نهجُ المبعوث الأممي الجديد إلى اليمن وخياراته

  • مركز الإمارات للسياسات | 22 سبتمبر 2021
  • 11:12 2021/10/02

الإحاطة الأولى التي يُقدِّمها إلى مجلس الأمن المبعوثُ الأممي الخاص لا تعكس في العادة كلّ ما لديه، ولا تذهب في اتجاه مقترحات محددة، أو ترسم سُبُلاً واضحة للطريقة التي يجب أن تنتهي بها الحرب. مع ذلك، تُمثل الإحاطة الاستهلالية نصاً حياً وبالغ الأهمية يحوي نظاماً من الأفكار والتصورات الواضحة أو المضمرة التي تشكل عادةً أساساً لنهجٍ جديد.
 
هذه الورقة تُحلل الإحاطة الأولى للمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن هانز غروندبرغ أمام مجلس الأمن في 10 سبتمبر 2021، بهدف استخلاص النهج الجديد للمبعوث غروندبرغ من خلال أبرز الأفكار والنقاط الواردة في الإحاطة، وتتناول أصداء الإحاطة لدى أطراف النزاع وردود فعلها عليها، وتستشرف بصورة مبدئية ما يمكن لغروندبرغ فعله خلال الفترة القريبة المقبلة لإرساء النهج الذي ضمّنه إحاطته.
 
أبرز ملامح النهج الجديد لغروندبرغ
 
1. أولوية إحياء جهود التسوية الشاملة
 
عَمَدَت الإحاطة إلى إعادة التذكير بمهمة الوساطة الأممية التي قال المبعوث إن مجلس الأمن كلَّفه بها، وهذه المهمة تتعلق بـ "تيسير استئناف عملية انتقال سياسي سلمية ومنظمة وتشمل الجميع"، وتأكيد غروندبرغ على هذه المهمة في الأسطر الأولى من الإحاطة مؤشر على أن تركيزه منصب على إطلاق مشاورات شاملة، وإعادة الاعتبار لهذه المهمة التي قال إنها توقفت منذ العام 2016. على هذا الصعيد أيضاً أكَّد غروندبرغ عدم إمكانية تحقيق مكاسب سريعة، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لمهمة صعبة كهذه وتزداد تعقيداً بسبب طول فترة النزاع، غير أن المبعوث غروندبرغ ربما أراد أيضاً القول إن عدم تحقيق مكاسب سريعة هو أقل ضرراً من توقُّف مسار التسوية الشاملة، لأن هذا التوقُّف يعني ببساطة استمرار الحرب لأجل غير مسمى. تقول الإحاطة: "إن عملية السلام متوقفة منذ فترة طويلة، حيث لم تناقش أطراف النزاع تسوية شاملة منذ عام 2016.  وقد ترك هذا التوقف اليمنيين عالقين في حالة حرب لأجلٍ غير مسمى، دون أن يكون هناك سبيل واضح للمضي قدماً".
 
بصورة غير مباشرة تُعيد هذه العبارة أيضاً تعريف المقصود بـ "عملية السلام"؛ فهذه العملية - كما يعتقد غروندبرغ - لا تعني شيئاً آخر غير المحادثات التي تناقش تسوية شاملة بين أطراف النزاع، أما ما عدا ذلك فيمكن أن يكون مفيداً فقط في حال كانت "عملية السلام" غير متوقفة.
 
2. نهج شامل، لكنه "تفاوضي"
 
كانت إحاطة غروندبرغ الأولى واضحة تماماً فيما يتعلق بالتركيز على أولوية استئناف العملية السياسية الشاملة، لكنها مع ذلك لم تُقدِّم إطاراً زمنياً أو خطوطاً عامة عريضة لقضايا الحل النهائي الشامل، وهذا لا يرجع فقط إلى معرفة المبعوث بالتعقيدات التي تحيط بالنزاع، وإنما كذلك إلى إدراكه بأن القضايا التي يجب أن تشملها العملية السياسية أصبحت بحد ذاتها "تفاوضية"، وليست هي ذاتها القضايا التي يُمليها قرار مجلس الأمن بشكل حرفي[1]. واللافت أن الإحاطة لم تذكر قرار مجلس الأمن 2216 كمرجعية لاستئناف العملية السياسية[2]، وإنما تحدثت عن الاسترشاد بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة فيما يتعلق بالجهود المزمعة لبناء أرضية مشتركة بين مختلف الأطراف.
 
