دراسة - عن أنة اليمنيين الأولى (1-2)
- بلال الطيب
- 01:11 2022/10/05
”جبايات تعسفية.. أنهكت الرعية.. وأجبرت مُعظمهم على الهروب“
لم يحد الأئمة السُلاليون من بيت حميد الدين قيد أنملة عن نهج أسلافهم؛ بل فاقوهم بأساليب وابتكارات أكثر ظلمًا وانحطاطًا، وخسةً وإذلالًا، مُبتدأها الخِطاط الإجباري، وخاتمتها التنافيذ التعسفية، وبينهما احتساب، وقبض، وتخمين، وأبطال ذلك الوجع المُتجدد رعية مكلومون، وعساكر مُتوحشون، وعمال جشعون، يُوزعون الأوامر لمن يُدر عليهم الأموال الكثيرة، وفوق الجميع إمامٌ ظالم، لا هم له إلا انتظار وصول الغنائم، لا ليوزعها على فقراء دولته؛ بل ليملأ بها المدافن والمخازن!
إقرأ أيضاً:
- دراسة - عن أنة اليمنيين الأولى (2-2)
توسع إدريسي
أول بلية، وأعظم رزية، عرفها اليمنيون، وأصيبوا بها، هكذا عرَّف الأستاذ أحمد محمد نعمان في رسالته الشهيرة (الأنة الأولى) الخِطاط، واصفًا إياه بأنَّه «قتل الحمية، وأمات الغيرة، وداس الفضيلة، وأذل الناس، وبغّض إليهم الحياة، وحبب لهم الموت، واضطرهم للخروج من بلادهم جماعات ووحدانا».
وهو – أي الخِطاط – كلمة مجهولة المصدر، ولا يوجد لها أصل في قواميس اللغة العربية، وإنَّما لها وجود في قواميس الأئمة السُلاليين، وعمالهم، ويفهمها الرعية المساكين أكثر من غيرهم، كيف لا؟ ومضمونها الأشمل يتمثل في تدمير بُنيتهم الاقتصادية المُتواضعة، وإذلالهم جسديًا، ونفسيًا، ومعنويًا، ويؤكد ذلك تسمية الإمام يحيى لها بـ (حرب العصيد)!
والراجح أنَّ كلمة الخِطاط مُشتقة من الفعل (حط)؛ خاصة إذا ما علمنا أنَّ عَساكر دولة الإمامة المُتوحشون كانوا يحطون رحالهم في منازل الرعية، ويتصرفون في الأموال والمـُمتلكات وكأنَّها ملكهم، وهم في الأصل أرسلهم الإمام الحاكم لإخضاع إحدى القبائل المـُتمردة، دون أنْ يمُدهم بالمؤن اللازمة لإنجاح مُهمتهم، التي غالبًا ما تكون من مهام القبائل المـُجاورة، التي لا ذنب لها إلا أنَّ القدر وضعها في طريقهم.
وبالغ عبدالرحمن البيضاني في تعريف الخِطاط، وقال أنَّ الإمام – أي إمام – يقوم بتوجيه أوامره لقبيلة زيدية ما، ويكلفها بالتوجه بكامل هيئتها وأفرادها إلى قبيلة أخرى مُذنبة، ينامون في بيوت سكانها، ويأكلون طعامهم، ويفرضون عليهم حظر التجوال، لافتًا أنَّ القبيلة المُتضررة لا تستطيع المقاومة، وإلا أرسل لها الإمام قبيلة ثانية، وثالثة، أو جيشًا من عنده.
من جهته عرَّف الباحث عبدالعزيز قائد المسعودي الخِطاط تعريفًا موضوعيًا، وقال بأنَّه يتمثل في ترتيب وتوزيع القوات الإمامية على القرى والمنازل، وبحسب أهمية الأشخاص والعشائر، هذا في حال تم إرسال قوة عسكرية كبيرة، ولكن في حال تم إرسال ثُلة من الجنود نحو العشرة، فكان يُسمى (بقاء)، ويدوم حتى يستجيب الفلاحون لطلبات الإدارة المركزية، وفي الغالب – كما أشار ذات الباحث، وقد تقارب هنا مع ما ذكره البيضاني – كانت السلطات الأمامية تُسلط قبيلة ما على أخرى، لا لتقضي على شوكتها فحسب؛ بل وتمعن في إذلالها وقهرها حتى تذعن لسلطة الدولة.
أما المُؤرخ التهامي عبدالودود مقشر فقد شبه الخِطاط بالعقاب والإفقار الجماعي، وعده أقصى أنواع العقاب الذي ناله الرعية من السلطات الإمامية، والذي أدى حسب شهود عيان التقاهم إلى فظائع ومآسي لم تمُحى من الذاكرة، وقضى في حينه على أي تفكير بالثورة أو المقاومة.
وما هو مُتداول ومُؤكد أنَّ عساكر الأئمة السلاليين عمدوا على إذلال الرعية المساكين، واستعبادهم، وإذا حصل أنْ عجز الرعوي وزوجته عن توفير أسباب الراحة لهم، ولم يبالغوا في إكرامهم، والاهتمام بهم، نزلوا – كما أفاد الأستاذ أحمد محمد النعمان – بهما ضربًا ورفسًا، وأهانوا كل واحد منهما أمام الآخر؛ بل أمام الله والعالم، وإذا استغاث أحدهما أو بكي، اجتمع عليه بقية العساكر المـُخططين في البيوت الأخرى، فينهالون عليه بالضرب، والسب، والشتم، وإذا تدخل أحد الجيران أو الأقارب أصابه ما أصاب ذلك الزوج وزوجته.
