سكنت رصاصة قناص تبة "عقلان" عموده الفقري.. ملحمة مقاتل من ريمة في تعز

  • تعز، الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
  • 05:01 2022/12/29

إعاقة وكفاح .. 
 
إذا كنت واقفًا على رصيف المدينة ذات يوم، وناداكَ سائق باص نصفه السفلي ميت الحركة، "هيا.. المركزي، شارع جمال" فلا تتفاجأ، لا تستغرب، ولا تتساءل كيف لهذا الرجل أن يقعد على كرسي القيادة وهو مشلول النصف.. لا تدع خيالك يطرح عليك سؤالًا، كما طرحه عليّ من قبلك.. تُرى هل يُجيد القيادة وسط زحام شوارع المدينة، وعشوائية السير؟ الآن، ارمِ ما ينتابك من شكوك السلامة جانبًا، واركب لتخوض تجربة مع مغامر فريد النوع، لترى تعامله السهل والغريب في نفس الوقت مع المكابح والمِقوَد، واحترافه في تجنب الحوادث، حريصًا كل الحرص أن لا يدخل في مشكلة مرورية، تزيد مشاكله النفسية والمادية أو تُعرقل مصدر رزقه الوحيد.
 
 
وأنت تجلس في المقعد الأمامي بجواره، لا تتردد عن رمي اسئلتك تباعًا.. بالطبع سيجيبك، إنه يشرح حالته دون خجل.. محمد أحمد، 25 عامًا، ابن ريمة البار.. 2014 عام عَرَفَ فيه تعز، وتحديدًا أثناء حرب عمران. نزلها من أجل العمل في المجمع القضائي المعروف بمبناه الكبير.. وباعتبار المكان أول موقع لشرارة المقاومة، فقد كان واحدًا من الذين دافعوا عن المدينة بروح غيورة.
 
ليلًا، يُقاتل في جبهة، أو يعزز أخرى.. نهارًا، مع رفاقه يقطع أمتارًا ومسافات للبحث عن حطب، يحمله على ظهره حتى مطبخ الجبهة، يأخذ وجبات الطعام، ويوزعها على الأفراد.. دوره يتوزع بين محوري ومساعد، وفي كلتا الحالتين حاله يشبه حال مراسلي الحروب القديمة.
 
 
"الليل جبهة، والنهار إمداد" هكذا كان قبل فبراير 2016، يؤدي خدمته في جبهتي جبل جرة، والزنوج.. وفي آخر يوم من ذلك الشهر كان قناص تبة "عقلان"، قد رصد تحركه، وهو يوزع وجبة الغداء، انتظر ضحيته، وما إن أكمل مَهمته، رماه في ظهره.. العمود الفقري هدف ذو أبعاد كثيرة لدى كتائب القناصة.. البعد الأول، تَرْك شباب المدينة مشلولي الحركة. وآخر، جعلُ عدد أكبر من الجرحى عالة على "المقاومة"، يستنزفون المخزون المالي بالعلاج.. وثالث، جعل الضحايا عِبرة وآية، ففي قاموس الميليشيا إعاقة فرد في مجتمع، ما هي إلا عِبرة للآخرين، يهزمون بها نفسية المحارب، ويقتلون حماسه، بنظر خبراء عسكريين وأطباء نفسانيين.
 
جرح نافذ، نازف، عند الفقرات القطنية الثانية والثالثة، والظهرية الأخيرة، مُخترقًا بطنه.. بهذه الحالة، وصل الجريح مستشفى الروضة، وبعد عملية إسعافية اتضح أنه يعاني من تمزق منطقة الأعور من الأمعاء مع القولون الصاعد.. استأصل الأطباء جزءاً كبيرًا منها، وعملوا على إصلاح ما تضرر، وعقموا الأجزاء اليمنى في نفس الوقت، أوصلوا القولون المستعرض بالأمعاء الدقيقة مباشرة، كما استطاعوا السيطرة على النزيف المتواجد خلف بطن المصاب وإيقافه.
 
الجراحون لم يتفاقدوا بعد مدخل الرصاصة، وما أحدثته.. فبعد استقراره، واستكمال الرعاية الطبية للمريض في العناية، خضع محمد لعملية إزالة الزوائد العظمية للفقرات.. فيما بعد أظهرت الأشعة المحورية كسورا متعددة مع أجزاء من العظام في القناة الشوكية على مستوى الفقرتين القطنية، وكلها أسباب تُفسر شلَـله النصفي.
 
