يكتب عبدالسلام القيسي: الشيخ سعيد بن سعيد المخلافي.. شهيد جامع المظفر

  • تعز، الساحل الغربي، كتب/ عبدالسلام القيسي:
  • 05:35 2022/03/19

زرت جامع المظفر الرسولي، لأشاهد المحراب الذي استشهد فيه الشيخ سعيد بن سعيد المخلافي، عام 72، وكنت صحبة مروان مقبل، ووصلنا الباحة، دلفنا إلى حيث باب دخول المسجد وعليه حارس، من أبناء المدينة القديمة، منعنا من الدخول، تعرض الجامع للنهب وللسرقات فيقفلوه بعد كل صلاة، سألته عن استشهاد الشيخ المخلافي، فحدثني وعن زمنه، هو يعرفه وقال بصوت متهدج: الله يرحمه.
 
كنت، فقط، أريد أن ألج الجامع ليريني أين استشهد جدي ولفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يقرأ، فلقد كان يقرأ بضحى رمضان سورة الفتح، ودمه يوشي المصحف، فلم يسمح لي، سألته عن المصحف الممزوج بدم جدي وكلام الله، فحدثني عن سرقة أغلب المخطوطات التي كانت في الجامع وبيعت وهربت ويدري عن المصحف ولا يعرف عن مصيره، باقياً أم لا، ومع ذلك أخبرني أن البركاني، مدير الأوقاف، ربما يعرف مكانه.
 
أردت أن أشاهد المكان الذي استشهد فيه، وعجزت، وأريد أن أشاهد المصحف الذي كان جدي يمسح دمه ويقول الله فاشهد ويطبعه على المصحف، وقلت لصديقي مروان مقبل: كان يقرأ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً..
 
 
يسألني مروان في سره وما أدراك؟ لأنه كان يوشي صفحتي السورة تلك، أي كانت مشرعة له وهو يقرأ، ولهذا فتح الله له أبواب الجنة.
 
أريد أن أشاهد ولو قطرة دم من دماء جدي لأستعيده في روحي، جدي الذي بلا صورة ولا أعرفه، الذي كان الكلمة الأولى في وسط اليمن، كان سعيد بن سعيد شيخاً قبلياً إذا قال قولا رددته خلف مئات الآلاف من الرجال، ومن البنادق، وكان فاضلا، وهو الوحيد من بين مشايخ كل المراحل جمع بين المكانة القبلية والقوة والصيت والعز والجاه والمال وإلى جانب الفضل، لا يجتمع كل هذا إلى جانب الفضل ولم يجتمع إلا بشخصية سعيد ولقد كانت خسارته إحدى الخسارات الكبيرة لمحافظة تعز ولليمن الأسفل، خسارة. 
 
لو تحدثت عن سعيد بن سعيد فلي الكلام الجوهري، ومع ذلك يجدر بمن يجهله لا يأخذ شهادتي بل يسأل جده عن سعيد بن سعيد، سوف يجيبك آآح آآح، كان شيخا قويا وفاضلاً، وكان موته وإن كان موتاً نبوياً فاجعة حلت بكل تعز، فجعت تعز بل فقدت ركنها الأول، والشديد، وكانت يوم مقتله فاجعة دامت البلاد، وكان بكاء النساء حول مخلاف من قرية إلى قرية، لم تبك المخلاف دفعة واحدة ولم تصرخ ولم تتصل دموع الرجال والنساء لليال كاملات سوى بموته، فاجعة اغتياله، فهو سعيد، سعيد.
 
 
لهي الفاجعة العظمى، ولعقود بقي الناس يواسون من فقد عزيزاً بهذه الصيغة: مات سعيد بن سعيد، فالموت حق، اصبر وصابر. 
 
يعرف الناس أن مشايخ العهد المنصرم هم كانوا طغاة صغارا، إقطاعيين، وكان أفضلهم لا يخلو فيه التعنجه والاعتزاز بنفسه، إلاه سعيد رغم كونه أقواهم وأثراهم وأشجعهم كان لا يماري، أو يحابي، يخضع أقرب الناس إليه للعقاب، وحكايته الشهيرة أنه كشيخ يخرج للبت في القضايا بين الناس ومتى دفعوا الأجرة، أجرة الحكم، كان لا يمسها بيده، وكان يزحزحها بعصاه من بعيد ويقول لواحد من أتباعه خذها إلى الدار وقل للشيخة تضعها بالصندوق الفلاني، لا يمسسها بيده، لا يريد الشيخ أن يأخذ ثمن تحقيقه العدالة، فسأله أحدهم ولماذا تأخذها؟ أجابه أن أخذ غرم وأجرة من المتخاصمين يمنع خصوماتهم في المستقبل، وذلك الصندوق الذي يضعها فيه يوزعه للفقراء والمساكين، ولا يأخذ منها شيئا.
 
إنه سعيد بن سعيد، وما زلت إلى اللحظة والفينة أذكر باسمه، يفتح لي كل باب، يقعدني كل مجلس، ويمنحني البهاء، فذكراه ما زالت عطرة، وهو حديث كل الناس ومضرب للمثل بين شيوخ المرحلة، ولسان حال المتحدث مخاطباً الآخر: نعم إنك الشيخ سعيد بن سعيد، زعم أنه حكم سعيد بن سعيد، وبالبلاد كل الأحكام التي صدرت منه وكل ترسيمات الحد والإرث ومهما بلغ الخلاف بين أحفاد العائلات المتصارعة إذا وجدوا حكماً أنفذه الشيخ سعيد بن سعيد قبل خمسين سنة لا يمكنه تجاوزه، يقفون أمامه بإجلال وكأنما نص نبوي، طالما هذا القول قول سعيد نافذ وطالما هذا الوثن زرعه سعيد بن سعيد فهو الحق، لا يمكن لوثن في أرض وضعه بيده أن يقلع من مكانه، مهما بلغت خلافات الرعية.
 
 
هناك في جامع المظفر استشهد سعيد، الذي دونته عقود تعز واليمن، ولا يليق بسعيد بن سعيد إلا أن يموت كسلطان مظفر في جامع المظفر وبتلك الطريقة الخالدة، فالقتلة الذين اغتالوه ولسنوات عجزوا عن اغتياله فحوله صناديد البلاد، إذا مشى تمضي خلفه البلاد، والذين يحمونه بألف روحه، وكان أحيانا في تعز يقضي أوقاتا كبيرة مع السلطة ولشأن وشؤون وشيد لنفسه في المدينة القديمة بجانب المظفر داراً كبيرة لميقاته في تعز، حاضرة البلاد، ولكنه يخرج إلى المسجد وحيداً، فيرتاع الناس ومرافقوه، يبحثون عن ثغرة لقتلك، لا تفعلها، لكنه يرفض ويقول لن يدجج بيت الله بالبنادق لحراسته، ويكمل لهم، بنية الحب والشهادة: الذي سيقتلني بالمسجد قبلوه في رأسه، يا لسعيد السعيد.
 
أنا ابن ذلك الرجل، دمه يسري في أوردتي، وهو جدي الذي يمنحني البهاء إلى هذه اللحظة، جدي. 
 
كان جدي سعيد بن سعيد تقياً، الشيخ الورع، مات قاتلوه وعاش في وجدان الناس.
 
في محراب هذا المظفر ارتقى شهيداً، وسوف أكتب عنه كثيراً ولربما أكتب قصته، الخالدة.

ذات صلة