الحوثيون.. منهج التضليل
01:33 2022/01/31
يفهم معظم العراقيين ما يجري في اليمن من خلال السردية المضللة التي يروج لها بقوة "محور المقاومة" في فرعه العراقي، إذ تُصور الأحداث هناك باختزال شديد ومجحف على أنها صراع بين "شر" خليجي تقوده السعودية، و"خير" يمني يمثله الحوثيون.
على أساس هذه الثنائية المزيفة ، يُقدم الأول على أنه يقصف بشراسة متعمداً إيذاء المدنيين، مستفيداً من تفوقه التكنولوجي، فيما الثاني يعاني بكبرياء، ويرد بجرأة، رغم امكانياته الفقيرة، من خلال صواريخ وطائرات مسيرة!!
الحقيقة بعيدة عن هذا، فلا السعوديين أشرار حاقدون ولا الحوثيين أبطال مقاومون، كما يحاول خطاب "محور المقاومة" تصوير الطرفين. تكفي الإشارة هنا إلى ان معظم "الأعداء" الذين يقاتلهم الحوثيون هم يمنيون من تجمعات عشائرية وسياسية مناهضة لهم (هناك أكثر من 40 جبهة قتال مفتوحة الآن بين الحوثيين وخصومهم اليمنيين الكثيرين). يضم هذا النزاع أطرافاً أخرى كثيرة غير السعودية والحوثيين،
فهناك مثلاً الحراك الجنوبي، وتمثيله المؤسساتي عبر المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يسيطر على الكثير من مناطق اليمن الجنوبي. يسعى هذا الحراك إلى استعادة دولة اليمن الجنوبي التي توحدت مع دولة اليمن الشمالي في 1990. يشعر كثير من اليمنيين الجنوبيين، المعتادين على هيمنة القيم المدنية بينهم، أن تجربة الوحدة "القسرية" هذه هَمَشتهم لصالح اليمن الشمالي، بقيمه العشائرية التي تقوض المواطنة المتساوية.
ثم هناك تجمع الإصلاح، الذي يمثل النسخة اليمنية للإخوان المسلمين، والحاضر بقوة في الحكومة. ثمة شكاوى تاريخية يمنية كثيرة ضد تجمع الإصلاح بخصوص الفساد والإقصاء وحتى التمييز المذهبي ضد الزيدية التي ينتمي إليها الحوثيون. في نحو ربع مساحة البلاد التي يسيطر عليها الحوثيون، ثمة تعايش هش بين الحوثيين والإخوانيين "الاصلاحيين" لا يرقى لأن يكون تحالفاً، إذ قام الحوثيون باستهداف بعض زعماء "الاصلاح." رغم العداء التاريخي بينهما، يجتمع الاثنان في علاقة مصلحة ليست راسخة، تتصل بعدائهما للتحالف العربي في اليمن الذي تقوده السعودية.
لكن من ناحية أخرى خفية، يستفيد الحوثيون كثيراً من أخطاء الحكومة الشرعية المتعلقة بالفساد وضعف الإرادة وبؤس الأداء ومن القلق المشروع من تغول الإخوانيين، خصوصاً في إطار تمثيلهم القوي نسبياً في الحكومة. في آخر المطاف، يجد الكثير من اليمنيين أنفسهم بين خيارين سيئين، بين النار والرمضاء: نار الإخوانيين أو رمضاء الحوثيين. الخيار الثالث والصحيح، المدعوم دولياً وخليجياً وعربياً، هو استعادة الشرعية الحكومية وفرض سيادتها على كامل البلاد وتحسين أدائها ومعالجة أخطائها المختلفة.
