هكذا هندس رجل التاريخ مثواه الأخير!

08:00 2020/11/20

في ذكرى رحيله الثانية، حاولت أن أتحايل على هذه اللحظات دون أن أتذكر الساعات الأخيرة في فراق الصديق والمعلم والأب أ.د صالح باصرة. لكن أبى أصدقاؤه المخلصون إلا أن يدعوا له ويحيوا ذكرى وفاته الثانية بزيارة لقبره، وعقد ندوة في منتداه في مركز الرشيد في عدن. وقد انهالت عليّ رسائل التعازي وكأنه البارحة، فأعادوني لأجواء تلك الأيام القاسية - سامحهم الله!
 
لكن لعل دعوات الصادقين له بالرحمة تصل وتريحه في قبره. رحم الله الدكتور الذي عشق التاريخ، وعشق مدينة عدن حتى قدر له الله أن يدفن فيها، وفي هذه قصة لن أنساها.
 
فبعد ساعات من وفاته في مدينة عمان في الأردن في 19 نوفمبر 2018 أشار على بعض المحبين أن إكرام الميت دفنه، وبسبب قلة الرحلات إلى عدن الناتج عن صراعات الشرعية والانتقالي، فقد رجحنا أن يدفن في مدينة عمان الأردنية. وحينها وافقت دون تأن، فلم أكن في وضع نفسي مستقر. بعدها بقليل أشارت علي أختي الصغرى "شهد" أنها سمعته مرة يقول بمزاح إن من يعشق عدن يدفن فيها. لم أتردد في فكرة السفر وعلمنا ساعتها مصادفة أن الطائرة الجديدة "سقطرى" ستقوم برحلتها الاولى للعودة من عمان إلى عدن في زمن قياسي لا يتعدى 24 ساعة.
 
ونحن في طريق العودة أشار علي الخال د. خالد إبراهيم بامدهف بدفنه بمقابر القطيع ففيها يدفن رجال الدولة "بحسب وصفه"! وعندما خُيرت عن مكان الصلاة عليه فاخترت مسجد ابان لأني اعلم حبه الجم لتاريخ المسجد العريق الذي اسسه الصحابي أبو موسى الأشعري وجدده الصاحبي معاذ بن جبل، وبناه الحكم بن أبان بن عثمان بن عفان في 105هجرية، وتذكرت عدم رضاه عن عملية إعادة ترميم المسجد التي لم تراع خصوصية المسجد التاريخية. وبعد أن وصلنا عدن واتممنا الصلاة والدفن وكان يوما عصيبا مزدحما بالمعزين والمحبين. وفي ذلك المساء المظلم والطويل الذي يعرف بؤسه كل من فقد محب وعزيز، وانا مستغرق في محاولاتي البائسة لأيام لاستراق دقائق للنوم، ناولتني والدتي ملزمة من الأوراق، وقالت لي انها وجدت وصية لوالدي كانت مخبأة في أحد دواليبه. كانت الوصية على شكل أبواب، ففيها باب صلة الرحم، وعن مكتبته، وتفاصيل أخرى كثيرة إلى ان وصلت إلى باب الدفن والصلاة عليه. حينها سمعت صفيرا في اذني تخللته نبضات قلبي ولن انسى أنى شعرت بثقل الوصية وكأنها طن من الورق في يدي فقد أكون ارتكبت خطيئة بدفنه وتأبينه على خلاف ما أراد!
 
لم اكمل الوصية وطلبت من اختي الكبرى "رشا" إعادتها إلى مكانها، وبدأت افكر ماذا لو أوصى بمكان دفن اخر؟ فتداعت إلى مخيلتي افكار كثيرة منها نبش القبر لأبر بوصيته مهما كانت العواقب!. فلا يمكن ان أعيش مع هذه الخطيئة التي ستقتلني بغصتها ابد الدهر. تمالكت نفسي بعدها بفتره وجيزة وعدت لقراءة الوصية، وحينها لم أتصور انني سأضحك في ليلة دفن والدي، فلم اجرب من قبل دموع الفرح! ووجدت أننا نفذنا وصيته في هذا الباب حرفيا وكما أراد بالضبط! ودون ان نعلم، فقد دفن في عدن، وصلي عليه في مسجد ابان ودفن في مقابر القطيع ليتسامر مع تهاليل وتكبيرات مساجد العيدروس ويستظل من شمس عدن بجدران مدارس بازرعة العتيقة التي تأسست في عام 1912م، لتداعب مسامعة اصوات التلاميذ والاجراس المعلنة عن بداية وانتهاء الحصص. وقد أوصى بختم الدرس لروحه في مسجد العسقلاني الذي قيل إن الإمام الحافظ بن حجر العسقلاني أقام فيه لأشهر، وكان له ذلك، ولله الحمد.
 
نسأل الله أن يوفقنا لبره بعد مماته كما وفقنا لبره في حياته – رحمك الله يا والدي، ونسأل الله يجعل مثواك الجنة إن شاء الله.