يكتب نبيل الصوفي في "تفاصيل شخصية" عن القاضي العمراني
كتب/ نبيل الصوفي:
06:55 2021/07/13
لم أهَب في عمري الكتابة عن أحد كما أهابها الآن في حضرتك يا أبى العلم وسيد العلماء. لا تكفيك حقك كلمة.. لا يمنحك قدرك الكلام.
أين هم طلاب العمراني؟
كل ما كُتب عنه لا يقول شيئاً..
لا يبدو أن الناس تعرفه إلا جملة عامة.
يكتب الناس عن مبادئ أحبوها ويجعلون "شيخ الإسلام" رمزية لها، لكن لا شيء عنه هو شخصياً.
نعي "الشيخ" كان احتفاءً بـ"قيمه" التي حتى لم تعرف، لكن الناس استشعروها، هكذا، كل منهم خطّها من روحه وعقله الجمعي.
بحثت عن مقال صغير، كنت كتبته عنه.. ولم أجده، كتبته عن "العمراني كمؤسسة معرفية عابرة للزمان والمكان"..
فهذا الرجل عارك انغلاق "الهادوية" وهو شاب يكافح في حِلَق العلم بالجامع الكبير، "كنا نتعب من حمل الكتب"، كما سمعتها منه.. ففي ذلك الزمن كانت الكتب ضخمة.. مجلدات من ورق ثقيل.. وبدون وسيلة مواصلات.
ثم حين سقطت دولة "الإمامة" تدافع الناس لاعتقاد أنهم جمهوريون.
عارك الرجل انغلاق "الجمهورية" فتمسك بعلمه وهيئته كواحد من "أبناء جوامع العلم، الكبير والبليلي" وغيرهما.
مدهش هذا الرجل البسيط، كيف كان يسرد المصادر المعرفية للفتوى.. يسرد آراء الشوكاني وابن الأمير والمقبلي، وهو بذلك يثبت احترامه للفقه والعلم في مواجهة من أراد دفن موروثهم بتصورات أنهم "نسخ وهابية" يمنية.
وفي نفس الفتوى يختمها بالقول: أما الهادوية.. أو وعند الهادوية، او يفصل: وفي شرح الأزهار.. ويسرد ما قسم للمستمع من رزق معرفي.
في الوقت الذي كانت حركات الإسلام السياسي تدفن جهد "الزيدية" أو حتى "الهادوية" بشكل أدق، كان القاضي يتمسك بالمعرفة، فعدم التسييس هو التزام عميق بـ"الانفتاح" أمام الفكرة أياً كان مصدرها.
له مبحث صغير جداً عن "الزيدية أقرب المذاهب إلى السنة".
وكان يذهب للمدى الأكبر، فيستحضر الإمام محمد عبده والأفغاني.. ويمنح "رشيد" رضا مكانة أعلى.
ويرفض مأسسة الخطاب الديني كلية، وسأسرد جانبين من هذه الفكرة "العمرانية" الخالصة يمنياً:
الأولى، عن موضوع "الفتوى" نفسها.. كان يتجنب "الفتوى المطلقة حول الأفكار"..
منه تعلمت "الفتوى حال من قائلها"، فحين يقول المفتي فتوى فهو يقولها رداً على سائل محدد يبحث عن ما يخصه من وقائع، لا أن يأتي الناس فيفترضون ما يستفتون عنه، إن أصبح المستفتى لديه القدرة على استعراض الأفكار فهو إذا "مفتي نفسه".
ولهذا كان يرفض "البيانات الموقعة" التي صارت موضة ذات زمن، يمر شخص بورقة يدور توقيعات، مع أنه في مرات وقع تحت ضغط التحريض أو الإحراج.
وكان ضد "جمعية علماء اليمن"، ولطالما حكى لنا، ونحن نتحلق حوله كطلاب علم، أنه قال للمرحوم "الشيخ حمود هاشم الذارحي": "حقروك"، مع الإشارة بإصبع القائل.. وهذه كلمة وحركة صنعانية خالصة تعني انتقاداً لاذعاً بالطريقة الشعبية، وذلك وقت نقاش تأسيس الجمعية.