3. شمول جميع الأطراف
 
أكدت الإحاطة ضرورة أن يشمل نهج الأمم المتحدة في إنهاء الصراع جميع الأطراف، وقال غروندبرغ: "لن أدخر جهداً في محاولة الجمع بين الفاعلين عبر خطوط النزاع"، وبالتالي فالإحاطة تأكيد لنيّة غروندبرغ التواصل مع جميع أطراف النزاع، وعدم حصر الجهد الأممي لإنهاء النزاع في الطرفين الرئيسين (الحكومة والحوثيين). ويبدو أن غروندبرغ يعتقد بوجود أدوار مهمة لجميع أطراف النزاع وللفاعلين اليمنيين "من جميع وجهات النظر السياسية والمكونات المجتمعية، ومن كل أنحاء البلاد" في مرحلة إنهاء النزاع وتحقيق السلام المستدام على حد سواء[3]، وإن كان قد ذكر إنه يعتزم تقييم الجهود السابقة في هذا الخصوص.
 
وتحدثت إحاطته أيضاً عن انخراط أطراف النزاع في حوار سلمي مع بعضها بعضاً بتيسيرٍ من الأمم المتحدة بشأن بنود تسوية شاملة بحُسْن نية ودون شروط مسبقة. ويتعلَّق مبدأ حسن النية عادةً بتنفيذ الاتفاقيات، وربما تكون المرة الأولى التي يَرِد فيها هذا المبدأ في إحاطة من هذا النوع، ربما بغرض وضع أطراف النزاع أمام مسؤولياتها القانونية والأخلاقية، أما عدم وجود شروط مسبقة فيعني تحديداً تخلي الأطراف عن شروطها لإجراء المباحثات[4]، وهذه مسألة أساسية لنجاح جهود إطلاق مشاورات شاملة.   
 
4. العودة إلى "المتن السياسي"، وتجنُّب نهج التجزئة
 
اتساقاً مع تركيز غروندبرغ على إنعاش عملية السلام بالمعنى الواسع، أشارت إحاطته الأولى للقضايا الجزئية الإنسانية والاقتصادية باعتبارها مسائل يصعب فصلها عن المسار السياسي، أو معالجتها خارج إطار الحل الشامل، حيث "ترتبط كل تفاصيل الحياة اليومية في اليمن بشكل أو بآخر بمسائل سياسية معقدة تتطلب حلاً شاملاً". وتقول الإحاطة في موضع آخر: "يظل موقف الأمم المتحدة ثابتاً؛ لابد من ضمان حرية حركة الأفراد والسلع من وإلى اليمن، وداخل اليمن أيضاً. فيجب أن يتم فتح الطرق للسماح بحركة الأفراد والسلع من وإلى تعز. ويجب أن يفتح مطار صنعاء أبوابه أمام الطيران التجاري. ولابد من تخفيف القيود المفروضة على استيراد الوقود والسلع عبر ميناء الحديدة. وهناك حاجة مستمرة إلى التنسيق الوثيق بين الهيئات في أسرة الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي الأوسع نطاقًا، وأطراف النزاع للتعامل مع هذه القضايا بشكل مناسب."
 
ويُلاحظ أن الحديث في هذا النص الأخير عن القضايا الإنسانية والاقتصادية جاء فقط في إطار تأكيد موقف الأمم المتحدة المبدئي منها، وليس بوصف تلك القضايا أولويات عمل "طارئة" في أجندة المبعوث[5]، في حين يوحي النص على التعامل مع هذه القضايا بالتنسيق بين الوكالات الدولية المتخصصة والمجتمع الدولي وأطراف الصراع، بوجود رغبة في تحرير الدور السياسي للمبعوث من ضغط هذه القضايا وتأثيرها اليومي على مهمته.
 
