثر من تربية طفل". قال الرجل وهو مالك مشتل لزراعة نباتات سقطرى المهددة بالانقراض.
 
تشكل أنواع النباتات المستوطنة في سقطرى نسبة أعلى بقليل من تلك التي في موريشيوس أو رودريغز (وهما جزيرتان صغيرتان بوسط المحيط الهندي)، ولكنها أقل بقليل من جزر غالاباغوس في جمهورية الإكوادور. وفقا لليونيكو في إحدث إصدار لها عن الجزيرة.
 
 
والنبات المستوطن في الجزيرة، الموجود فيها حصراً، يقارب الـ270 نوعاً من بين 850 شجرة ونبتة برية متناثرة في المرتفعات الجبلية، بينها 10 أنواع نادرة يهددها الانقراض، 7 منها أدرجت في الكتاب الأحمر للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة.
 
"يرتبط هذا التنوع الكبير في النباتات بتضاريس سقطرى المتنوعة والظروف المناخية والتاريخ الطويل من العزلة عن اليابسة"، وأما تركزها في المرتفعات فلأن جبال الجزيرة كانت عالية بحيث عصمت ما فوقها "من الغرق في مراحل الطوفانات المستمرة في العصور القديمة". 
 
إنّ "سقطرى هي سفينة نوح الضائعة" فكرةٌ تتخذ لها حيزاً صغيراً -لكنه يتسع- في تفكيري، تفكيري الذي أدعي بعقلانيته. ولدى تفكيري، الحق ربما، في تمسكه بفكرة بليدة كهذه، فما لم تكن سقطرى سفينة نوح؛ ما هي إذاً؟ لنعتبرها سفينة من حيث الشكل على الأقل.
 
 
صيدلية طبيعية
 
منذ البداية، بداية الخليقة البشرية على سقطرى، تعتبر طبيعة الجزيرة، بنباتاتها وأشجارها، صيدلية مفتوحة أمام الإنسان. 
 
يتعرض الشخص لجرح فيقطف من أمام وجهه غصناً قصيراً من شجرة "السيبرو" ويكحل الجرح النازف بالسائل الشفاف فيجف ويلتئم. وتذيب النساء، الحوامل، مسحوق دم الأخوين في الماء أو اللبن ويشربنه كل صباح وقاية من نزيف الولادة، كما يدلكن بشرتهن السمراء بالمسحوق حتى تتفتح لكنها تحمّر على نحو شهي. 
 
هناك الدواء في المتناول، فلا تضطر لتحصل عليه إلى دفع باب زجاجي ولا مال.
 
شجرة نخيل في مدخل قلنسية
شجرة نخيل في مدخل قلنسية
 
ولذلك السبب، علاوة على أنها مصدر بعض الرزق، أصبحت النباتات والأشجار السقطرية في خانة المقدس، وحافظ عليها الإنسان من عبثه وقضمات المواشي لقرون، لكن عناية البشر، إلى جانب العزلة، غير كافية للنجاة وثمة مُناخ متقلب المزاج، مرة يسخن الشمس وينفخ السحب بعيداً، ومرة يدلق الماء على الرؤوس، رؤوس الناس، البيوت، الأشجار والمواشي.
 
مزاجي بحق ذلك المناخ إما يُعطِّش أو يجرف الجميع بالسيول. وله، للأمانة، لحظات اعتدال.!
 
في ديكسم ومحمية فيرمهين، حيث غابات دم الأخوين، شعرت بالدوار وأنا أقلب وجهي يمنة ويسرة أبحث عن شجرة لا تزال في عمر الزهور، وعمر الزهور يعني مئة سنة، مئتين، ثلاثاً، ولعلها تكون أكثر بالنسبة لهذا النوع النادر من الأشجار.
 
غابة دم الأخوين- فيرمهين
غابة دم الأخوين- فيرمهين
 
لكن، عبثاً، فكل ما هنالك أشجار معمرة على هيئة فطر ضخم أو مظلة مقلوبة -تخيلها كيفما تشاء- تملأ سيقانها التجاعيد والتغضنات، وكدمات مستديرة نحاسية تشي بأن مصاص دماء مر من هنا. والخطر ليس في ندرة الأطفال، أطفال الأشجار، هناك؛ إنما في وجود عشرات الأشجار الضخمة ملقاة في الأرض محطمة الأضلاع، وهو المشهد القاسي الذي شاهدته أيضًا في محمية حومهل شرقاً، لكن في غابات أشجار اللبان.
 
ورأيت القلق بشأن سلامة الأشجار بادياً في عيون السكان وكلماتهم العربية الركيكة، وخالجني بعض الأمان حين علمت بأمر أسرة، في العاصمة حديبو، كرس أفرادها حياتهم في زراعة بذور وشتلات للنباتات السقطرية المهددة بالنفاد بما في ذلك دم الأخوين واللبان. وعزمت على زيارة المشتل، ففيه، دون غيره، سأتمكن من رؤية شجرة دم الأخوين ليس فقط في عمر الزهور، بل والبذور حتى.
 
 
مشتل أبو عبدالله
 
أديب المعروف بـ"أبو عبدالله" أكد أن المشتل قائم لأجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من النباتات والأشجار المهددة. وذكّرني بما شاهدته في ديكسم على ارتفاع 400 متر عن سطح البحر.
 
قال: ”ترون في الجبال كيف بدأت الأشجار النادرة تتساقط من الرياح والعواصف، ونحن بعون الله نحاول أن نزرع بذور هذه الأشجار بالذات دم الأخوين في المشتل، وننتظر أهل الخيرين لينقلوا الشتلات إلى حيث يجب أن تكون“.
 