والأدهى والأمر من ذلك، أنَّ السلطة المُطلقة تكون في يد هؤلاء العساكر المُتوحشين، فهم لا يُسألون ممن هم أعلى منهم رُتبة عما يفعلون، ويجرون – كما أفاد أحمد عبدالرحمن المعلمي – من الأعمال والعجرفة، وسوء السلوك الأخلاقي، ما يقشعر له البدن، وتبكي له السماء، ويغضب له القرآن.
وهذا أحد ضحايا تلك المُعاناة، من أبناء سفوح تهامة، تحدث عن تلك الصورة المأساوية في رسالة بعثها لجريدة (الشورى) المصرية، في أواخر عشرينيات القرن الفائت، وقال بعد تعريفه لـمُفردة الخِطاط، أو (التخطيط) – كما يسميها التهاميون، بأنَّ عساكر الإمامة يسكنون في بيوت الرعية، ويفترشون فرشهم، ويكلفوهم في المأكل فوق طاقتهم، وأضاف مُتألـمًا: «ويدخل الواحد منهم بلا استئذان على حرمك، ويفتخر بأنَّهم تنازلوا كرمًا عن مشاركة الرعية في الزوجات.. وكم من مرة أرادوا انتهاك حرمات الناس في هذه الأحوال، فينتقم المرء لعرضه وشرفه، فيكون نصيبه ونصيب القرية السحق والمحق، والعدم من الوجود».
الطبيبة الألـمانية إيفا هويك أكدت تلك الجزئية المأساوية والمُكررة في مُـــذكراتها، وقالت في نقلها لأحداث عايشتها في لواء تعز، أنَّ عساكر الإمام أثناء انتظارهم لسداد الضرائب (الجبايات) من المواطنين، يُقيمون في أحسن الغرف التي وضعوا أيديهم عليها، ويأكلون أجود الأطعمة، وأكثرها، ويحاولون الاعتداء على الأعراض، مُستغلين مراكزهم كجنود.
في مُــذكرته المُعنـونـة بـ (شــاهد على الـحركة الوطنية)، نـقل المُناضل يحيى مصلح مَهدي مشهدًا مُـــؤلـمًا عاشه في طفـــولته، أبطــاله ستــة عساكر أجلاف، وعمه الكبير (يوسف مهدي)، وما أنْ حل أولئك العسكر ضيـوفًا ثِـقالًا على منزل الأخير، الرابض في إحدى قرى جبال ريـمة المُعلقة، حتى انـهالوا بالضرب على ذلك العم المُسن، بدون سبــب، وبدون اكتراث لصرخات وتوسلات أصحاب ذلك المنزل العامر، الذين كان جُلهم من الأطفال والنساء.
وأضاف يحيى مُصلح: «شاهدت هذا المنظر الأليم وأنا في السابعة والنصف من عمري، ولم أكن أعرف سبب هذه الروح العدوانية التي يستخدمها الإمام ضد أبناء الرعية في المنطقة الشافعية بشكل خاص، وفي اليمن بشكل عام، مع أنهم كانوا يتقاسمون لقمة العيش معهم، أولئك بعرقهم وكدهم، وأولئك بظلمهم
صور-لليمن-قام-بتصويرها-الرحالة-الألماني-هيرمان-بورشارت-1-499x470
وجبروتهم، هكذا كانت الإمامة تمارس ظلمها، حيث كانت تستنفر جزءًا من أبناء الشعب، وخاصة من أبناء قبائل حاشد، ونهم، وخولان، وآنس على مناطق الرعية..».
وقد عَبر المصلح الاجتماعي الكبير محمد رشيد رضا في رسالة له بعثها لشكيب أرسلان عن امتعاضه الشديد من تلك التصرفات الإمامية المُقززة 8 أبريل 1926م، وهي التصرفات التي جعلته يُعيد النظر حول مُساندته طيلة السنوات السابقة للإمام يحيى حميد الدين؛ بل ويعبر عن ندمه على ذلك، ومن رسالته نقتطف: «وإنْ كانت أخبار ظلم الزيدية للشافعية لا يمكن المراء فيها، وأقبحها أنَّ جيش الإمام يحتل بيوت الأهالي في تهامة، ولا يكتفي بضيافة الأكل والشرب؛ بل…».
وسبق للـمُؤرخ يحيى بن الحسين أنْ تحدث عن تلك المعاناة، وبمعنى أصح عن معاناة الجغرافيا الخانعة بشكل عام، ونقل في كتابه (بهجة الزمن) مقولة لأحد أبناء إب من بيت الكاظمي ضمن حوادث سنة 1088هـ / 1677م، مضمونها: «وكذلك اليمن الأسفل الذي وقع فيه الحطمة والموت والرّحلة، أنه اجتمع عليهم الجور والفساد لعدم الغيرة منهم، والقدرة على الدفع عن حرمهم وبيوتهم من عساكر الدولة، فإنَّهم – أي العساكر – ينزلون بيوتهم، ويختلطون بحريمهم وأولادهم، ويقع ما يقع من الفساد، وعدم قدرتهم وضعفهم عن الدفع عن أهلهم».
يبقى الخِطاط سلوك شنيع، وتصرف وضيع، وابتكار إمامي بامتياز، ولم يسبق للأتراك (العثمانيين) أنْ مارسوه أثناء تواجدهم الأول والثاني في اليمن، ولا حتى الإنجليز، فقد أنشأوا – أي الأتراك – ثكنات عسكرية لذات الغرض، لم يستغلها للأسف الشديد عساكر دولة الإمامة الاستغلال الأمثل، وعن ذلك قال الأستاذ أحمد النعمان: «العُمال مدوا هذا الخِطاط تعمدًا، برغم استغنائهم عنه، وعدم الحاجه إليه، فالثكنات من عهد الدولة العثمانية موجودة في عموم المراكز».