5. وقف القتال في إطار مشاورات شاملة
 
لم يستخدم غروندبرغ في إحاطته مصطلح وقف إطلاق النار ربما حتى لا يترك انطباعاً بتبنّيه بعض التصورات الدولية والإقليمية التي ركزت خلال الأشهر الأخيرة على أولوية وقف إطلاق النار. لقد استخدم بشكل مقصود - فيما يبدو - عبارة لا تُوحي بموقف محدد في هذا الخصوص هي "وقف القتال ووضع نهاية للعنف". أما هجوم الحوثيين على مارب فوضعه غروندبرغ في سياق "تغيُّر بؤر المواجهات.. وتناوب الأدوار الهجومية"، وهو يقصد من ذلك أن بؤر المواجهات متغيرة طالما استمرت الحرب؛ فبالأمس كانت الحديدة، واليوم مارب، وغداً قد تكون في مكان آخر، وبالتالي فإن الجهد الأممي ينبغي أن يركز على وقف القتال في جميع أنحاء البلاد من خلال عملية سياسية شاملة، وليس بالتعامل الظرفي مع بؤر المواجهات المتغيرة وملاحقتها، وعندما قال غروندبرغ إن الهجوم على مارب يجب أن يتوقف، فقد عزى ذلك إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بصفة عامة، ولم يُشِر إلى نيّته العمل بصورة مباشرة على وقف ذلك الهجوم.
 
6. مسؤوليات إقليمية ودولية مشتركة
 
الموضع الوحيد الذي عبّر فيه غروندبرغ عن "قلقه الخاص" في الإحاطة هو حديثه عن "استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية داخل المملكة العربية السعودية"، ويمكن النظر إلى هذا التعبير عن القلق من زاوية إدراك المبعوث لخطورة امتداد النزاع إلى خارج الحدود اليمنية وتهديده للأمن الإقليمي، وهو أيضاً رسالة للحوثيين بأن النزاع يمني-يمني ولا يمكن إعطاؤه صفة أخرى. مع ذلك شددت الإحاطة على أن السلام في اليمن ضرورة لاستقرار المنطقة، في رسالة ربما لحثّ السعودية على المساعدة في إحلال السلام في اليمن، وأشادت الإحاطة في مكان آخر بالمبادرات التي اتخذها "جيران اليمن وأعضاء هذا المجلس..".
 
في هذا الإطار أيضاً تحدَّث المبعوث عن المسؤولية المشتركة الواقعة على الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، مُعتبراً أن بداية ولايته فرصة لإعادة تقييم تلك المسؤوليات. والواقع أن هذا خطابٌ متقدّمٌ للغاية؛ ففي السابق كانت إحاطات المبعوثين تركز على طلب الدعم الدبلوماسي للوساطة الأممية، أما الحديث عن مسؤوليات الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية فيعني ما هو أكثر من مجرد حشد التأييد الدولي والإقليمي للجهد الأممي، وفي الحقيقة تضمَّنت الإحاطة "مُهمَّتين" يتوجب على "الجهات الخارجية الفاعلة" القيام بأي منهما في إطار هذه المسؤوليات:
 
 الأولى، "تشجيع خفض العنف"، وهذا ربما موجّهٌ للجهات الإقليمية الفاعلة التي لديها علاقات "عضوية" ببعض أطراف النزاع يمكن عبرها التأثير على قراراتها العسكرية. والثانية، "دعم تسوية سياسية يقودها اليمن"، وهذا أمر يتعلق بـ "جهات خارجية فاعلة" أخرى يمكنها تشجيع أطراف النزاع على الانخراط بإيجابية في مشاورات شاملة، وبحوزتها قدرٌ من التأثير المعنوي الذي لم يوظَّف بصورة جيدة حتى الآن.
 
وأسماء العواصم الإقليمية التي ذكرها المبعوث في إحاطته، ليست مجرد أماكن ينوي غروندبرغ زيارتها خلال الأسابيع الأولى من مهمته كما ذكر، بل هي - وبصورة لا تفتقر للوضوح - أبرز "الجهات الخارجية الفاعلة" على المستوى الإقليمي التي تقع عليها "مسؤوليات" في خفْض العنف أو المساعدة في التسوية الشاملة للنزاع أو الاثنين معاً بحسب "صفاتها المختلفة".
 
أصداء الإحاطة وردود الفعل عليها
 
عادةً ما تتفادى أطراف الصراع التعبير عن مواقف نهائية من "الإحاطة الأولى" للمبعوثين؛ فوجود مبعوث أممي هو إحدى الحقائق التي يتعين على أطراف الصراع التعايش معها، أما الإحاطة فتُعدّ لغة المبعوث المفتوحة على الواقع وليست الكلمة الأخيرة.
 