كان المشتل قبل 1996 عبارة عن مزرعة صغيرة جوار منزل الحاج أديب الواقع على بُعد كيلومتر من حديبو عاصمة محافظة أرخبيل سقطرى. وقد استرعت تلك المزرعة التي تحوي شتلات لقلة من الأشجار انتباه خبير نباتي تابع لوزارة الزراعة ورأى أنه يمكن البناء عليها.
 
”أتى إليّ ذلك الخبير بعدما كشفت له جولة في الجزيرة عن أن هناك نباتات مهمة آيلة إلى الانقراض، كان اسمه أحمد يحيى علي من صنعاء، أتى لي وجلس معي ومع أولادي في مزرعتنا الصغيرة وعرض علينا فكرة المشتل، رحبنا بالفكرة لكننا أبدينا له حاجتنا إلى الدعم، واعتذر لنا بدوره لأن الدعم بمعناه الحقيقي غير موجود الآن، لكن لو اجتهدنا وعملنا سنتلقى دعماً وسيتدفق السياح لزيارة المشتل ونحصل على ما يساعدنا على العمل“.
 
 
شتلات لعدة نباتات سقطرية
شتلات لعدة نباتات سقطرية
 
لم يكتف الخبير بالفكرة المبتكرة وجلسة التنمية البشرية تلك، بل عمل على ابتعاث أحد أفراد العائلة وهو أحمد أديب إلى الخارج لدراسة آلية جمع البذور والعُقل من أنحاء سقطرى والعودة بها إلى المشتل بعد أن يكون قد سجل بياناتها بما في ذلك موقع نموّها، وهنا تقريباً ينتهي دوره لتبدأ أدوار إخوانه الستة الآخرين مضاف إليهم الوالدين، ولكل منهم مهمته الخاصة.
 
تستلم الأم ما جلبه أحمد من بذور وعقل لتقوم بغرسها في المشتل. بينما يكون عبدالله قد أصلح السواقي بما يضمن وصول المياه لجميع الشتلات، ويتقاسم الأولاد الآخرون سقاية وتنظيم وتنظيف المكان بشكل مستمر، هكذا يجري العمل داخل مشتل أديب.
 
 
شجيرات "أعريهب"
 
ستلمس أن هناك من يعملون بحب داخل المشتل بمجرد أن تلج بقدمك اليمنى بابه الحديدي. المشتل نظيف، مرتب، مقسم في مربعات ومستطيلات تتراص الأصص والشتلات فيها على نحو بديع، وتلقي النخيل الشاهقة بظل وارف ضاعف شاعرية المكان، وبرغم ما أحدثته فيه مخالب المناخ المزاجي "تشابالا" من ندوب عميقة ستأنس إلى فكرة أن هذا المكان بمثابة بنك بذور ومتحف للنباتات السقطرية.
 
ووجدت فيه شجرة دم أخوين صغيرة، الكثير منها، ولو لم يدلني أديب إليها لما فعلت ذلك من تلقاء نفسي. هذه السيوف الخضراء شيء والمظلات العملاقة هناك في الجبال شيء آخر مختلف، لقد ظننت لأول وهلة أنني أمام شجرة كاذي أو سلعف (الأجاف) وهي ما يزرعها الفلاح في قريتي على حدود أملاكه.
 
وردة الصحراء- حومهل
وردة الصحراء- حومهل
 
يعلم الحاج أديب بأنه سيفارق الحياة -ولو بعد عمر مديد- دون رؤية هذه الشتلة التي بذرها منذ عدة سنوات وقد نمت وغدت بطوله؛ وهي حقيقة مُرَّةٌ تشعره بالفقد السابق لأوانه وببعض الحزن. 
 
قال: "زراعة شجرة دم الأخوين النادرة تحتاج إلى صبر، إنها عملية ليست سهلة، تشبه إلى حد كبير تربية طفل". 
 
 
بخلاف إلهام وتحفيز الخبير الزراعي، تشييد سور حول المشتل قبل سنوات عدة على نفقة حكومة باجمّال ومنحةٍ خارجية قصيرة الأجل، بخلاف ذلك لم تعد العائلة تتلقى أي دعم. وحتى البقشيش الذي يدفعه السياح، وهم بالمناسبة مخيرون في ذلك، لا يساوي شيئاً أمام متطلبات واحتياجات المشتل.
 
 
يؤمن أديب وأفراد عائلته أنهم، بما يقومون به في المشتل، يؤدون واجب الحفاظ على جزء من تراث الجزيرة الممتد لقرون، لذلك فهم، بالدعم أو بدونه، سيواصلون إنجاب الشتلات والشجيرات السقطرية النادرة، ومع ذلك يأمل الأب لو تتمكن ابنته فاطمة، وهي معلمة، من عمل قاعدة بيانات بأسماء وصور ومعلومات عن مختلف النباتات المتوفر في المشتل وخارجه ثم طرحها في الإنترنت ليطّلع عليها العالم، وهو ما يحتاج إلى دعم لسوء الحظ!
 
>>
 
وردة الصحراء مزهرة على طريق نوجد
وردة الصحراء مزهرة على طريق نوجد
 
شجرة دم أخوين صغيرة
شجرة دم أخوين صغيرة
 
شجرة دم أخوين محطمة- ديكسم
شجرة دم أخوين محطمة- ديكسم
 

ذات صلة