كان العمراني يقول: قدي سلطة دولة وعادك تعمل جمعية تمكن هذه السلطة من التحكم بالعلماء وبالفتوى عبر "جمعية لها مرتبات وإدارة وختم".
موقف عملاق ضد رغبة الجماعة السياسية التي تستخدم الدين ومراكز قوته بمسار تنظيمي.
وللأسف، أني لم أحضر له حلقاته في "جامعة الإيمان"، التي درّس فيها لسنوات، لأرى كيف كان يخدم العلم في قلب مؤسسة شديدة الاستقطاب يتناقس فيها "الإخوان" الذين كانوا مضطهدين كتنظيم داخل الجامعة من قبل شيخهم الذي كان يميل لـ"السلفية الجهادية" الشيخ عبدالمجيد الزنداني.
كان "القاضي محمد بن إسماعيل" في لحظات شديد المحافظة والتقليدية، وفي أخرى نموذجاً مدهشاً من الانفتاح والحداثة الفكرية.
درست على يديه بعضاً من "فقه السنة" و"سبل السلام" ولكن أعظم ما عرفني بدهشة "التفكير" كانت حلقاته الصباحية في جامع "الزبيري" في "أصول الفقه".
اليوم وأنا أكتب هذه المقالة "أطعم" لذة "العلم" التي كانت تسحرنا بالدراسة بين حضرة عالم يحتقر "الفخامة" فتنصاع لكلماته البسيطة وهيئته الأليفة مستسلمة برهبة لا حدود لها..
ما عرف العمراني التكلف يوماً، يتحدث كأنه يبيع في سوق الخضار.. وبذات الوقت لا يقول إلا فكراً تراه كجار القمر علواً، وكموج البحر تدفقاً.. يقول ما لا يسع ذاتك إلا "تذوق" تباهي العلم وبرهانيته.
لم أهب في عمري الكتابة عن أحد كما أهابها الآن في حضرتك يا أبى العلم وسيد العلماء.
لا تكفيك حقك كلمة.. لا يمنحك قدرك الكلام.
"خلوهم يصلوا مثل مايشتوا، قد دخلوا الجامع ما دخلكم".
هكذا كان يعترض على وظيفة تعليم الناس الدين والتدين، دعهم بين يدي الله وسيتعلمون.
تعلمت الخطابة على يديه، ثم صرت مثله لا أستطيع الخطابة، فذات جمعة لم يحضر الخطيب، تلفتنا كمصلين وكان "حجة الإسلام" في زاوية جامع الزبيري.. ذهبنا إليه وقبل أن نصل كان قد وقف يريد الخروج.
"العمراني" بكله لا يقبل أن يخطب في الناس بالعموميات، هو لم يتدرب على الخطابة فكل عمره يتحلق مستمعاً منقباً قارئاً.
قلت له: ما الحل؟ قال: قوموا روحوا.. مسجد آخر أو صلوا ظهر.
يقف بحسم في حدود ما يحسن، ولا يزيده تواضعه هذا إلا إدهاشاً.
فقلت له: سأخطب الجمعة، طالب في الثانوية، مراهق يرى كل شيء مهمة ممكنة، ابتسم وجلس مباشرة، وقال: هيا اطلع المنبر، فاختطبت، حين انتهت الصلاة ولم أكن توفقت في شيء أصلاً، لكنه قام بجلالته كلها وجاء جهتي، باشاً كأني قلت خطبة عصماء وهي لا شيء أبداً.
قال لي: "عنكون نجي بعد العصر.. اطلع اخطب وأنا حقك المستمعين"، قال لي: "حين كنت تسكت أبسرك لا تكون قد ادربت".. فأنا كنت أفقد ما سأقول.. ما كنت أعرف أصلاً أن للخطابة هيبة تفر منها الكلمات، وكان يرفع رأسه فعلاً للاطمئنان أني بخير..