تعز بين العطش والعرقلة والاستنزاف.. مشروع الشيخ زايد في مهب الخلافات

  • هاشم علي - تقرير خاص
  • 07:40 2025/05/20

من جديد تعود أزمة المياه في مدينة تعز المحاصرة حوثيًا، إلى واجهة المعاناة اليومية، ففي الأيام القليلة الماضية ارتفع سعر صهريج المياه إلى نحو 50 ألف ريال يمني، في قفزة غير مسبوقة، تفوق قدرة غالبية السكان المنهكين جراء الحرب والحصار.. الأمر الذي يعكس عجز السلطات المحلية، وسوء إدارة الموارد، ونتائج الحصار المستمر منذ قرابة عقد.
 
طوابير طويلة من الحاويات، يصطفون لساعات أمام الآبار الواقعة في ريف الضباب غرب المدينة، مشهد بات مألوفًا، لكنه يحمل في طيّاته فصولًا من فشل السياسات المائية، وغياب الرقابة، وتواطؤ مفضوح في استنزاف الحوض المائي لصالح مزارع القات التي تتوسع كالسرطان على حساب الحياة.
 
 
بؤرة استنزاف
 
لطالما مثّلت آبار وعيون وادي الضباب شريانًا رئيسيًا يغذي مدينة تعز، سيما في ظل توقف الحقول الشرقية منذ بدء الحصار الحوثي في مارس/آذار 2015، إلا أن هذا الحوض المائي الاستراتيجي يتعرض اليوم لاستنزاف مفرط بفعل التوسع العشوائي في حفر الآبار وضخ المياه بكميات هائلة لري مزارع القات، الممتدة من نجد قسيم إلى يَفرُس والمعافر، بحسب شهادات مواطنين.
 
يقول مراقبون إن ما تشهده تعز من أزمة مائية ليس حدثًا طارئًا بقدر ما هو نتيجة لتراكمات عقود من الإهمال، عززتها الحرب التي تسببت بتوقف أهم مصادر المياه عن العمل؛ فالحقول المائية في منطقة الحيمة، التي كانت يومًا ما الشريان الحيوي للمدينة، أصبحت خارج الخدمة منذ اللحظة التي فُرض فيها الحصار الحوثي على المدينة في مارس 2015.
 
وبدلًا من تعويض هذا النقص بمصادر منظمة ومستدامة، تحولت المدينة إلى سوق مفتوحة لآبار أهلية وشبكات نقل غير منظمة، تعتمد على الضخ العشوائي واستنزاف المياه الجوفية، ما أدى إلى انخفاض تدريجي في منسوب المياه، وازدياد الاعتماد على آبار الضباب، التي لم تعد قادرة على تحمل العبء.
 
 
زراعة القات
 
على مدى نحو عشرة أعوام، غطت آبار وينابيع المياه في منطقة الضباب نسبة 60% من احتياج سكان المدينة، إلا أن الاستهلاك المتزايد جعل سكان القرى والمناطق المجاورة لوادي الضباب يعانون من شحة المياه ويشتكون باستمرار من جفاف بعض الآبار، وسط شكاوى من تراجع منسوب المياه بشكل غير مسبوق.
 
انخفاض منسوب المياه يتزامن مع توجه عشرات المزارعين إلى استحداث آبار جديدة عشوائية مستغلين غياب السلطات المعنية والجهات الرقابية، وتعد هذه المشكلة سببًا في انعدام تدفق المياه إلى ينابيع الضباب المعروفة، التي أصبحت غير قادرة على تلبية الاحتياجات المطلوبة للمواطنين في تعز، كما يقول مختصون.
 
يتستغرب كثيرون من الوضع الحاصل في تعز، وكيف حولت استنزفت الحرب الحوثية مياه وادي الضباب الذي كان يُعد من أبرز المغذيات المائية لتغطية احتياجات السكان، بينما يشهد اليوم حالة من الجفاف ويندر حصول الأهالي هنا على المياه النظيفة، بفعل الاستنزاف المفرط والعشوائي.
 