وفي هذا الإطار، قال الحوثيون إن إحاطة المبعوث متحيزة، وتُساوي بين الجلاد والضحية، كما تدور في فلك قرارات مجلس الأمن "الخاطئة" وما وصفوه بضغوط الدول الكبرى، مع ذلك لا يمكن القول إن الإحاطة كانت مفاجئة أو مُحبطة بالنسبة للحوثيين، فجلال الرويشان نائب رئيس ما يسمى "حكومة الانقاذ" لشؤون الدفاع والأمن، قال إن الإحاطة كتبها مكتب المبعوث الأممي! في إشارة ربما إلى إنها روتينية ولا تمثل بالضرورة الموقف النهائي لغروندبرغ، وأضاف إنه يأمل أن يستوعب المبعوث عند زيارته الى صنعاء كثيراً من النقاط ويُغيّر من الآلية التي تعمل بها الأمم المتحدة. فالحوثيون، إذن، ليسوا بصدد إغلاق أبوابهم أمام الزيارة الأولى للمبعوث إلى صنعاء (لم يتحدد موعدها بعد)، لكن بغرض شرح تصوراتهم والتأثير في مواقف غروندبرغ. ومع ذلك، قد يجعل الحوثيون هذه الزيارة صعبة المنال من الناحية الفعلية، ويربطونها بسلوك المبعوث وتصريحاته خلال الفترة المقبلة.
 
بالنسبة للحكومة المعترف بها دولياً التي كانت سباقة إلى الترحيب بالمبعوث عند تعيينه، فقد امتنع مسؤولوها عن التعليق على الإحاطة، رغم الأصداء غير الإيجابية بسبب تجاهُل الإحاطة للمرجعيات الثلاث، وفي اللقاء الأول للمبعوث مع الرئيس هادي في الرياض (16 سبتمبر 2021) بحضور نائبه علي محسن صالح، ورئيسي مجلسي النواب والوزراء، كرر هادي الحديث ذاته عن المرجعيات الثلاث كأساس للحل السياسي، وقال إنه سيُقدِّم الدعم الكامل للمبعوث من أجل التوصل الى وقف شامل لإطلاق النار.
 
خيارات غروندبرغ المحتملة
 
وفقاً لإحاطته التمهيدية ستكون مهمة المبعوث الأممي الجديد أكثر من صعوبة، إذ من المفترض أن يعمل على استئناف عملية السلام (إطلاق مشاورات شاملة) انطلاقاً من الوضع الراهن كما هو. وبعبارة أخرى، إطلاق محادثات سلام غير مسبوقة بـ "رفع الحصار" كما يطالب الحوثيون، أو بوقف كامل لإطلاق النار بما في ذلك في مارب كما تُطالب الحكومة الشرعية، وإقناع الطرفين أو التأثير عليهما في هذا الاتجاه يُمثِّل معضلة حقيقية قد تترك مهمة غروندبرغ تدور في الفراغ وقتاً قد يطول أو يقصُر، ليجد المبعوث نفسه أمام أحد خيارين:
 
الخيار الأول: التراجُع الجزئي عن التصورات الشمولية الواردة في الإحاطة، والابتعاد ببطء عن مسار العملية السياسية عبر البدء مثلاً بالبحث عن حلول جزئية للقضايا الاقتصادية والإنسانية، وهذا إن حدث فسيعني أن غروندبرغ سيصل إلى النقطة التي وصل إليها سلفه (توقُّف عملية السلام). والسؤال الواقعي هنا هو: لِكَم من الوقت سيستطيع غروندبرغ مقاومة ضغط الملفين الإنساني والاقتصادي على مهمته الأساسية إذا استمر النزاع بوضعه الراهن؟ وعلى عكس ملف مطار صنعاء وميناء الحديدة، من المستبعد أن يشارك غروندبرغ في حملة للضغط على الحوثيين من أجل إيقاف هجومهم على مارب، أو أن ينشغل كثيراً بهذا الأمر خلال الفترة القريبة المقبلة. مع ذلك قد يتعين على غروندبرغ توضيح موقفه بصراحة أكبر في هذا الملف إذا استمرت الهجمات في مارب لمدة أطول.
 
