من الساحل الشرقي (6): جولة مصورة تحبس الخيال إلى جبل "مومي" وكهف/ معبد "حوق" في سقطرى.. عودة إلى القرن الثالث للميلاد!

سقطرى ، الساحل الغربي ، عبدالملك النمري :
07:38 2022/06/04

يواصل الساحل الغربي التجوال والتوثيق المصور في شرايين وما وراء النبض والمظهر في ساحرة اليمن والدنيا وأم الأساطير وكتاب الدهشة طبيعة وخيالا وسحرا.. في سقطرى.

>> "حالة".. "مومي".. حوق"

من بين حوالى 52 كهفاً ومغارة، هو أول كهف اكتشف في سقطرى، وأجملها وأغربها على الإطلاق، بل ينافس الكهوف على المستويين العربي والكوني أيضًا؛ هو ليس مجرد تجويف يمتد داخل جبل لأكثر من 13 كيلومتراً، إنه -كما تُفصح النقوش- معبدُ البحارة والقراصنة التدمريين، العرب، الأحباش، الأرمن والهنود القدامى.!

|| يعد، بشهادة العالم، أجمل الكهوف وأغربها على الإطلاق، بل وينافس الكهوف على المستويين العربي والكوني أيضًا، ذلك إذا لم يفقْها كلّها

|| يوجد الكهف في منطقة حالة شرق جزيرة سقطرى، على بعد 50 كيلومتراً من العاصمة حديبو. "وقد ذاع صيته بفضل اكتشافات علماء كهوف بلجيكيين بين عامي 2000 و2001

|| طول الكهف حوالي 13.5 كيلومترًا، ليكون بهذا الأطول في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن المسافة المكتشفة فعليا لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات

من الخلف شاطئ "حالة" بلونه الفيروزي الشفاف، وجبل مومي رابض أمامنا وقد بدا أكثر مهابة وتلك المسحة البيضاء تُلطخ أجزاء واسعة من ظهره، إذ يبدو مثل وحش مرقط يغط في نوم عميق.

إطلالة من أسفل كهف حوق على المحيط

استغرقتْ عيناي بعض الثواني قبل أن تميِّزَا المغارة الصغيرة المنحوتة هناك في الأعلى على جانب من هذا الجبل النائم.

كانت بعيدة وبالكاد يُلاحظ مدخلها المعتم الذي أخذ شكلاً أقرب إلى العين منه إلى القوس. ولأننا، أنا ومن معي، ما جئنا إلا لنتوغل بداخله عبر تلك البوابة الضيّقة؛ تحاشيتُ التشكيك في استعدادنا لقطع كل هذه المسافة! وانشغلت، بدل ذلك، في تخمين ما إذا كنا سنضطر إلى التسلق أو ما شابه.

جبل مومي ويظهر مدخل كهف حوق

كان واضحًا أننا في صدد رحلة مجنونة. علاوة على ذلك، لاحظت أنه لا وصولنا ولا وقوفنا أثار اهتمام أحد في المكان، ولا حتى أولئك الفتيان والأطفال الذين يمارسون كرة القدم في ملعب ترابي قريب، حيث خطفونا بنظرة باردة، وعاد الفريقان إلى التراكض خلف الكرة الحمراء والباقون إلى مراقبتهم باهتمام.

إقرأ أيضاً:
- من الساحل الشرقي (5)- كابوس يعزل سقطرى عن البر اليمني خمسة أشهر.. حيل التجار تُفاقم الأسعار
- قصة مصورة- من الساحل الشرقي (4): موسم صيد طائر السلوى!
- من الساحل الشرقي (3): في الأعياد أبواب المهريين كقلوبهم مفتوحة
- ملف مصور- من الساحل الشرقي (2) : سقطرى.. متحف ما بين "تمريدة" و"بحيرة النيزك" و"دوكسم"
- ملف مصور- من الساحل الشرقي (1) : سقطرى.. «كما تركها صالح»!