يتحدث محمود الضباب، وهو من أهالي المنطقة لـ "الساحل الغربي" عن تراجع حاد في تدفق المياه السطحية وازدياد شكاوى الأهالي من نضوب آبارهم، مؤكدة أن السبب يعود إلى امتداد زراعة القات نحو مناطق جديدة في المعافر ونجد قسيم ويَفرُس، ما ضاعف الاستهلاك على حساب الحاجات البشرية الأساسية.
 
ويضيف بقوله: "ما يزيد الطين بلة هو قيام مزارعين بحفر آبار ارتوازية جديدة دون تنسيق أو تراخيص أو دراسات، وسط غياب أي رقابة رسمية أو تدخل حكومي، وبهذا السلوك، تآكل الرصيد المائي ببطء، في مشهد أشبه بنزيف صامت لا يلتفت إليه أحد إلا حين يجف كل شيء".
 
 
سياسة الاحتكار
 
تشير المعطيات الميدانية إلى أن الأزمة الأخيرة ليست نتيجة ظرف طارئ، بل نتيجة تراكمات إدارية وأمنية، وتداخل النفوذ العسكري، ناهيك عن فشل المؤسسة العامة للمياه في استعادة دورها الحيوي، وعدم قدرتها حتى اليوم السيطرة على أغلب الآبار الواقعة داخل المدينة، وهو ما انعكس سلبًا على المواطن وجعل المياه سلعة نادرة في مدينة محاصرة منذ سنوات.
 
ومع غياب أي خطط واضحة لإعادة تفعيل البنية التحتية المائية، يقول ناشطون إن مؤسسة المياه تحولت من هيئة خدمية إلى كيان عاجز عن توفير الحد الأدنى من خدمات المياه للمواطنين، مشيرين إلى أن سياسة الاحتكار ساهمت في تفاقم الأزمة، فالعديد من الآبار تم حفرها بتمويل منظمات ومؤسسات خارجية، وبدلاً من استغلالها لتخفيف حدة الأزمة، منعت مؤسسة المياه تشغيلها، ما حرم السكان من موارد مائية إضافية.
 
 
حظر ليلي
 
في منطقة الضباب، غربي تعز، والتي تُعد واحدة من أهم مناطق ضخ المياه للمدينة، فرضت وحدات عسكرية منذ أسابيع حظرًا ليليًا على تشغيل الآبار.. هذا الإجراء الغريب أوقف الضخ الليلي الذي كانت تعتمد عليه غالبية الآبار لتعويض العجز في أوقات النهار وتلبية الطلب المتزايد.
 
وبحسب مصادر خاصة أكدت لـ "الساحل الغربي: "وحدات عسكرية منعت تشغيل الآبار ليلًا، ورداً على هذه التدخلات، أعلن مالكو الآبار في المنطقة الإضراب عن العمل، ما أدى إلى شلل شبه تام في ضخ المياه من المنطقة.
 
وفي ظل هذا الواقع المتردي، تزايدت الاتهامات بتلاعب مسؤولين وجهات نافذة في إدارة الموارد المائية، حيث تشير المصادر إلى وجود سيطرة كاملة من بعض الأطراف على توزيع المياه، ما يعمق الفجوة بين الأحياء المحظوظة والمحرومة، ويخلق سوقاً سوداء للمياه تُستغل فيها حاجة الناس للربح غير المشروع.
 
ونتيجة لذلك، تحذر منظمات حقوقية وعاملون في المجال الإغاثي من أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى تفشي الأمراض، خصوصاً في الأحياء العشوائية والمكتظة، حيث لا توجد أي بنية تحتية صحية أو وقائية، ما يهدد بانفجار أوبئة يصعب السيطرة عليها.
 
ويرى مراقبون أن أزمة المياه في تعز لم تعد مجرد أزمة خدمية، بل صارت دليلاً دامغاً على فشل السلطة المحلية والمؤسسات المعنية في القيام بواجباتها، وتغوّل النفوذ العسكري والسياسي في حياة المدنيين، الذين يواصلون دفع أثمان الحصار والفساد والإهمال كل يوم، قطرةً بقطرة.
 
