«سلخ جلود الأموات».. سيرة الأئمة الجدد في اليمن
- صنعاء، الساحل الغربي، أمجد قرشي:
- 12:26 2020/11/20
إن المواطن تحت حكم هذه السلطة الجائرة، لا يكاد يرى سوى دولة جبايات ودفع إتاوات، دولة تعرف كيف تسن قوانين الدخل وسلخ جلد المواطن وتكسير عظامه إن لم يجد ما يدفع.
ما زلت، إلى اليوم، أتذكر صديقاً لي كان يعاني الأمرَّين من أبيه الذي كان يرغمه على أن يتدبر له أموالاً -"حق الصرفة"- بأي شكل من الأشكال، رغم أن الابن لم يكن باستطاعته توفير متطلبات دراسته الجامعية ولا احتياجاته الضرورية للعيش في المدينة، وكلما حاول الابن أن يشرح للأب ظروفه الصعبة جداً، هدده الأب بالقطيعة وبالدعاء عليه بالموت وهو غير راضٍ عنه إن لم "يخلق له الفلوس من طوله وإلا من عرضه"، وفوق ذاك يتمنن عليه بالرباط المقدس القائم بينهما (حق الأبوة)، ويذكِّره بما فعله من أجله في صغره ومراهقته وأيام دراسته في المرحلتين: الأساسية والثانوية؛ فيضطر الابن، تحت وطأة ضغط الرباط المقدس والالتزام الأخلاقي- الديني والمجتمعي، أن يقتسم مع أبيه (ملاليم) تدريسه في مدارس خاصة؛ لكي لا يحرمه من مواصلة دراساته العليا التي كان يراها الأب طموحاً لا يدر مالاً، وإن در في المستقبل، الذي يراه بعيداً، فلن يكون العائد المنتظر طائلاً ولا يستحق كل صبر الابن وعنائه.
قصة الصديق الآنفة، هي قصة كل يمني اليوم، بالرغم من بون المشابهة بين الأب والسُلط السياسية التي تحكم اليمن الآن، وبالرغم من بونها بين الابن والمواطنين الذين تحكمهم سُلط الأمر الواقع؛ فمن هذه السلط، ما لا تختلف عن الأب في شيء سوى في ادعائها (حق الأبوة) على المواطنين اليمنيين الذين ينكرون أبوتها لهم، ومع ذلك تجدها تجبرهم على الاعتراف بتلك الأبوة بالقوة، حتى وإن كانوا يرونها أبوة من سفاح، بل يرونها أبوة مرفوضة ولا شرعية ولا صلة قرابة تربطهم بها.
"قمصان عثمان"!
لقد أخذت السُّلَط، التي بسطت نفوذها، كل عائدات النفط والغاز وغيرها من الأموال الموهوبة والمنهوبة، وحرمت الكثير من رعاياها وحماتها وعمالها وموظفيها من حقوقهم التي يعرفون منابعها، ولكنهم يجهلون لماذا وكيف ومن يسلبها منهم، رغم تضحياتهم الجسيمة في سبيل إعادتها إلى دائرة الحكم في صنعاء.
أما الذين استحوذوا على مناطق شمال اليمن، فقد غدا انقطاع تدفق أموال النفط ونقل البنك المركزي إلى عدن وإغراق الأسواق بالعملة الجديدة التي منعوا تداولها، "قمصان عثمان" التي بها يبررون حرمان الموظفين من رواتبهم وحقوقهم، وباسمها يتسترون على حجم مداخيل المؤسسات الإيرادية الحكومية التي ما زالت تدر المليارات، وبعناوينها يغضون الطرف عن كل صور الفساد التي أثرى منها من أثرى ممن ينتمي إليها، وبتضخيمها يزينون كل صور النصب والنهب والسلب والغصب التي يلحقونها بالمواطنين، بل يتفننون ويفتنون في خلق شعارات مرحلية لها تحلب حتى الذي لا يجد قوت يومه؛ فباسم التحشيد تارة، وباسم رفد الجبهات بالمال والرجال ثانية، وباسم المجهود الحربي ثالثة، وباسم المولد ومختلف المناسبات الدينية رابعة، وباسم الشهيد خامسة، وباسم القدس سادسة، وباسم دعم "حزب الله" سابعة، وباسم دعم الريال ثامنة، وباسم ذكرى فلان أو علان أو فلتان من أصنامهم تاسعة وعاشرة وحادية عشرة، وباسم كذا وهذا وذاك و...و...و... ألف تارة.