وأضاف مُشيدًا بالأجنبي، الذي كان أفضل بكثير من الأئمة السلاليين وأنصارهم: «غير أنَّ رجال تلك الدولة الأعجمية الأجنبية لم يتخذوا الجند لمـُحاربة الرعية؛ بل للدفاع عنهم، والذود عن كيانهم، فكانوا ينشئون الثكنات في المراكز، ويُعلمون الجند المـُحافظة على الكرامة، وعزة النفس، والترفع عن الدناءة، وعدم إظهار الفاقة والحاجة عند الفقراء، والمـُعوزين، وكانوا يوسعون عليهم بالإنفاق، ويخصصون لهم خدمًا ينتقلون معهم أينما ساروا، وحيثما أقاموا».
الله لا كانه رعوية!
ويَأتي بعد الخِطاط التنافيذ، وبينهما ارتباط كبير، وكلاهما يُكرسان إذلال وامتهان الإنسان اليمني، ويُعنى بالأخير الأوامر المـُطلقة من الإمام إلى جميع العُمال (عمال النواحي أو القضوات) في إنفاذ العساكر على الرعية؛ لأسباب عديدة، قد تكون قضائية مُتصلة بحق المواطنين أنفسهم، أو إدارية مُتصلة بحق الدولة، والأخيرة هي الأغلب، وتتمثل بالجبايات التعسفية التي تختلف أنواعها، وتتعدد مُسمياتها، وكل ضريبة تُفرض على الرعوي يُنَفذ عليه العامل – أو من يقوم مقامه – عسكريًا أو اثنين أو ثلاثة، بحسب قِلة المـُراد جبايته أو كثرته.
وهناك تنفيذ مُؤقت، حيث يَكتفي العسكري المـُنفذ بإحضار المطلوب ضبطه أو إشعاره، والعودة بعد يوم أو يومين إلى عند الجهة المُرسلة، وبعد الحصول على الأجر المعلوم، ولوازم الضيافة. وهناك تنفيذ البقاء، وهو مُرتبط – كما سبق أنْ أشار الباحث المسعودي – بالخِطاط، حيث يبقى العسكري أو العساكر المُنفذين في منزل الرعوي مدة أطول، حتى يستجيب هذا الرعوي أو ذاك لطلبات السلطات.
وعن تنفيذ البقاء قال عبدالرحمن البيضاني: «فعندما يتأخر أحد الرعايا من القسم الشافعي عن تسليم الزكاة المفروضة عليه، يُرسل إليه الإمام – يقصد عُمال الإمام – عددًا من هؤلاء الجنود ليحتلوا بيته.. وينهبوا طعامه وشرابه.. ويناموا على فراشه.. حتى ولو كان غائبًا.. ويستمر ذلك إلى ما يشاء الله..».
بمُجرد أنْ يستلم العسكري أمر التنفيذ (وهي ورقة يحررها المُوظف المسئول عن إدارة تلك الجهة)، يأمر العامل بقطع راتبه، ونفقته اليومية؛ لأنَّه سيكون ضيفًا على الرعوي المسكين، الذي صار بحلول هذا الضيف الثقيل أضيع من يتيم، وأعجز من أرملة، وقد تحدث الأستاذ أحمد النعمان بإسهاب عن تفاصيل تلك المـُعاناة، حيث قال: «يأخذ الجندي الأمر بيده، ويؤم منزل الفلاح المـُنفذ عليه، وإذا وصل إليه، فلا تحية، ولا استئذان، ولا استئناس».
وأضاف: «وإنْ وجد – يقصد العسكري – الباب مَفتوحًا دخل، وإنْ كان مُغلقًا لا يُنادي أحدًا قط؛ بل يتناول بندقيته المـُعَترضة على كتفه، فيضرب بها الباب ويشقه نصفين، أو يكسر قفله ويدخل، وقد يكون السكان نائمين أو مكشوفين، فللناس في بيوتهم حالات، أما الأطفال فلا تسمع إلا صياحهم وعويلهم..».
وأردف: «لا يكتفي الجندي بكسر الباب؛ بل هناك سب وشتم بصوتٍ عالٍ غليظ من حين يدخل باب المنزل، وتلك هي تحيته لأخيه المسلم.. وتراه يطوف غُرف المنزل إنْ كان فيه عدة غرف ليختار ما يوافقه، ولا يمر على شيء أمام عينه فيعجبه إلا اختطفه، ثم لا يكاد يستقر حتى يطلب مذبوح، وقات، وتتن، وسمن، وهذه التحية الأخرى.. يُعدد الجندي هذه المطالب، والزوجان واقفان يتلقيان الأوامر، والذعر مستولٍ عليهما، ويملأ قلبيهما وعقليهما، ثم يتسللان للخروج هائمين في القرية يتطلبان الضيافة المُفروضة المحتمة، لأنَّ ما عندهما لا يوافق العسكري، أو لعلهما لا يجدان شيئًا، وقد يكونان باتا مع أولادهما على الطوى لشدة الفقر الذي عمَّ البلاد، عند حصولهما على تلك المطالب يعودان إلى منزلهما للطبخ والخدمة، وتهيئة الزاد للحاكم بأمره المطلق التصرف، والويل لهما إنْ تأخرا قليلًا، أو نقص جزء من الأنواع المطلوبة».