الخيار الثاني: العودة لمبدأ التزامنية، والذي قد يعني في ظل المعطيات الحالية للصراع رفْع القيود المفروضة على مطار صنعاء وميناء الحديدة بالتزامن مع هدنة في مناطق المواجهات بدلاً عن اتفاق لوقف كامل لإطلاق النار، مع بدء مفاوضات رسمية شاملة في الوقت نفسه. وقد أثار لقاء غروندبرغ بعد انتهاء إحاطته أمام مجلس الأمن بمحمد الحسان مندوب سلطنة عمان في الأمم المتحدة تكهنات باحتمال أن تكون مسقط قد هيأت بالفعل "عرضاً تزامنياً" لغروندبرغ يتضمن صفقة بفتح ميناء الحديدة ومطار صنعاء مع بدء مفاوضات سياسية شاملة بين الحكومة والحوثيين، وهذا يعني تجاوز مسألة وقف إطلاق النار أو ترحيلها إلى ما بعد رفع القيود المفروضة على المطار والميناء. ومن المهم هنا الإشارة إلى تصريح غير اعتيادي أدلى به وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي في لقائه مع قناة العربية (13 سبتمبر 2021) قائلاً "نحن قاب قوسين من دفع العملية السياسية اليمنية"، مع التذكير بزيارة غامضة لم تُسلَّط عليها الأضواء كثيراً قام بها وفد عُماني إلى مارب قُبيل إحاطة غروندبرغ بأيام، وأعقبتها معلومات من مصادر إعلامية حوثية عن اتفاق وشيك بين جماعة الحوثي وحزب الإصلاح المسيطر فعلياً على المدينة حول إنهاء هجمات الحوثيين مقابل تقاسم الثروة النفطية والغازية بين الطرفين. وبصرف النظر عمَّا إذا كان مثل هذا الاتفاق ممكن الحدوث أم لا، فإن التحركات العُمانية تبعث بإشاراتٍ لغروندبرغ بأن العمل على صفقة تزامنية دون الانشغال كثيراً ببؤر الصراع العسكرية المشتعلة، أو التوقف عند مسألة وقف شامل لإطلاق النار، هو ما يجب القيام به، وهذا قد يُمثِّل للمبعوث الجديد أحد السُّبل الممكنة للمضي قدماً.
 
خلاصة واستنتاجات
 
تضمَّنت الإحاطة الاستهلالية للمبعوث الأممي الجديد إلى اليمن، هانز غروندبرغ، أفكاراً أساسية تمثل نهجاً مختلفاً ذا ملامح خاصة. وأهم ملامح ذلك النهج التركيز على إحياء جهود التسوية الشاملة كأولوية فائقة، وتجنُّب نهج التجزئة والحلول الضيقة للقضايا ذات الطبيعة "الطارئة" في النزاع كالقضايا الإنسانية والاقتصادية.
 
ومع أن الأصداء التي تركتها إحاطة غروندبرغ الأولى لدى أطراف الصراع لم تكن إيجابية، لكن يمكن القول إن الإحاطة لم تكن مُفاجئة أو صادِمة بما في ذلك للحوثيين، ومن المتوقع ألَّا يُوصد هؤلاء أبوابهم أمام المبعوث الجديد في المستقبل القريب، لكن ليس بنية التعاون وتسهيل مهمة غروندبرغ، وإنما بأمل شرح وجهات نظرهم بصورة مباشرة ومحاولة التأثير على قناعاته.
 
لقد عرض غروندبرغ بصورة مُجمَلة في الإحاطة تصوّره لما يجب أن تكون عليه مهمته بحسب الولاية التي كلَّفه بها مجلس الأمن، لكن جهده العملي قد لا يمتثل تماماً لتصوراته الشمولية للعملية السياسية، وذلك بسبب قوة الحقائق وضغط الملفات الإنسانية والاقتصادية، وربما أيضاً بسبب تأثير بعض الوسطاء الإقليميين والدوليين. وبوجهٍ عام، فإن ما تشير إليه الإحاطة بجلاء، أن غروندبرغ عازم على عدم الانزلاق نحو صفقات جزئية أو تحويل مهمة المبعوث الأممي إلى إطفائي حرائق عسكرية وإنسانية على حساب جهده الرئيس لإطلاق مشاورات شاملة، لكن من غير المعروف كم من الوقت يستطيع غروندبرغ الاحتفاظ عملياً بموقفٍ كهذا، وتهيئة الظروف لاستئناف مشاورات شاملة تتضمن مساراً سياسياً، ومعايير سلام مستدام، وتشمل جميع أطراف الصراع.
 