بخلاف خطاب "محور المقاومة" المضلل الذي يقفز فوق تعقيد مشهد الصراع في اليمن، ويصر على تصوير المواجهة هناك على أنها بين خليج غني ومتجبر ويمن فقير وضعيف، يضم التحالف العربي اطرافاً عربية غير خليجية إذ تشارك في عملياته أيضاً مصر والمغرب والأردن والسودان. بدأ التحالف عملياته ضد الحوثيين في نهاية مارس 2015 بطلب من الحكومة اليمنية، رداً على اقتحام الحوثيين مدينة عدن الجنوبية وقصف مقر الرئيس هادي بالطائرات واضطرار الأخير للفرار. بعد ذلك بثلاثة أسابيع أصدر مجلس الأمن قراراً يدين استخدام الحوثيين وحليفهم المؤقت، الرئيس السابق علي عبد الله صالح، للعنف وسيطرتهم بقوة السلاح على مؤسسات الدولة، ليفرَضَ عقوبات أممية على زعيم الحوثيين، عبد الملك بدر الدين الحوثي، وعلي عبد الله صالح ونجله، واخرين (رغم أن صالح هو عدو لدود سابق للحوثيين قتلوه لاحقاً نهاية 2017). دعا القرار أيضاً الأطراف اليمنية المختلفة، بضمنها الحوثيون، العودة إلى طاولة التفاوض على أساس المبادرة الخليجية المدعومة من الأمم المتحدة (2011) التي نظمت انتقالاً سلمياً للسلطة من الحكم الدكتاتوري لعلي عبد الله صالح، بعد ثورة شعبية ضده، عبر انتخابات رئاسية في 2012 قادت إلى حكومة انتقالية برئاسة عبد ربه منصور هادي. أشار القرار الاممي ايضاً الى ضرورة اعتماد مخرجات وثيقة الحوار اليمني في 2013 التي نصت على كتابة دستور جديد للبلاد وحصر السلاح بيد الدولة وإعادة هيكلة هذه الأخيرة وغيرها من الخطوات التي كانت تمثل خريطة طريق طموحة لحل المشاكل السياسية المعقدة في اليمن.
غياب الثقة والخطوات الأحادية الجانب هي التي أطاحت خريطة الطريق هذه عندما استخدم الحوثيون ميليشياتهم للسيطرة على الدولة. تَشَكلَ التحالفُ العربي رداً على ذلك للضغط العسكري على الحوثيين واجبارهم للعودة إلى طاولة الحوار على أساس مخرجات المبادرة الخليجية والحوار الوطني اليمني.
يغيب في خطاب محور المقاومة العراقي كل هذا التعقيد السياسي والتاريخي للصراع في اليمن ليُختزل كامل الأمر في عبارة مخادعة: "الحرب على اليمن." من خلال هذه العبارة، يتم التركيز فقط على الضربات الجوية للتحالف العربي وتصويرها على أنها تستهدف المدنيين اليمنيين عمداً، فيما الحقيقة غير ذلك، إذ لا تتم أي ضربة جوية في اليمن دون موافقة ممثل للحكومة اليمنية في غرفة عمليات التحالف العربي. لا مصلحة لدول التحالف من استهداف المدنيين، فواقع الأمر، كما أكدته تقارير مختلفة، مرتبط بتضليل متعمد يمارسه الحوثيون أحياناً، وخلايا سرية يْفترض أنها موالية للحكومة اليمنية تعمل في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، أحياناً أخرى. يتعلق هذا التضليل بعدم تحديد المواقع والمنشآت المدنية وإبلاغ الأمم المتحدة بها كي يُتجنب قصفها، أو نقل معلومات مغلوطة عمداً للتحالف العربي عن أهداف مشروعة عسكرياً، يظهر فيما بعد أنها ليست كذلك، وذلك بتواطؤ من الحوثيين. بل يستفيد الحوثيون أحياناً من عمليات قصف التحالف العربي لمنشأت عسكرية للتخلص من خصومهم السياسيين، كما أشارت تقارير دولية نقلاً عن ناشطين يمنيين اقتادَ الحوثيون اقاربهم المعارضين إلى مخازن عسكرية تم قصفها لاحقاً، وأدت إلى مقتلهم.
كما يتجاهل خطاب محور المقاومة فظائع يرتكبها الحوثيون في مناطق سيطرتهم وبينها الخطف وقمع المعارضين (تتحدث تقارير عن آلاف المعارضين المعتقلين في سجون حوثية)، وقصف منشآت مدنية في داخل اليمن وخارجها وسرقة شحنات مساعدات دولية وبيعها تالياً في السوق، وزراعة ألغام محرمة دولياً في مناطق ريفية أدت إلى مقتل يمنيين وإعاقة وصول فلاحين إلى مزارعهم.
للحوثيين مطالب مشروعة تتعلق بالتعاطي مع ضعف التنمية في مناطقهم وبتمثيلهم السياسي في الدولة الذي يمنحهم صوتاً في صناعة القرار ويمنع استهداف خصومهم السياسيين لهم (من الإخوانيين خصوصاً) عبر أجهزة الدولة. يمكن تناول هذه المخاوف والمطالب وغيرها عبر طاولة الحوار كما يدعو لذلك المجتمع الدولي والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي وآخرون كثيرون، وليس من خلال الاستقواء الميليشياوي وتهميش الدولة كما يفعل الحوثيون الآن.
لكن في خطاب محور المقاومة العراقي تضيع كل هذه الوقائع والاحتمالات كي يمضي الخطاب نحو هدفه المعروف والمتكرر: شيطنة دول الخليج.
* كاتب وأكاديمي عراقي ، سكاي نيوز عربية