«أرض بلقيس» للبردوني.. الذكريات تحاصر حروف القصيدة
- علاء الدين محمود
- 10:22 2021/10/25
يعتبر عبدالله البردوني واحداً من كبار شعراء الوطن العربي، وهو من المجددين الذين أعادوا للشعر العربي مجده ورونقه، وأعلنوا مسؤوليتهم تجاه النهوض بالشعر ومجمل أشكال الأدب العربي. كان للبردوني مكانة خاصة في اليمن وبين شعرائها، فهو رائد التجديد الذي أقبل بعقل منفتح على المشهد الشعري العالمي، وتطور الشعر وحداثته، منطلقاً من التراث العربي الثري، محافظاً على شكل القصيدة القديم، ومجدداً في الأساليب والموضوعات والتعابير والأغراض، فكان له أسلوبه المتفرد حتى أن البعض كان يرى أن هنالك شعراً حديثاً وتقليدياً وشعر البردوني، لهذا كله حمل البردوني لقب شاعر اليمن.
| كأنه من تشكي جرحها مقل
يلح منها البكا الدامي وينحدر
يا أمي اليمن الخضرا وفاتنتي
منك الفتون ومني العشق والسهر
ها أنت في كل ذراتي وملء دمي
شعر «تعنقده» الذكرى وتعتصر |
بذات المسؤولية تجاه الشعر، كان البردوني مسؤولاً تجاه بلاده منتمياً إليها، أحبها بشغف وعلى طريقته الخاصة، وقد ولد عام 1929 م في قرية البردون، وأصيب بالعمى في السادسة من عمره بسبب الجدري، ثم درس في مدارس ذمار لمدة عشر سنوات، لينتقل بعدها إلى صنعاء، حيث أكمل دراسته في دار العلوم وتخرج فيها عام 1953م، واشتهر بمواقفه الفكرية والسياسية التي تصادمت مع السائد، فتعرض للعزلة والاعتقال في سجون الأنظمة المتعاقبة.
قصائد البردوني متفردة تميل إلى السخرية والنقد اللاذع، وتحمل مواقف فكرية وفلسفية، وقد شبهه الكثيرون بأبي العلاء المعري، ذلك الشاعر والفيلسوف العربي الكبير، وربما جاء ذلك التشبيه من كون أن الشاعرين قد تعرضا لمحنة الإعاقة البصرية، وكذلك لكون أن نصوصهما تحتشد بالمواقف الفلسفية والتعابير الحاذقة، وقد برع البردوني في الوصف والتعابير التي تحمل طابع التلميح والإشارة والكناية، خاصة في نصوصه الوطنية التي يخاطب فيها مشاكل الوطن ويلتمس فيها له النهوض والتقدم، ومن ذلك قصيدته «في انتظار ميلاد الفجر»، التي يقول في بعض منها:
يا رفاق السرى إلى كم نوالي
خطونا في الدجى إلى لا مقرّ؟
أقلق اللّيل والسكون خطانا
وخضبنا بجرحنا كلّ صخر
وغرسنا هذا الطريق جراحا
واجتنينا الثمار حبّات جمر
كلّنا في السرى حيارى ولكن
كلّنا في انتظار ميلاد فجر
كلّنا في انتظار فجر حبيب
وانتظار الحبيب بصبى ويغري
يا رفاقي لنا مع الفجر وعد
ليت شعري متى يفي؟ ليت شعري
تميزت قصائده الوطنية بالحنين والحب الكبير لليمن، وحفلت العديد من دواوينه بقصائد تدوّن ذلك الحب الكبير، خاصة ديوانه «من أرض بلقيس»، وقصيدته التي حملت ذات الاسم، يخاطب البردوني اليمن أرضها ونخيلها وشوارعها ومعالمها، والذكريات التي تحاصر كل حرف من أحرفها، حيث يتلفت قلب الشاعر إلى تلك الأماكن التي شهدت مولده وطفولته وصباه، وشهدت نضالاته من أجل النهوض ببلاده، إضافة إلى رؤاه الفكرية للتقدم واللحاق بركب التطور فيها، يبث حبه وعشقه بكلمات تذوب رقة، وتختفي تلك النبرة الساخرة عندما يخصص القصيد لحب اليمن، وتحل مكانها نبرة حزينة تعكس ما تعرض له من سجون وعزل وليالٍ طويلة قضاها خارج اليمن، لكن الشوق والحنين جعلانه في قلب أحداثها ومشاهدها، يقول البردوني في مطلعها:
من أرض بلقيس هذا اللحن والوتر
من جوها هذه الأنسام والسحر
من صدرها هذه الآهات، من فمها
هذي اللحون. ومن تاريخها الذكر
من «السعيدة» هذي الأغنيات ومن
ظلالها هذه الأطياف والصور
يطوف بنا البردوني من خلال هذا الاستهلال البديع، ب «أرض بلقيس»، وهي لقب لليمن، من خلال اللحون والأسحار الدالة عليها، وكذلك يذكر تاريخ «السعيدة»، وهو لقب آخر لليمن، الزاخر بالأمجاد والبطولات.
اليمن مهد حضارات قديمة وجنة من جنان الله في الأرض، ويتابع إبداعه منشداً في القصيدة:
أطيافها حول مسرى خاطري زمر
من الترانيم تشدو حولها زمر
من خاطر «اليمن» الخضرا ومهجتها
هذي الأغاريد والأصداء والفكر
هذا القصيد أغانيها ودمعتها
وسحرها وصباها الأغيد النضر
يكاد من طول ما غنى خمائلها
يفوح من كل حرف جوها العطر
يكاد من كثر ما ضمته أغصنها
يرف من وجنتيها الورد والزهر
ويقدم الشاعر في هذه الأبيات صوراً مشهدية لليمن نابضة بالحياة، ويرمز لها بمختلف الدلالات.
كأنه من تشكي جرحها مقل
يلح منها البكا الدامي وينحدر
يا أمي اليمن الخضرا وفاتنتي
منك الفتون ومني العشق والسهر
ها أنت في كل ذراتي وملء دمي
شعر «تعنقده» الذكرى وتعتصر
وأنت في حضن هذا الشعر فاتنة
تطل منه، وحيناً فيه تستتر
وحسب شاعرها منها- إذا احتجبت
عن اللقا- أنه يهوى ويدكر
وأنها في مآقي شعره حلم
وأنها في دجاه اللهو والسمر
ثم إن الشاعر يقدم أوصافه البديعة في ذكر المحبوبة- الوطن، فيصف ببراعة حاله كعاشق لها وما يعانيه من الآهات والسهد والسهر، فكأنها وهي تدمي قلب حبيبها، كحال وطباع الحسان في الحب.
من هذه الأرض هذي الأغنيات، ومن
رياضها هذه الأنغام تنتثر
من هذه الأرض حيث الضوء يلثمها
وحيث تعتنق الأنسام والشجر
ما ذلك الشدو؟ من شاديه؟ إنهما
من أرض بلقيس هذا اللحن والوتر
- 26 أغسطس 2017 02:01
«الخليج»