وأضاف الأستاذ النعمان: «وإذا جاء وقت النوم لا يرضى إلا بالغرفة الخاصة بالفلاح وأهله وأولاده، فيتنازلون عنها، ويقصدون إصطبل البهائم بين أرواثها وأبوالها، إذ لا يمكن خروجهم من المنزل إلى بيوت الجيران، فقد يحتاج حضرة الجندي شيئًا في أثناء الليل، أو يسهر، ويحتاج من يسهر إلى جانبه لتعميرة البوري، وتبديل المداعة، ولا يكاد الصبح يُسفر حتى يقوم الفلاح وزوجته لتهيئة الفطور؛ لأنَّ تأخيره يجلب عليهما مُرَّ العذاب، كل هذه الضيافة مُقدمة على إفهام الرعوي سبب التنفيذ عليه؛ بل لا يمكنه السؤال عن ذلك حتى ينتهي من الضيافة، وإنما ينتظر من العسكري أنْ يبلغه، والعسكري كما ترى غير مُفكر بالرجوع إلى المركز؛ لأنَّه يكتسب من وراء بقاءه الأكل اللذيذ، والنوم الهنيء، والفراش الوطيء، والنقد الكثير!».
وغير تلك الضيافة المـُنهكة، هناك مال واجبٌ دفعه كأجرة لهذا الضيف الثقيل، تُقدر بطول وقُصر المسافة التي قطعها، وهذه يطلق عليها (ضريبة مسافة)، ثم تأتي بعد ذلك (أجرة الممسا)، والأخيرة ضريبة ليلية يدفعها الرعوي للعسكري مدة إقامته عنده، وتتفاوت هذه الأجرة من شخص لآخر، فإن كان المـُنفذ عسكريًا فله قدر معلوم، وترتفع إنْ كان عريفًا أو نقيبًا، وتتضاعف إنْ كان قاضيًا أو سيدًا علويًا!
وتقدير هذه الأجرة يرجع في الأول والأخير للشخص المـُنفذ، إنْ شاء عدل، وإنْ شاء جار، ولا يستطيع الرعوي – كما أفاد الأستاذ النعمان – أنْ يُبدي رأيًا أبدًا؛ بل لو ظهر منه أقل خلاف بادره العسكري بالصفع على قفاه، وَكَتَّفه، وساقه أمامه – إلى مركز الناحية – كالماشية.
ومن أعظم المصائب أنَّه قد يجتمع على هذا الرعوي عدة تنافيذ، فالعامل له حق التنفيذ، والحاكم مثله، والموظف في المالية، ومأمور البقية، والمشايخ، والعرايف، وهكذا دوليك، وما على الرعوي المسكين إلا أنْ يستقبل ويدفع!
وسبق للشيخ حسين بن عبدالله الوصابي أنْ عرج في قصيدة ناقدة لحكم الإمام يحيى على سلوكيات هؤلاء العساكر المُنفذين، وغيرهم، حيث قال:
سلبٌ وهتــــــك ثم أخــــــذ جبـــــايــة
مــــــا أنـــــــزل الله بهــــا مـــــــن حــــــاكم
والكسر للأبواب ثـــم دخــــــــولهـم
فـوق الحــريم فـــلا ترى من حاشم
منها البــــقا للطـــــائــــفيــــــن وحزبهم
والأمــــر والمـــمــسى بــــأمر جـــــــــازم
وللتنافيذ عدة أنواع، نذكر منها:
– الاحتساب: وهي أنْ يُشجع العامل بعض أشرار الرعية للاحتساب على الشيخ الفلاني؛ بدعوى أنَّه لم يُسلم حقوق بيت المال للسنة الفلانية، فيتم بموجب ذلك تنفيذ العساكر على القرية أو العزلة، ويعم الضرر المنطقة برمتها لا الشيخ المعني.
– القبض: وهو أنْ يختار العامل مجموعة من المُوظفين الحكوميين، ثم يقوم بإرسالهم وبصحبتهم مجموعة من العساكر إلى القرى الواقعة على ضفاف الأودية والغيول، التي تشتهر أراضيها بالزراعة على مدار العام، وتتركز مهمتهم في تقدير مداخيل الفلاحين من تلك الأراضي، وقبض ضرائبها؛ ولهذا سموا بـ (القباضين)، وهناك من يسميهم بـ (المُقصبين)؛ نسبة إلى (قصبة)، وتعني قطعة أرض صغيرة لا تتعدى مساحتها عدة أمتار مُربعة.
– التخمين: والمقصود به تخمين غلة السنة وتقديرها قبل موعد القطاف! ويطلق على من يتولوا هذه المهمة تسمية (مخمنين)، وهم طائفة من القضاة والفقهاء، مشهورين بعمائمهم البيضاء، والأكمام الواسعة، والمسابح الطويلة، يدعون الأمانة، وأنَّهم أحق بالخرص من غيرهم، يخرجون كل سنة إلى أرض الرعية، وبصحبتهم عشرات العساكر، ولا هدف لهم إلا نهب الأموال، والتَنعم بمُقتضيات الضيافة عند هذا الرعوي أو ذاك.
