لوحة - محمد الأضرعي.. الجبهة الفضائية
- د. ثابت الأحمدي
- 01:01 2022/04/26
نحن ــ كمتلقين ــ لا ندركُ طبيعة المراحل التي مر بها أيُّ عمل فني قبل مشاهدته، ولا حجم الاحتراق الذي تمّ من الخطرة الأولى، إلى القفلة النهائية. الأمر يشبه مراحل إعداد الخبز. لا يستذكرُ الآكلُ لحظة الأكل أن الخبزَ الشهيَّ الذي يتناوله كان بذراتٍ في الأرض تقاطرت لها جبين الفلاح، وكلّت أيادي العجان، واحترقت أصابع الخباز، وهكذا هي المسيرة الإبداعية؛ ونعوذ بالله من كلمة مسيرة..!
كل مرحلة فنية هي محطة إبداعية في حد ذاتها، لها خصائصُها النفسية والعقلية، وإن كان الجشطالتيون يقررون أن الكلَّ دائما يتفوق على عناصره، وأنّ التجزيءَ للعملية الإبداعية يفقدها المعنى والقيمة؛ إذ الإبداع في محصلته النهائية كلٌ واحدٌ لا يتجزأ.
إنها رحلة شاقة لا تخلو من المتعة، أو متعة لا تخلو من الشقاء. وكل عمل جيد هو نتاج جهد أشق.
من ضمن تعريفات الإبداع: أنه التقاءُ الخيال والعقل معا. وفي أعمال المبدع المتميز محمد الأضرعي التقاءٌ حد التلاحم، أو قل حد "التفاني" إذا ما استعرنا المصطلح الصوفي. وإن كان فلاسفة المدرسة العقلانية يرون أن فعل الإبداع ليس وجدا صوفيا، أو حدسا دينيا، أو إشراقا إلهيا؛ بل هو صنعة وعمل وإرادة.. الأفكار تحتاج إلى جهود بنائية متواصلة، وعليه فالمبدع الحقيقي هو رجلُ الفعل لا رجل الإلهام. والمبدع الأضرعي جمع بين إبداع الإلهام "الفكرة"، وإبداع التنفيذ، بكاريزما إبداعية على نحو نادر.
إنها أصالة الإبداع الحقيقية التي تعكسُ فيما تعكس قوة روحية خلاقة، تحشد كل طاقاتها من أجل تحقيق الهدف. وهكذا يفعلُ المبدعون في مجالاتهم، ليس المبدعون فحسب؛ بل المبدعون عن تفرد، بخصوصية استثنائية، وشخصية مستقلة، بلا محاكات أو تقليد. وبحسب أوشو: "لا يمكنُ للمبدع أن يتبع طريقا يسلكه الجميع، عليه أن يبحث عن طريقه الخاص، وعليه أن يبحث عنه حتى في الأدغال، يجب أن يسلكه بمفرده، ويجب أن يبتعد عن العقل الجماعي، فالعقل الجماعي هو في أدنى مستويات العقل".
إنّ جبهة الوعي لا تقلُّ أهمية عن الجبهة العسكرية القتالية، وبالفن وحده تشكلت جبهة الأضرعي الفضائية، التي ستصبح في يوم ما تاريخا يدون ويحكى بذاته، أو قل مدرسة مستقلة؛ لأن الفنون أصدق فصول التاريخ، بما تنطوي عليه من تصوير واستقصاء ومحاكاة. ولما لهذه الجبهة من تأثير واسع لدى المتلقي، نخبة وجماهيرا.
المنطقُ وحده لا يكفي أحيانا للإقناع؛ كونه يعتمد على معادلات جافة، لا شك أنها قوية؛ لكنها ــ على قوتها ــ لا تكون مقنعة للسواد الأعظم؛ لأن الحِجَاجَ العقلي لا يقوم أساسا على الذوق؛ بل على الحواس، ووحده الفن من يحيلُ جفافَ المنطق إلى حقائق عقلية مبسطة بكل نضارة ورَوَاء. وبراعة المبدع محمد الأضرعي، جعلت من العقل فنا، ومن الفن عقلا، وهو يخاطب العقل والقلب معا..!
نعيشُ اليوم معاركَ جديدة في الصّراع، بسلاح غير تقليدي، وبجغرافيا وفضاء مفتوحين، فلم تعد للمعارك أرض أو حدود، كما لم تعد المعركة ذاتها بالسنان والسيف، أو بالمدفع والبندقية. صارت إلى جانب ذلك أيضا حرب معلومات وفنون وثقافات وإعلام.. إلخ. وتجربة الفنان الأضرعي تمثل إضافة نوعية إلى المسرح الثقافي اليمني، بأدواتها الجديدة.
وأكاد أجزم أن جزءا من الوجه الأسود للنازية الحوثية، وجزءا من القضية اليمنية بشكل عام، عُرف من خلال الفنان محمد الأضرعي.
لن ننسى.. مع المبدع الأضرعي أيضا نجومٌ وأقمارٌ آخرون ساعدوه على النجاح؛ بل كانوا جزءًا منه، ولا يقلون إبداعًا عنه، هم جميعا قوام هذه الحالة الإبداعية الفريدة والهادفة، بروح الفريق الواحد، فلهم كل التحية وجزيل الشكر.