 
في قسم الرقود، يتلقى العلاج، التمريض، والأدوية، لمدة ثلاثة أشهر، حتى رأى أن المُستشفى لن يعينه، فغادره إلى سكن خاص، وهناك اهتم به زملاؤه، ثم سئم حالته والبقاء جامد الجسد، وبدأ مشوار البحث عن رحلة علاجية إلى خارج البلاد.
 
مُعاقًا، غادر المدينة من طرفها البعيد، بعكس ما جاءها.. من تعز إلى عدن ثم ساحل أبين، وصولًا إلى مأرب. خروج شاق، وسفر طويل في سبيل المعاملة والحصول على سفرية مجانية، واستكمال العلاج.. أسبوع في مأرب، والعودة لإتمام إجراءات اللجنة الطبية في تعز.. برفقة صديقه، سافر إلى السودان، حيث أجروا له عملية إغلاق كلستومي، فتحة مؤقتة على جدار البطن، كانت تؤدي وظيفة الإخراج وقت إصابته.. فتحة تستمر من ثلاثة أشهر إلى سنة، حتى تلتئم الأجزاء المجروحة من أمعاء المصاب، وإغلاقها بعملية ثانية، حسب جراحين.
 
 
منتصف 2017 كان الجريح قد عاد إلى مسكنه في المدينة، ولأنه مقعد، لا يقدر على تحمل نفسه.. استدعى زوجته "أنزلها" للعيش معه، ومساعدته على مواجهة الحياة، لكن معاناته ما زالت ترافق أيامه وثوانيه.. سبتمبر 2018، الرجل وزوجته في القاهرة، وهناك أجرى عملية للتقرحات، إضافة للعلاج الطبيعي والتمارين لمدة سبعة أشهر.. ماليًا، وجد الرجل وعود اللجنة بعيدة كل البعد عن واقعهم الأليم.. "سبعة أشهر علاج، وسبعة انتظار الميزانية".
ستشعر بالحزن، حين تشاهد مقطعًا مصورًا يظهر فيه محمد، وحوله عدد من الجرحى في مصر، يشكون الجوع والإهمال، الخذلان والمعاناة.. يناشدون قيادات تعز السياسية والعسكرية، ولا مجيب.. بدون ميزانية، يغتربون، يُطردون خارج مساكنهم، وكثيرة هي القصص المأساوية التي تعرضوا لها ولا يزالون.. تمييز، ومحسوبية، فضلاً عن سماسرة هذا الملف.
 
الجريح في حديثه، يقول إنه غارق بالمديونية، في ذمته ثلاثة آلاف دولار، لم يقضها.. كان قد اقترضها للعلاج في القاهرة خلال الأيام التي أوقفت اللجنة ميزانيته.. لم يُكمل برنامجه العلاجي، وفوق هذا أعادوه اليمن في الفترة الأولى لانتشار جائحة كورونا.
 
يتدرب الرجل كل صباح، وتساعده زوجته على تأدية ذلك.. على سطح منزله يتعرض للشمس لساعات، كي تنمو الأعصاب بشكل أفضل في أجزائه المتوقفة، كما نصحه طبيبه.. بكلتا عينيه، يترقب المارة، ينظر إلى أقدامهم، يعد الخطوات، ومع كل خطوة يخطوها يتأسف حاله، جمود جسده، وسكون حياته، ويدرك تماماً أن لا شيء يعوضه ما فقد.. مشاهد تتيح له فرصة استعادة الذكريات بحسرة، سنوات مضت، كان فيها يتجول بحرية في الأحياء والجبهات.. الجوع والليل وشعوره بالنعاس، والاختفاء التدريجي لصوت تلك الخطوات ما يجبره للدخول إلى المنزل بقلب يأمل أن تمر ليلته بعيدة عن وحشة الظلام، وكوابيس معاناته، وعقل يفكر بأي الطرق سيكون لقاء غَدِه.
 
 
باص صغير، ويدان تقودانه دون اعتماد على الأقدام.. فقط قطعتان حديديتان تنوبان ذلك، موصلتان من المكابح إلى الجزء المقابل للمقود.. ومن خلال الخروج اليومي، اعتاد الرجل القيادة.. مشروع بسيط، ورسالة للآخرين مفادها، أن الظروف يمكن التغلب عليها مهما كانت، كل ما في الأمر يتطلب شخصًا يؤمن بنفسه وقدراته.
 
يُكابر، غير مُكترث لمن وصفوه بالمعاق، أو عديم الفائدة.. كل محاولة للتنقيص منه أو إحباطه، قيلت في وجهه، أو من وراء ظهره، كانت فرصة تزيده إصرارًا، تضاعف قوته، وتدفعه إلى مواجهة الحياة والبحث عن عيشة كريمة.

ذات صلة