ولإيضاح هذه الصورة السوداوية أكثر، أترككم مع ما قاله الأستاذ أحمد النعمان عن هؤلاء المُخمنين:
«إن العامل ليدعو هؤلاء المخامنة إليه، ويأخذ منهم العهود والمواثيق بعدم مجاوزة الحق، وأنْ يكون رائدهم العدل والإنصاف، ثم يُحرر بيد كل واحد أمرًا بالتخمين، ويعين بجانبه بعض العسكر ليتكسبوا جميعًا، ويخترفوا في بيوت الفلاحين، ولا يكاد يصل الخراص محل عمله حتى يلتف الناس حوله، كلٌ يدعوه إلى منزله، ويواسيه، ويتقرب إليه بالهدايا كي يرفق به ويعدل، وهو يتظاهر أمامهم بالورع والتقوى، والعدالة والإنصاف، ويمنيهم الأماني، ويهمس بأذن كل واحد بمفرده، ويضرب له على صدره، ويذم الحكومة بينهم، وأنَّها ظالمة لا ترحم الرعوي، ولا تعطف عليه، وهكذا يضحك على عقول البله المساكين، ويستدر الرشوة بجميع جوارحه، حتى إذا ملأ جِرابه، أرسل نظره على المـَـزارع، وسجل في دفتره مقدارًا يَعرف أنَّه يرضي الموظف الذي عينه للتخمين، ويكسب به ثقته وحسن ظنه، لأنَّه يعرف أن الحكم بيده، وليس للرعية شيء».
وإذا طغى أحد هؤلاء المُخمنين في تقدير المبالغ المطلوبة، عززه العامل (عامل الناحية أو القضاء) بـمُخمن آخر، ومعه عدد من العساكر، ويسمى هذا بـ (الكاشف)، فإنْ قرر الأخير ما قرره الأول، عُزز بـ (كاشف الكاشف)، وعلى الرعية في جميع الحالات توفير الإعاشة لهم، ودفع أجرتهم.
وفي المُحصلة المأساوية، فإنَّ القصد من إرسال الكاشف، وكاشف الكاشف فتح سبب للإعاشة ينتفع به هؤلاء لا أكثر، وعن طبيعة عمل هؤلاء قال الأستاذ النعمان: «فإنَّه – أي الكاشف – يتبع سنن من قبله شبرًا بشبر، ويمثل الدور الذي مثله سلفه سواءٌ بسواء: ضيافة ثقيلة، ورشوة مُضاعفة، وقد يضع تقديرًا لغلات الأرض أعظم من تقدير المخمن، لينال حظوةً عند الموظف الذي قلده هذا المنصب العظيم».
وفي ذات السياق، هناك رجال الدين (المرشدون)، وعمل هؤلاء كان إلى عمل المُتنفذين أقرب، فهم يأخذون من المواطنين أموال نظير قيامهم بالإرشاد الديني، وتعليم الناس أمور دينهم، وكانوا يتقاضون بمساعدة شيخ المنطقة من اثنين إلى خمسة ريالات على كل مواطن. وفي ناحية القبيطة – كما أفاد سلطان أحمد عمر – ظل المواطنون قبل قيام الثورة السبتمبرية يدفعون فرقًا سنويًا استمر لمدة عشر سنوات، سمي بـ (فرق الغزالي)، والأخير المُرشد الديني الذي كان يمر عليهم كل عام.
وفي موضوع شبه مُتصل، كان العساكر المـُنفذون هم الوسيط بين العمال والرعايا، ومن هذا المـُنطلق لم تكن أوامر التنافيذ مقصورة على الجبايات فقط؛ بل اندرجت تحتها عناوين أخرى لمهام مُختلفة، فهناك تنافيذ على الأوقاف، والأخيرة يُقصد بها الأراضي والعقارات الموقوفة على المنشآت العامة، مثل المساجد، والمدارس، والآبار، والمناهل، والمباني التي على الطرقات العامة، وتعتبر تلك العقارات – كما أفاد العلامة الشوكاني – من ضمن أملاك الدولة، ولا يجوز التصرف فيها كالبيع ونحوه، وإنما تستعمل غلاتها وريعها لصالح المنشآت المذكورة، وكم سلبت أراضي مواطنين بحجة أنَّها موقوفة.
وهناك تنافيذ على المواطنين، وجلبهم بالإكراه كسخرة، وكم من طُرق عامة عُبدت، ومَرافق حكومية شيدت، ومنازل مسؤولين بُنيت، وأراضي خاصة زُرعت، بجهود وسواعد هؤلاء، وعن هذه الجزئية قال عبدالرحمن البيضاني: «وإلى جانب الضرائب ابتكر الإمام وسيلة السخرة لقضاء حاجته.. فإذا أراد إقامة بيت أو طريق أو أية مُنشأة، فإنَّه يستطيع أنْ يأمر جنوده كي يجمعوا الأهالي المجاورين لهذا العمل، ليقوموا به مجانًا دون أي أجر.. سوى السياط التي تُلهب ظهورهم..».
كان هؤلاء الرعية المساكين المغلوبين على أمرهم يُعبرون عن امتعاضهم الشديد من ذلك الوضع البائس، وذلك بترديد مهاجل ناقدة، منها:
الله لا كـــــــانــــــــه رعـــوية
مــــــــا دام والـــدولة زيدية
ولا يقصد المخيال الشعبي هنا بالزيدية – كما أفاد قادري أحمد حيدر – كراهية مذهبية أو طائفية، إنما هي إشارة إلى عمق الاستبداد السياسي والاجتماعي الإمامي الذي تجرعه اليمنيون، واكتووا بناره لسنوات طويلة.
صور-لليمن-قام-بتصويرها-الرحالة-الألماني-هيرمان-بورشارت
لعنة على عياش!