صخور ضخمة يمر خلالها الطريق إلى حوق

وفي ما بدا أنه أمر معتاد تراجع من بين المشجعين طفل نحيل إلى الخلف وأطلق ساقيه للريح باتجاه المنازل، قبل أن يرجع إلينا رفقة رجل خمسيني يحمل تحت ذراعه دفتراً ضخماً.

أخبرَنا الرجلُ، وقد احتلقنا حوله تحت ظُلّة من سعف النخيل، بأنه المسؤول عن تنظيم الزيارات، وعلينا تدوين أسمائنا في الدفتر مع "توضيح الجنسيّة". شدد الرجلُ على ذلك.

جانب من جبل مومي

بادرتُ دون تفكير إلى انتزاع الدفتر لأدون الأسماء. كانت مبادرة غير محسوبة في الواقع، لأن ذاكرتي المثقوبة لم تكن قد أمسكت بعدُ بأسماء أفراد المجموعة.

لأتدارك الأمر هتفت بعد تدويني لاسمي -دون أن أرفع رأسي- "اللـّي بعده" وبعد اللي بعده "اللي بعده"، وعندما فرغتُ تصفحت بعض الأوراق في الدفتر وصدمت من جنسيّات الزوار الذين سبقوني إلى المكان، كانوا من دول أعرفها وأخرى لم أسمع بها قط، لعلها على الأغلب دول ما بين روسيا وأوروبا وآسيا.

جانب آخر من شاطئ حالة

شجرة زجاجة الصحراء عملاقة وتبرز من خلفها بوابة الكهف

>> إلى المعبد

- يستغرق التسلق إلى الكهف من "موقف السيارات" حوالى ساعتين. السياح الأجانب يقطعونها بسرعة ويسر حتى الإناث وكبار السن منهم. مثلما ظل يستحثنا الدليل الطيب جداً.!

- كان علماء بلجيكيون هم أول من وطأوا أعماقه ليعثروا، على آثار زوّار سبقوهم إلى هناك في القرن الثالث ميلادية.

- يعد، بشهادة العالم، أجمل الكهوف وأغربها على الإطلاق، بل وينافس الكهوف على المستويين العربي والكوني أيضًا، ذلك إذا لم يفقْها كلّها

يوجد الكهف في منطقة حالة شرق جزيرة سقطرى، على بعد 50 كيلومتراً من العاصمة حديبو. "وقد ذاع صيته بفضل اكتشافات علماء كهوف بلجيكيين بين عامي 2000 و2001. كانوا هم أول من وطأوا أعماقه ليعثروا، على آثار زوّار سبقوهم إلى هناك في القرن الثالث ميلادية.

للوصول إلى الكهف يتطلب الصعود مشياً على الأقدام عبر طريق ملتوٍ غير واضح للعيان، وهو ما يفرض الاستعانة بدليل من أبناء المنطقة، وهذا الدليل يكون في العادة جزءاً من الصفقة التي تُعقد مع الرجل الخمسيني صاحب الدفتر الضخم.

إطلالة ساحة على المحيط الهندي من منطقة حالة بسقطرى

شجرة زجاجة الصحراء صغيرة وإلى الخلف شاطئ حالة الشفاف

خلال الأشجار المتشابكة هذه وفي المسالك المعقدة الأخرى على ظهر الجزيرة، يحرص الأدلة المحليون على فتح حوارات معك، أو تجدهم، على الأقل، متحفزين للرد دائماً، ومهما وجدت حديثهم بسيطاً، مكروراً لا يضيف الكثير حريّ بك أن تنصت إليهم، ذلك إذا لم يكن عن فضول فكي تتلهى عن حساب الوقت والمسافة المتبقية للوصول.

يسار الصورة شجرة زجاجة الصحراء وإلى اليمين شجرة سيبرو

وقد كان من الجيد أننا تجاذبنا أطراف أحاديث عدة مع دليلنا في الرحلة، حيث بيّن لنا، في أهمّها، أن إرشاد السياح والزوار إلى الكهف عملية منظمة يحكمها قانون عُرفي مثير للإعجاب.

من بين حوالي 52 كهفاً ومغارة، كان حوق هو أول كهف اكتشف في سقطرى. وإلى جانب أنه سهل الوصول يعد، بشهادة العالم، أجملها وأغربها على الإطلاق، بل وينافس الكهوف على المستويين العربي والكوني أيضًا، ذلك إذا لم يفقْها كلّها.