[1] هذا النهج مختلف عمّا كان المبعوث السابق مارتن غريفيث مقتنعاً به في بداية مهمته، إذ تحدَّث غريفيث في إحاطته الأولى لمجلس الأمن (17 أبريل 2018) عن أن الحل السياسي "متاح فعلياً"، وتتوفر له خطوط عريضة هي: إنهاء القتال، وسحب القوات، وتسليم الأسلحة الثقيلة في المواقع الرئيسة بمعية الاتفاق على تشكيل حكومة تتسم بالشمول...، وهذه "الخطوط" مأخوذة نصاً من قرار مجلس الأمن 2216 كما هو واضح.
 
[2] في إحاطته الأخيرة (15 يونيو 2021) قال غريفيث إنه "ربما يجب أن تجري عملية حوار دولية لإعادة صياغة الأهداف الواقعية لعملية التفاوض"، وهذه مطالبة غير صريحة بتحديث القرار 2216، ويبدو أن لدى غروندبرغ القناعة نفسها حول عدم صلاحية القرار، لكنه لم يُورد في إحاطته ما يُفيد تأييده "عملية حوار دولية" حول القرار، وربما يُفضِّل حدوث ذلك في إطار المفاوضات بين أطراف النزاع.
 
[3] أقام المبعوث السابق غريفيث في إحاطته الأولى جداراً فاصلاً بين "عملية إنهاء الحرب"، حيث "الأطراف الضرورية لهذه المهمة المحددة هي التي يمكن أن تسهم قراراتها في إنهاء هذه الحرب"، وبين "عملية بناء السلام" التي قال إنها ستكون مهمة أكبر وتستند إلى حوار وطني واسع يشمل المصالحة، والمراجعة الدستورية، وإعادة الإعمار، وإعادة بناء مؤسسات الدولة. وبالفعل فقد اقتصرت مشاوراته لإنهاء الحرب على الأطراف الضرورية (الحكومة والحوثيين)، بينما تم وضع الأطراف الأخرى على الرف، وبذلك لم تتحقق لمهمة غريفيث الشمولية. وربما هذا ما يُحاذِر غروندبرغ من الوقوع فيه، وإن لم يكن واضحاً بخصوص التمثيل الشامل لجميع الأطراف في المفاوضات. والواضح أن الاعتقاد بأن مهمة المبعوث تنحصر في الوساطة بين الطرفين الرئيسين في النزاع دون سواهما وراءه في الحقيقة نهج غريفيث الخاص الذي كرَّسه خلال ولايته، وليس قرار مجلس الأمن 2216.
 
[4] لطالما نصَّت إحاطات غريفيث على ضرورة تخلي أطراف النزاع عن شروطها المسبقة، لكن بمرور الوقت أصبح انخراط الأطراف في تدابير لبناء الثقة قبل الدخول في مباحثات شاملة شرطاً جديداً وضعه غريفيث نفسه، وقصد به تحديداً إطلاق سراح السجناء وفتح مطار صنعاء، وبذلك أسهم غريفيث في تعقيد مهمته دون قصد. واللافت في إحاطة غروندبرغ الاستهلالية خلوها تماماً من مصطلح "تدابير أو إجراءات بناء الثقة" وهذا يتماشى مع نهجه الشمولي المشار إليه. 
 
[5] يختلف هذا النهج أيضاً عمَّا كان سائداً في عهد المبعوث السابق مارتن غريفيث، فقد تضمَّنت الإحاطة الأولى لغريفيث "العمل على فتح مطار صنعاء مرة أخرى أمام الحركة الجوية"، إضافة لـ "ترتيب إطلاق السجناء"، وتحدث كذلك عن العمل على إيجاد "اتفاقيات فعَّالة" بين اليمنيين. وظلَّ نهج تجزئة الحلول مُسيطراً على المبعوث السابق حتى لحظاته الأخيرة، إذ دعا في إحاطته الوداعية إلى "التعامل بشكل طارئ" مع استمرار إغلاق مطار صنعاء والقيود المفروضة على إدخال الوقود من موانئ الحديدة.

ذات صلة