«إن موقف الطاغية كذلك الذي يَقطع الشجرة لكي يَقطف الثمرة»، حِكمة قالها الفيلسوف الفرنسي شارل مونتيسكيو قديماً، فجسدها الأئمة من بيت حميد الدين وأسلافهم في حُكمهم الكهنوتي، وكما كانت اليمن بالنسبة لهؤلاء قرية للجبايات الكبيرة، كان الشعب تلك الشجرة الغنية بالثمار، التي سقطت في الأخير فوق من اعتدى عليها، وأردته قتيلًا.
تعددت أسماء الجبايات الإمامية، والسلب في النهاية واحد، تارة كانوا يسمونها زكاة، وتارة واجبات، ومرة عُشر، وأخرى حق بيت المال، وكُله في الأول والأخير يتم باسم الله، ويُنهك عباد الله.
جعلوا – أي الأئمة السلاليين – من الرعية المُستضعفين مصدرًا رئيسيًا لدخل الدولة، ولم يبحثوا عن مصادر أخرى لذلك الدخل، وعن ذلك قال الأستاذ أحمد محمد نعمان: «لقد بات من المـُقرر أنَّه ليس للحكومة مورد من موارد المال إلا من أرض الفلاح، ومزرعة الفلاح، وعناء الفلاح، وكد الفلاح، فهو قُوتُها، وقوتها، وكنزها، ومتجرها الذي لا تعرف سواه».
وبلغ الأمر بالإمام يحيى أنَّه كان يحدد مقادير الزكاة بنفسه، ويؤكد ذلك هذه الرسالة التي بعثها لأحد عماله 9 فبراير 1926م، حيث قال: «قد سبق الأمر إليكم بقبض علف الذرة من نفس شبام، بعد كل قدح ربع ريـال، وحيث تحقق بأنَّ ذلك موافق للحق، نأمركم بالقبض من جميع ما تحت نظارتكم من المحلات، بعد كل قدح ربع ريـال من ذرة وغيرها، فخرج ما لم يستفاد بعلفه مثل الخردل، والحلبة، والقلا، والعدس، والسعتر، والذرة. وهذا اعتبار من الصراب الحاصل بهذه السنة، واجروا الضم على التزام ما يقاوم الثمن، ريال الزائد على الدرهم، فلا بد من ضمه، حيث كان الالتزام بشرط أن القبض بعد كل قدح ثمن ريـال، فاعتمدوا هذا».
كما أوغلت تلك السلطات الغاشمة في تفتيت وتمزيق الشعب الواحد على قاعدة العصبية المذهبية والعرقية السلالية، وصيروهم – تبعاً لذلك – رعية وعساكر، ولقد عرَّف الشهيد محمد محمود الزبيري الإمامة: بأنَّها فكرة مذهبية طائفية يعتنقها من القديم شطر من الشعب، وهم الزيدية – أي الهادوية – وأنَّ باقي اليمنيين لا يدينون بها، ولا يرون لها حقًا في السيطرة عليهم، مُشيـرًا إلى أنَّ التَحكم الإمامي خلق شعـورًا مَريرًا لدى الغالبية، وأبقى الانقسام ظلًا قاتمًا رهيبًا يخيم على البلاد.
وأكد القاضي الزبيري أنَّ سكان المناطق الشمالية العُقلاء منهم أبرياء من هذا الافتئات والظلم، وأنَّهم لبثوا الدهر الطويل يعانون مرارة الطغيان، ويرون فيه حكمًا طارئًا عليهم، دخيلًا على حياتهم، يفرض عليهم إلى جانب السُلطة السياسية سلطة روحية تعيش في دمائهم كالكابوس الرهيب، وتُجرعهم المـُعتقدات المسمومة، ثم تُطلقهم على الفريق الآخر كالذئاب المسعورة.
مـارس الإماميون العبث على عباد الله، في حياتهم وممتلكاتهم، فالاستبداد المـُطلق، كان عنوان حكمهم، وهويته اللصيقة به، والطغيان الأحمق، كان سُلوكهم اليومي الذي يتباهون به، قـادوا البلاد والعباد بما أملته عليهم رغباتهـم الفجَّة، وفَصّلوا فقهاً سياسيًا يشملهم بكل الخيرات، ويستثني كل اليمنيين.
كانوا – أي أولئك الأئمة السلاليين – يقولون أنَّهم يَحكمون بأمر الله، وباسم الحق الإلهي، وما من استبداد سياسي – كما قال الكواكبي – إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله، والطغاة – كما قال علي الوردي – يعبدون الله، وينهبون عباد الله في آن واحد.