شجرة زجاجة الصحراء عملاقة أمام مدخل الكهف

دليل المعلومات الصادر عن جمعية أصدقاء سقطرى FOS، يزعم أن طول الكهف حوالي 13.5 كيلومترًا، ليكون بهذا الأطول في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن المسافة المكتشفة فعليا لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات فقط، ومع ذلك فقيمته ليس في كونه تجويفاً هائلاً بداخل جبل، إنه -كما تُفصح النقوش- معبدُ البحارة والقراصنة التدمريين، العرب، الأحباش، الأرمن والهنود القدامى.

استراحة المحيط والجبل..

قال الدليل، ونحن نأخذ قسط راحة تحت إحدى الأشجار، إن الأهالي في منطقة "حالة" يتناوبون على الأخذ بيد الزوار إلى الكهف بالدَّور، كل يوم يكون الدليل من منزلٍ، وهكذا دواليك.

وأوضح بأنه هو مثلاً سيحصل على جزء من المبلغ الذي دفعناه هناك تحت ظُلة سعف النخيل، لأن هذا اليوم هو دور عائلته، فيما يُدخر المبلغ المتبقي في صندوق القرية ولا يُنفق إلا في الحالات الطارئة، كالمرض، والزواج... وغيرها.

شجرة زجاجة الصحراء مزهرة

ومع كون نوادر الجزيرة من أشجار، شواطئ، مغارات بمثابة مصدر دخل للسكان المحليين أو بعضهم، فهم يولونها كل الاهتمام والعناية، ويؤدي المرشدون والأدلاء، باعتبارهم في الواجهة، دور الرقيب، إن صحت الصفة، على الزوّار وترشيد تفاعلهم مع ما يصادفونه ويبهرهم.

مع ذلك يبدو أن هناك من ينفذ من الرقابة، فهنا في الطريق إلى "حوق" تصادف ذكريات، أسماء، تواريخ محفورة على الجذوع السميكة لشجرة زجاجة الصحراء النادرة، خربشات جميعها عربية، وهذا بديهي.!

أسفل البوابة الضخمة

برغم وعورة الطريق والشمس الحارقة إلا أن الأشجار المختلفة التي تحف الممشى بجانب الإطلالة الساحرة على المحيط الأزرق رفاهية من شأنها أن تضفي على الرحلة بعض المتعة وتهوّن المشقة والتعب.

يستغرق التسلق إلى الكهف من "موقف السيارات" حوالى ساعتين. السياح الأجانب يقطعونها بسرعة ويسر حتى الإناث وكبار السن منهم. مثلما ظل يستحثنا الدليل الطيب جداً.!

استراحة ساحرة من أمام الكهف.. أخيرا

لا أتذكر تحديداً كم استغرقنا من الوقت حتى قذفتنا الأشجار والنباتات إلى ذلك المنبسط الذي يفصله منحدر أخير عن الكهف، لقد تنفسنا الصعداء حالما برزت البوابة الضخمة المقوّسة أمامنا.

ونحن نقطع المنبسط بنشاط أكبر ونرمق مدهوشين البوابة المخيفة للكهف في كل خطوة تقريباً، تذمر أحدهم بأنه لماذا لا تُشق طريق للسيارات إلى هنا؟ وتمنى آخر أن لو تُستعمل طائرات هليكوبتر لإيصال الزوار إلى هذه المساحة الفسيحة. في الأثناء حدثت نفسي بأن الرحلة بلا طعم لولا هذه المشقة، وحثثت الخطى.

في مكان قصي لفتت انتباهي أطلال صغيرة عدة لما بدا أنها كانت منازل أو شيئاً من هذا القبيل، ولم تكن أمامي فرصة استنطاق الدليل بمعلومة حولها لأنه كان قد سبقنا إلى أعلى المنحدر وهو ذاك يلوح من هناك، مبتسماً على الأرجح.