 
 
مياه "الشيخ زايد"
 
في منتصف العام2023، أعلنت السلطات المحلية بمحافظة تعز عن تدشين مشروع استراتيجي جديد لتأمين المياه تحت اسم "مشروع مياه الشيخ زايد"، في منطقة طالوق الواقعة ضمن حوض الضباب غرب المدينة، بتمويل إماراتي يبلغ نحو 10 ملايين دولار، وبإشراف مباشر من الخلية الإنسانية التابعة للمقاومة الوطنية.
 
اعتبر كثيرون المشروع نقطة تحوّل في مسار أزمة المياه التي تعاني منها المدينة منذ سنوات، تضمن حفر عشر آبار ارتوازية، إضافة إلى بناء شبكة نقل وتوزيع متكاملة، تشمل خزانات تجميعية، ومحطات ضخ، ومنظومة طاقة شمسية بقوة 850 كيلو وات، إلى جانب عشرة مولدات كهربائية لضمان استمرارية التشغيل، بحسب إفادة مدير مؤسسة المياه في تعز خلال مراسم التدشين.
 
كما تضمن المخطط إنشاء خط أنابيب بطول 12 كيلومترًا وقطر 20 هنشًا، يربط منطقة الضباب بالمدينة، على أن ينتهي المشروع ببناء خزان مركزي ضخم بسعة 5000 متر مكعب، لتزويد المدينة بكمية تصل إلى 7 ملايين لتر من المياه العذبة يوميًا، وهو ما وصفه محافظ تعز في حينه بـ "الإنقاذ الحقيقي" للمدينة وامتدادها الريفي.
 
ويؤكد خبراء ومختصون بأن استكمال مشروع مياه الشيخ زائد وفق الخطط المرسومة، سيكون بمقدوره تلبية احتياجات مئات الآلاف من سكان المدينة وتخفيف اعتمادهم على السوق السوداء وشبكات المياه التي تخضع لتقلبات الأسعار.
 
 
عرقلة المشروع
 
بخلاف المشاريع السابقة التي كانت تفتقر للرؤية طويلة المدى، يتميز مشروع مياه الشيخ زايد بوجود شراكة مع جهات هندسية وفنية متخصصة، وباعتماده على مضخات الطاقة الشمسية لتقليل كلفة التشغيل، وضمان الاستمرارية حتى في أوقات الانقطاع الكهربائي.
 
وبحسب مهندسين فإن مشروع مياه الشيخ زائد سيساعد على توزيع الضغط المائي بشكل عادل في مديريات المدينة، ويضع حداً لاحتكار القلة المسيطرة على نقل المياه عبر الصهاريج، مؤكدين أن نجاح المشروع سيعيد جزءاً من سيادة تعز المائية المفقودة، وسيوجه صفعة مزدوجة للحصار المفروض على المدينة، الذي يشمل قطع خطوط المياه من المناطق الخاضعة للحوثيين.
 
وبينما كانت المدينة تتطلع إلى استعادة جزء من أمنها المائي المفقود، تعرقل مشروع مياه الشيخ زائد تحت وطأة الخلافات والتجاذبات التي سرعان ما اكتسبت طابعًا سياسيًا، في مشهد يعكس حجم التشظي الذي تعانيه المحافظة المحاصرة؛ فالمشروع الذي شكّل بداية الأمر بارقة أمل لسكان تعز، جرى عرقلة تنفيذه دون أن تبرز أسباب فنية أو بيئية حاسمة يمكن البناء عليها لمعالجة الإشكالات.
 
هكذا إذًا تبدو المبررات التي طرحها أهالي منطقتي طالوق والضباب في كثير من الأحيان أقرب إلى المخاوف النظرية غير المسنودة بتقارير علمية مستقلة، فيما لم تقدم الجهات المعترضة بدائل عملية توازي أهمية المشروع أو تفتح أفقًا للحل؛ ومع غياب أي مبادرة جادة لتقريب وجهات النظر، دخل المشروع حالة من الجمود التقني والإداري، لا لقصور في التنفيذ، بل لانعدام القرار الموحد والرؤية الجامعة، ولانشغال الأطراف المحلية في تعز بمهاترات وصراعات جانبية لا تخدم المواطن.

ذات صلة