صور عصرية للبدائية
لم يعد المواطن، في ظل حكومة الأمر الواقع، يرى دولة أو شبه دولة، وإنما صور بديلة وعصرية للقبائل البدائية ولثقافة النهب التي عرفتها اليمن بعد إفشال ثورة 1948م وقبل ذاك؛ فقد أباح "أحمد حميد الدين" صنعاء للقبائل، وتركها نهباً لهم مدة ثلاثة أيام؛ لكي يؤدب أهلها الذين لا ناقة لهم فيما حدث ولا جمل. أو لم يعد يرى سوى نسخة مكبرة من علاقة الحاكم بالمحكوم زمن الأئمة؛ فقد روي أن "يحيى حميد الدين" أمر بصرف "قدح" من الحبوب لأحد أعوانه في صنعاء على أن يأخذه من عامل في أطراف محافظة عمران اليوم. وحينما عاد إلى صنعاء بأقداح كثيرة أعطاها إياه أحد المشايخ مع أبناء قريته الذين أشفقوا عليه من مشقة السفر وطوله على ما لا يكلف، سأله "يحيى" عن مصدرها فأخبره بالحقيقة، فأخذها كلها منه مدعياً أنها ملك لبيت المال، ولم يعطه سوى ما أمر به.
الأئمة الجدد
هذا هو حال المواطن، اليوم، في ظل حكم الأئمة الجدد، لا يكاد ينتهي من دفع ضريبة مبالغ في نسبتها، حتى يجد صوراً أخرى لابتزازه وتصفير ماله؛ فإلى جانب الذرائع التي لا تكاد شعاراتها تنتهي والضريبة التي لا يكاد يذكر عدد المرات التي يدفعها في العام الواحد ولا يكاد يجد قانوناً لضبط سقفها ولا لضبط موعد أخذها، تأتي هيئة الواجبات الزكوية التي تحدد زكاة مالك وفق ما ترى لا وفق ما تملك، ثم يأتي الوقف، وزكاة الفطر، ودفع مقابل خدمات لم تعد مفعلة منذ العام 2011م. كل هذا يدفع بغض الطرف عما يؤخذ سراً وجهراً وعنوة و... إلخ.
سلخ جلد المواطين
إن المواطن تحت حكم هذه السلطة الجائرة، لا يكاد يرى سوى دولة جبايات ودفع إتاوات، دولة تعرف كيف تسن قوانين الدخل وسلخ جلد المواطن وتكسير عظامه إن لم يجد ما يدفع، ولكنها لا تفصح عن خط سير الأموال الطائلة جداً التي تحصلها ولا عن طرائق توزيعها ولا عن مستقرها ومجراها، بل إنها تكاد تخفي قوانين صرفها وتوزيعها وتستغل جهل الناس بذاك وبأن لكل منهم حقاً فيها؛ فلو حاولنا تسجيل بعض صور تحويل كل المؤسسات إلى آلة لإفقار الناس وسلبهم أموالهم بوسائل مشروعة وغير مشروعة، لعرفنا حقاً زيف كل الشعارات التي تصدر باسم الله وباسم الدولة، ولعرفنا أن الذي يختبئ وراءها، ليست سوى عصابة تنهب كل تلك الأموال التي تجبيها تحت ذريعة أنهم يمثلون دولة.
نهابة لا دولة
ولكي تتأكد من مصداقية هذا التصور عنهم وعنها، لك أن تأخذ أمثلة بسيطة على ذلك؛ فقد ضجت المنابر والمساجد والخطب والدروس ووسائل الإعلام المختلفة التي تقع تحت سيطرتها ووسائل التواصل الاجتماعي والشعارات والإعلانات والإشهارات ورسائل شركات الموبايل بكل ما له علاقة بدفع الزكاة وزكاة الفطر وأموال الوقف، كما أن الضرائب والجمارك يتم تحصيلها من كل شيء، ولم يعف منها حتى أصحاب العربيات والبسطات والدراجات النارية. والجمع بين ما هو زكاة وما هو ضريبة، يكشف لأي عارف بمفهوم الدولة، أن هؤلاء جمعوا بين ما تفرضه اقتصاديات الدولة المدنية وما تفرضه اقتصاديات الدولة الدينية. كما أن الجمع بينهما، يؤكد لنا أننا لسنا أمام دولة، وإنما أمام نهابة يتخفون وراء صور هشة للقانون والعدالة والدولة.
الأزمات: دوائر التحصيل
وإذا ما أردت أن تعرف اتساع دوائر تحصيل الأموال، فلن يخونك فهمك حينما تعرف أنهم هم الواقفون وراء إحداث أزمات المشتقات النفطية بمختلف أنواعها وتعويم سعرها الذي يعرف الصعود ولا يعرف الهبوط، وفعلهم ذاك يضمن لهم التحكم في حركة الناس والاستحواذ على النفط والغاز وغيرها من المشتقات ورفع أسعارها، أضعافاً مضاعفة، وبيعها في السوق السوداء. كما ترى أنهم هم المسهمون في رفع أسعار العقارات وبيعها وشرائها، وأنهم هم القابضون على المصارف والصرافات التي ازداد انتشارها في عهدهم بصورة تسترعي الانتباه، وأنهم هم الذين يتحصلون ويستغلون أموال كل المؤسسات الإيرادية، ويسنون قوانين جديدة لزيادة الدخل تحت ذرائع مختلفة كقانون "الخُمس" و"الركاز" الذي لم يستثن مياه الآبار ولا "النيس" ولا الأحجار والأحجار الكريمة ولا الأتربة المبيوعة.