ولتوضيح هذه الصورة أكثر، أترككم مع هذه المـُقتطفات من قصيدة طويلة للشاعر سليمان بن عبدالرحمن الكحيلي الصلوي، عدد فيها تلك الجبايات التعسفية بمفردات دارجة أكثر شُمولًا، وهي – أي القصيدة – مُرسلة في الأصل للإمام الطاغية يحيى حميد الدين، جاء فيها:
بلغــــــــــــــــوا عـــــــنا أميـــــــر المؤمنين
أنَّ هــــذا الظلم آذى المسلمين
تـــــــرك الامــــــــة في أمــــــــر مهيــــــن
مـــــــا جرى منــــــا ألسنـــا مسلمين
أولاً يستــــــلــــمــــــون الـــــــعـــــاشـــــــرة
وهي في التــــخمين ضربة جائرة
وعـــــــوائـــــــدهـــــــــا عليـــــــها دائـــــــرة
والرعـــــــايا مــــــن عنـــاياها ذاهلين
بعد هـــــذا طلبـــــوا ثلــــث البـــــدل
ازعجـــــــوا النــــــاس بسهـــل وجبل
ســـلمـــــوا فــــــورًا بغــــــاية العــــجـــل
وهـــــم إذ ذاك قــــــهــــرًا باكئــــيــــــن
طفقـــــــوا يحصــــــون أنــواع الثمار
أول الدفتــــــر اســـم الدجــر صار
والذرة نوعــــــان بيضـــــاء وصـــفار
برهم حنـــــطة واســـم الهند صين
عــــــدة الأغــــنــــام رابـــــع مــــا ذكـر
والمخــــضـــــر ثــــم فـــــول وعــــتـــــر
وكــــــذا البسبـــاس معها قد سطر
والريـــــاحيــــــن أتـــــت واليـــــاسمين
دمغـــــة باســــــم إعـــــانة حـــــربيــــــــــة
والغنـــــي المثــــــري بحـــــــاجة ربية
والــــذي قد كــــــان يمـــلك جنبية
بــــاعها واعتـــاض عنها بالسكين
ثـــم قـــــالوا باطنـــــيـــــة يــــا تـــــجــــار
الفــــقيــــــر منــــهم وأربــاب اليسار
أي وربي ذاك غـــــاية الحــــصـــــار
يتـــــركـــــــوا المثـــــري فقيــرًا بيــــقين
بعد ذلك طلبـــــوا عشر الجمال
مـــن ريــــاليـــــن إلى خمســــة ريـال
افــــــزعوا النســـــوان منـها والعيال
ثم صـــــاحوا يـــــا أمــــان الخائفين
اردفـــــوا النــــحل وفيـــــها أشـــركوا
مالكيـــــها والــــــذي لــــم يمــــلكـوا
تلف النـــــــاس وكــــــادوا يهلــــكـــوا
يا لطيــف الطف بنا والمسلمين
وزكـــــاة الفـــطر يبغــــــوها فــــلـــوس
قدرها أضعاف أضعاف النفوس
غمــــــر النــــــاس بهــــــا هـــم وبؤس
فتــــــراهم كـــــالسكـــــــاري حائرين
وإذا راجـــــعت أهـــــانوا جـــــانبـــــي
أهــــــون الشتــــــم لـنــا: يا نــــاصبي
مــــا درينا ما السبــب يا صاحبي
يستــــحـلـــون دمـــاء المسلـــــميـــن
هـــــــؤلاء القــــــوم أنصـــــار الإمـــــام
استــــباحــــــوا كــــل أمــــــوال الأنام
أخــــــذوا المـــوجود حلا والحرام
ويقــــــولوا أنَّهــــــم متــــــــطــــــوعيــــــــن
وسبق لمحمد بن محمد زبارة أن خاطب الإمام يحيى حميد الدين بقصيدة طويلة أسماها (الدين النصيحة)، ومنها نقتطف:
تنــــاهوا تنــــــاهوا عـــــن عمـــوم التظالم
وتهــــوين أمـــر الظلم عـــــــن كل ظالم
وتغميــــــض عيــــــن عـــن فضــــــــــح آمر
هلـــــوع ولــــــوع بــــاقتــــــناص الــــــدراهم
وجعل حقــــــوق المسلـــميـــــن مُبــــاحة
لقــــــاض وســــــــجــــــان وجنــــد وخـــــادم
حــــــرام حـــــــرام أنْ تكـــــــــونــــــــوا ذريعة
لعمـــــالكم فــــي فعل هـــــذي الجـرائم
يسمــــــونـــها حيــــــنًا مصــــارف عسكر
وحيــــــــنـــــًا هـــــــدايــــا أو بقــــــايا لــــــــوازم
وحيـــــــــنًا إعـــــــانـــات وحيـــــــــنًا بأجـــــــرة
وحيـــــــــنًا بـــــآداب عــــلى جـــرم جـــــارم
وجــــــــل نقــــــــود المســـلميـــــن بدوركم
بـــــــــلا دفــــتــــــر فيــــــــها ولا رقـــم راقـــم
كـــــــأن زكــــــاة المسلـــميــــــن ومـــــــالهم
تـــــــراث أبــــيـــــكم أحضـــــرت للتقاسم
ولا تجـــهلـــــــوا نظــــــم الأميـــــر محمد
(سماعًا) لمـــــن في عصــــره المتقادم
وقد أشار إلى هذا الظلم الفادح، المنافي للحق والعدل القاضي يحيى بن محمد الإرياني بقوله:
تـــأمل في الــــذي يبـــدي الـــزمان
ومــــــاذا قــــــد أتـــــــــاح بــــــــه الأوان
أمـــورٌ لـــــو تــــــأمــــــلـــــها لبــــــــــيـــــبٌ
بعين العـــــقـــــل حـــــار لها الجنان
لقـــــد عــــــمَّ الفســــاد بكــل أرض
بمــــــا لا يُستــــــطـــــاع لـــــه بــــيــــــــان
أحكم العقـل يقضي خرص زرعٍ
وقد أودى وطــــــــــــاح بــــــه الزمان
كما يحفظ الموروث الشعبي العديد من المهايد التي تصور تلك المـُعاناة المتفاقمة، وفي أعالي جبل صبر – حيث أقطن – كان ثمة مُخمن يُدعى (عياش) – لم أجد اسمه كاملًا – اُشتهر بظلمه الشديد، ووصل به الأمر أنْ اعتبر أشجار الزرب الشوكية أشجار بُن، وأحصاها وقيدها في دفاتره على هذا الأساس، وكم عانى المواطنين جراء ذلك، وكُنَّ النساء حال مقدمه يُرددن:
هذي السنة كل المخازن أعطال
عياش خرج بكى الشيب والأطفال
أما الرجال فكانوا يهجلون:
لــــــعنـــــــة عـــــلى عـــيـــــــــاش
تُـــــــــوجــــــشــــــــه وجــــــــــــاش
عظـــــــــــامـــــه أمــــجـــــــــــــاش
وقد استجاب الله بالفعل لدعوات أولئك الرعية المظلومين، وأصيب عياش – كما تشير الذاكرة الشفهية – بمرض خطير هدَّ عظامه، وكان سبب وفاته.