مساحة أسفل الكهف ويظهر أقصاها أطلال منازل قديمة

>> أنا أبغر بن عشيمياء

تدور حول كهف حوق الكثير من الأحاديث والروايات، منها ما يتعلق بمساحته الهائلة وعمقه وفضائه المخيف وأخرى مرتبطة بخرافات تتحدث عن طبيعة استخدام الإنسان له قبل آلاف السنين، الأمر الذي يضفي إليه الكثير من الجاذبية والنفور في آن واحد.

لقطة بانورامية من مدخل كهف حوق

تستقبلك في بوابة الكهف أصوات العصافير وقطرات الماء الساقطة على الصخور، وهناك في الداخل تتدلى الهوابط من الأعلى وتنتصب مثيلاتها الصواعد من القاع على نحو مذهل.

هذه الزوائد الكلسية الغريبة والمروعة تكونت من قطرات المياه، وهي تنمو بمعدل 10 ملم في السنة، أي أن المتر منها ينمو خلال 1000 عام.

لا زلنا في المدخل

مدخل الكهف وتظهر الهوابط والصواعد الكلسية

بعثة علمية أوروبية لاستكشاف سقطرى اعتبرت الكهف من غرائب الطبيعة في العالم، يبلغ ارتفاعه 8 أمتار، وتقدر مساحة عرضه من 500 إلى 1000 متر، وقد صُنف بأنه أطول كهف في منطقة الشرق الأوسط، إذ يُزعم أنه يمتد حوالي 13.5 كيلومتر تقريباً، لكن ما وطأه الإنسان بالفعل ثلاثة كيلومترات، تزيد أو تقل.

في نقطة بعيدة من هذا التجويف عثر الفريق البلجيكي على مباخر فخارية والكثير من الخربشات على الجدران بمختلف اللغات.

أحواض ماء داخل الكهف- صورة متداولة

ومن بين المقتنيات المكتشفة لوح خشبي حفر عليه نص باللغة التدمرية يعود إلى عهد مملكة تدمر في القرن الثالث للميلاد، ووفقاً لخبير فرنسي بالكتابات القديمة اسمه كريستيان روبين، يقول النص: "في الخامس والعشرين من شهر تموز سنة 569 جئت، أنا أبغر بن عشيمياء من شمّر إلى هنا إلى مغارة بلاد نيشي. فليبارك الرب الذي قادنا إلى هنا كل من يقرأ هذا اللوح وليبارك الذين يتركون اللوح في مكانه".

يرجح أن "أبغر" كان بحاراً أو تاجراً أو حاجاً زار الكهف، وما مناشدته تلك إلا دليل على أن المكان كان محجة للزائرين.

نص البحارة أبغر بن عشيمياء

>> 250 متراً

وتكشف الدراسات التمهيدية عن أن الكتابات على الجدران، كما يذكر مؤلَّف "سقطرى جزيرة الأساطير"* تشير إلى أن من بين الزوار عدداً كبيراً من أهالي الجنوب العربي والهنود والأحباش والأرمن والتدمريين.

وينقل المؤلَّف عن مؤرخ اسمه دي غيست قوله: "من الواضح تماماً أن حوق كانت في القرون الأولى بعد الميلاد معروفة لدى التجار والرحالة الذين يتجولون في منطقة شاسعة بين إفريقيا والهند والشرقين الأدنى والأقصى".

مصطبة أو مذبح كان يستخدم للتعبد

تجويف الكهف ويظهر عدد من الزوار

فريق روسي توغّل على إثر الفريق البلجيكي داخل الكهف ووجد كتلة من صواعد الاستلاجميت بطول قامة الإنسان وفوقها مبخرة، وافترض أن ذلك الموضع كان في حينه مذبحاً أو هيكلاً وهو الذي جاء إليه أبغر ليمجد الآلة ويخلد اسمه في التاريخ.

الفريق نفسه وجد على مسافة 250 متراً من المدخل مبخرة مرمرية جنب الجدار مع كسر فخارية، وقال: "لا ريب أن المغارة كانت في السابق معبداً يقيم فيه السقاطرة القدامى الصلوات والطقوس الدينية ويؤمه التجار والملاحون والحجاج الوافدون إلى الجزيرة."