اهتبال الموارد
وزيادة في توسيع الموارد المالية التي تعرف كيف تدخل ولا تعرف كيف تخرج، تجدهم يرفعون في إيجار الأوقاف، ويحولون الفضاءات العامة وأسوار المؤسسات التعليمية وغيرها إلى أسواق ودكاكين. هذا بالإضافة إلى استثمار مؤسسات الدولة وتحويلها إلى مؤسسة ربحية كعائدات الإعلام بمختلف وسائله، وخصخصة بعض المدارس الحكومية، ورفع رسوم الدراسات العليا ورسوم المعاملات في مختلف الجامعات والدوائر الرسمية، وبيع الكتب الصادرة عن مطابع الكتاب المدرسي وغيرها بعد تعديلها وإعادة كتابة التاريخ وفق هواهم المذهبي والسياسي، وبيع الطاقة الكهربائية التي تنتجها المولدات والمحطات التابعة للدولة بأسعار عالية، والاستحواذ على المساعدات الدولية وتوزيعها بالكيفية التي يرون، وإرغام الهيئات والمنظمات الدولية العاملة في اليمن على دفع مبالغ مالية لهم وتوظيف بعض من يشترطون توظيفه فيها و...و...وهلم جرا.
شعب في خدمة مشروع!
إن تنويع مصادر جمع الأموال بالصور التي ذكرنا وبصور أخرى لم تذكر، وبوسائل مشروعة وأخرى غير مشروعة كنهب أموال البنوك والصناديق والجمعيات والممتلكات الخاصة، تجعل ما يتدفق على خزائنهم كبيراً جداً.. ولكننا، بالمقابل، لا نجد إنفاقاً لها في خدمات تعود على المواطن، ولا في دفع رواتب الموظفين، ولا في إنصافهم بإعطائهم ما يعادل بذلهم، وإن جاء شيء كل عدة أشهر، فلا يأتي منها إلا النزر اليسير الذي لا يقيم الأود ولا يكفي للوفاء بالمتطلبات الضرورية لشهر واحد من السنة. وفعلهم هذا له غايات وأهداف، ليس أقلها تجريف المؤسسات الحكومية من غير الموالين لهم، وليس أكثرها شراء الذمم والولاءات، وإنما الغاية الكبرى لهم، تتلخص في تسخير أموال الشعب لخدمة مشروعهم الذي لا يضع المواطن وراتبه وخدماته في قائمة أولياته؛ لذا وجدنا أحد أقطابهم يصرح بأن "الشعب اليمني لا يعتمد على الراتب".
البعد الزمني
ما سبق يؤكد أن هذه الأموال لا تورد إلى البنك المركزي، ولا توزع وفق ميزانية سنوية معلنة، وهذا هو الذي يفسر لنا سر اشتغال طاحونة الفساد التي لا تتوقف، وسر الثراء السريع لبعض المنتمين إليهم، ويفسر لنا صمت كثير من الموظفين المناصرين لهم والمنضوين تحت لوائهم عن المطالبة بالراتب، ويفسر، أيضاً، أسباب تكميم أفواه المطالبين بحقوقهم من المواطنين والموظفين. كما يشرح لنا سبب احتساب "الكرم" واحداً من شروط الإمامة في أدبياتهم المذهبية، ويفسر غياب إنجازهم لأي معالم حضرية أو خدمية طوال فترات حكم الأئمة لليمن. كما يقدم لنا تصورهم لمفهوم الدولة الذي لا يكاد يخرج، حسب طرح الدكتور الصايدي في كتابه عن ثورة 1948م، عن مفهوم الدولة التي يقتصر قيامها على جمع الجبايات وفرض الأمن بالقوة الضاربة إلى غيرها من مفاهيم الدولة التي من بينها مفهوم الدولة المدنية؛ لذا وجدناهم، اليوم، يستعيدون مسمى "الدولة اليمنية الحديثة" الذي أطلق من قبل بعض المؤرخين والباحثين المعاصرين على فترة الحكم المتوكلي؛ ليؤكدوا على البعد الزمني وعلى النظام الملكي المعتمد على هذين البعدين إلى جانب البعد السلالي في الحكم، ويرفضون مسمى "الدولة المدنية الحديثة" الذي يمكن أفراد الشعب اليمني بأطيافه المختلفة من نيل حقوقهم على كافة الأصعدة، بما في ذلك أحقية التمثيل البرلماني وأحقية الوصول إلى سدة الحكم. وشكل الدولة الذي تخفي تسميته من المعاني السابقة خلاف ما تظهره، سيؤسس، إن لم يتغير أو يتغير فحواه، لاشتعال دورة دماء جديدة، في اليمن، لن تنطفئ نارها بمجرد انتهاء الحرب الدائرة اليوم.