وفي ناحية بلاد الطعام بمحافظة ريمة، كان هناك – كما أفاد الباحث علي حسين الزبير – مُخمن يُدعى عثمان دبش، وقد هجاه الشاعر الشعبي علي محمد جريد بقصيدة طويلة عرَّج فيها على تلك المظالم، ومن تلك القصيدة نقتطف:
يــــــا الله تــــــزيــــل الطــــــوَّاف
طــــــــــــــوَّاف نــــقـمــــة النـــقم
عثمــــان دبش لا قد مات
ولا يــــــــــــــــــــــــزوره نــــــــــــــــادم
أبــــــــوه في المُــــــــزدلفــــــات
شيـــــــطـــــان جـــــــاور الحرم
يُـــــــرمى بقـــــعر الجمــــــرات
والا بـــــــقـــــعـــــــر جـــــهــــنـــــم
يشتـــي ثــــلاث وأربع قات
وثــــــلاثـــــــة أربـــــعــــــة خــــدم
وعَمِّـــــــروا لــــــــــه ســـــــــــــرات
ولا يــــــــــــــــنــــــــــــــادم نــــــــــادم
عســـــــل وسمـــــن وفـــتــــات
كــــــبــــــــاش وبــــــر مُتـــــمـــــم
وفي الحجرية كما في ريمة، وجبل صبر تكرر ذلك الظلم، وقد اهتمت الذاكرة الشفهية بتوثيقة، ومن أهازيج تلك المنطقة المـُتداولة نقتطف:
من قـــل مـــا بيده قالوا له مجنون
أرضه مــع الـــدولة وسلاحه مرهون
دولة إمــــام والعــــــامـــــل الحــــــلالي
نهبـــني المـــأمــــــــور قُــــــــــوت عيـــالي
والحلالي – هنا – هو القاضي حسين الحلالي الآنسي، عامل الإمام يحيى على منطقة الحجرية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الفائت، وقد تم تعيينه في ذلك المنصب في ديسمبر 1926م، فيما خلَّد الشاعر سعيد الشيباني اسمه في غنائيته الرائعة (يا نجم يا سامر فوق المصلى)، وسجل فيها أيضًا ظلمه، وأماني الرعية في التخلص منه ومن عساكره، جاء فيها:
هجـــــرتني والقـــلب غيـــــر ســالي
كل السبــب عسـاكر الحلالي
بكر مـــــن التـــــربة غبـــــش يـــلالي
بيـــده سبيل بجيـــبه أمــــر عالي
ربي استمـــع يا هادي كل حائر
دعــــــا الــرعية شــــوقها لمـــاطـــر
يسقي الجــــرب يسلي الخواطـر
يُطــــهر القـــــرية مــــن العســـــاكر
وليت أمر الظلم توقف عند ذلك الحد، فبعد التخمين، والكشف يأتي دور بيت المال، وهي الجهة التي تحوي دفاتر تقديرات المخامنة، والكشافين، ومن خلالها تتم المـُقارنة بين ما كان وما صار، وإنْ كانت تلك التقديرات أكثر من العام الماضي اعتمدوها، وإنْ كانت أقل رفضوها، وخاطبوا الرعية أنْ يسلموا ما سبق دفعه.
وإذا جادت السماء في سنة ما بغيثها، وأخرجت الأرض غلاتها بكثرة، خلافًا عن السنوات السابقة، فإنَّ الزكاة تتضاعف، وتُصبح ثابتة في الدفاتر، حتى لو تغير الحال إلى الأسوأ، وغادر الناس قراهم، وحول هذه الجزئية قال عبدالرحمن البيضاني: «وحتى إذا هاجر بعض أهالي المنطقة فرارًا من الزكاة؛ أمر الإمام بأنْ تضم أنصبتهم منها على جيرانهم، لأنَّ الإمام يريد نفس المقدار من المال»!
وخُلاصة هذه المأساة أنَّ ما تم تسجيله في الدفاتر فهو كالقضاء المـُبرم الذي لا يجوز نقضه، ولا تخفيفه بحالٍ من الأحوال، حتى لو انقطع الغيث، وعمَّ الجفاف، أو جرفت السيول الأرض، أو أصيبت الزراعة بآفات قاتلة، أو غادر – كما سبق أنْ ذكرنا – الناس قُراهم!
وفي حال ما كانت تلك التقديرات مُتساوية، فيضاف لها بعض التعديلات، ويُضاف ما لا بد منه احتياطًا، على اعتبار أنَّ المخامنة قد يكونوا تهاونوا في حق بيت المال، ويلي ذلك ضم العائد، وعُشر العشر، وحق العلف، والرهينة، ثم يجري التسعير، وهو تقدير قيمة الزكوات، لأنَّها في الغالب لا تدفع عينًا؛ بل تؤخذ قيمتها نقدًا، وللمالية سعر مخصوص يختلف كثيرًا عن سعر السوق؛ بل وأكثر منه بثلاثة أضعاف، وهنا يضطر الرعوي المسكين أنْ يبيع جميع مُمتلكاته ليفي بذلك، أو يغادر أرضه فرارًا من ذلك.
يتبع ..
- حكمة يمانية