اليمن تحت الحكم الحوثي: تحليل للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بعد 11 عامًا من الانقلاب ومسارات المستقبل

  • أ. د. عبدالوهاب العوج
  • 07:12 2025/11/09

بعد أكثر من عقد على سيطرتها العسكرية على مساحات واسعة من شمال اليمن، لم تعد الحركة الحوثية قادرة على الاحتفاء بصورة مغايرة لتجربتها الفعلية في الحكم، فالتجربة أظهرت سقوط كثير من الأقنعة السياسية التي طالما ارتدتها الجماعة، وبدأت شرائح واسعة من المجتمع تظهر عليها بوادر احتقان علني ضد مشروعها الطائفي والعنصري، وذلك نتيجة تراكم السياسات القمعية والاجتماعية والاقتصادية التي تبنتها الحركة، وقد انعكس ذلك في تزايد حالات الاحتجاج المحدود، وفي تنامي سخط اقتصادي واجتماعي ملموس داخل محافظات تقع تحت قبضتها، الأمر الذي جعل مشروعية حكمها محلاً متزايداً للنقاش حتى داخل قواعدها التقليدية.
 
الانهيار الاقتصادي وتفكيك مؤسسات الدولة
 
اقتصادياً، خلقت سياسات الحوثيين حالة من الانقسام الاقتصادي المؤلم، فقد تحولت مؤسسات الدولة والقطاع الخاص ومحطات العبور التجاري إلى أدوات لاستخلاص الإيرادات، وبدأت بيئة الأعمال تنهار بفعل سياسات فرض الرسوم، والاحتكارات، وإعادة توجيه العائدات إلى شبكات موازية تخدم قيادة الجماعة، الأمر الذي أفرز تضخماً في مستويات الفقر وتآكلاً مستمراً في القدرة الشرائية. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن أكثر من 70% من السكان في المناطق الخاضعة للحوثيين يحتاجون إلى مساعدة إنسانية عاجلة. وفي مؤشرات موازية تسبّب ذلك في ندرة سلع أساسية وارتفاع أسعارها وانقطاع الخدمات، ما عمّق معاناة المدنيين ومزّق النسيج الاجتماعي. تقارير متعددة ومن بينها دراسات دولية تشير إلى أن الناتج المحلي وقدرته على الصمود تراجع بشكل حاد وأن الانقسام المؤسسي شكّل اقتصادين منفصلين بعُقد تحديات إضافية أمام أي حلول وطنية.
 
تفتيت النسيج الاجتماعي وتغيير الهوية
 
إلى جانب السياسات الاقتصادية القاسية، انتهجت الجماعة سياسة ممنهجة لتفتيت النسيج الاجتماعي اليمني المتعدد والاستئثار بالهوية الوطنية. فبعد سيطرتها على العاصمة صنعاء، عملت على تغيير المناهج الدراسية لتعزيز الرواية التاريخية والطائفية التي تخدم مشروعها السياسي، وهو ما يمثل استهدافاً مباشراً للأجيال الناشئة ومحاولة لقطع صلتهم بتراثهم الوطني الزاخر. كما أدت سياساتها القائمة على المحسوبية الطائفية والعنصرية المناطقية إلى إقصاء واسع النطاق لكفاءات من خارج دائرة نفوذها، مما عمّق الفجوة بين مكونات المجتمع وأضعف مؤسسات الدولة لصالح مؤسسات موازية تابعة للجماعة. هذا كله أدى إلى نشوء هوة سحيقة بين خطاب الجماعة "الوطني" الزائف وبين واقع التهميش والإقصاء الذي يعانيه ملايين اليمنيين تحت حكمها، مما يهدد بتبعات اجتماعية وسياسية طويلة الأمد يصعُب إصلاحها حتى بعد زوال حكم الجماعة.
 
في بعد العنف والقدرات العسكرية
 
أثبتت السنوات الأخيرة أن الجماعة لم تتراجع عن منظومة الخطاب والشعارات التي تروّج للموت والسياسة العنيفة، فقد واصلت استخدام الصواريخ والطائرات المسيّرة والهجمات البحرية كأدوات للضغط الإقليمي، حيث أطلقت ما يزيد عن الآلاف من هذه الأسلحة تجاه الأراضي السعودية والمنشآت الاقتصادية والإمارات والسفن التجارية. وهو ما دفع دولاً وحلفاء إقليميين إلى تصعيد التدابير الأمنية والعقابية ضدها، فقد ربطت تحركاتها الميدانية بتصعيدات إقليمية، وما رُصد من استلامها لدعم تقني وعسكري من جهات خارجية عزز إمكاناتها في هذا المجال، ما جعل ملف إعادة الانتشار أو التحول إلى إدارة مدنية أمراً صعباً ما لم تتغير أولويات القيادة.
 
على مسار العلاقة مع التنظيمات المصنفة إرهابية
 
لا يكمن الواقع في علاقة تحالف تقليدي واضح ومستقر فحسب، بل في مسارات تداخل وتنافس محلية وإقليمية، فالساحة اليمنية تظل ملعباً لتنافس عناصر متباينة. ففي محافظات مثل شبوة والبيضاء ومأرب، تتأرجح العلاقة بين الحوثيين وتنظيم القاعدة بين الصدام المسلح والتساوق التكتيكي، حيث تتنازع الجماعتان على النفوذ الجغرافي وخطوط التهريب والموارد. وفي بعض الأحيان تندلع اتصالات وتكامُلات تكتيكية مع شبكات مسلحة محلية أو فروع لتنظيمات متطرفة في جنوب وشرق اليمن، بينما تحدث صدامات أخرى أو تنافسات حول النفوذ والموارد، لذا فإن توصيف التلازم الكامل أو الولاء المطلق بين الحوثيين وهذه التنظيمات يحتاج إلى تفصيل دقيق حسب المناطق والظروف العملية، ومع ذلك فإن وجود مصالح مشتركة في مواجهة خصوم محددين أو السيطرة على خطوط تهريب وممرات مالية ليس أمراً قابلاً للإنكار.
 
العلاقة مع طهران والأبعاد الإقليمية المتغيرة
 
العلاقة مع طهران باتت إحدى أشهر ثوابت التحليل الدولي عن الحوثيين، فالدلائل المفتوحة والمتكررة تشير إلى تزويد الإيرانيين لطرف عسكري بالأسلحة، والأجزاء التقنية للطائرات المسيّرة، وخبرات لوجستية وتعليمية ساهمت في رفع كفاءة الذراع العسكرية للحركة، وهذا الارتباط ترك أثراً مزدوجاً، أولاً في تمكين الحوثيين عسكرياً بما يسمح لهم بتوسيع رقعة تأثيرهم، وثانياً في تهميش قدراتهم على الادعاء باستقلالية وطنية كاملة أمام المجتمع الدولي. في المقابل، يشهد الدور السعودي تحولاً ملحوظاً من العملية العسكرية المباشرة إلى خيار الدبلوماسية وتركيز الجهود على تحصين الحدود، مدعوماً بوساطات إقليمية لا سيما العمانية التي تحاول فتح قنوات اتصال قد تمهد لتفاهمات مستقبلية، وهو ما يضيف بعداً جديداً للمعادلة الإقليمية.
 
على المستوى الدولي والضغوط بالعقوبات
 
شهدت السنوات الأخيرة موجات تصاعدية من العقوبات واستهداف شبكات التمويل والأنشطة التي تديرها الجماعة، فجهات رقابية وغربية أصدرت قوائم وعقوبات هدفها عزل منظومات التمويل والشراء والتصدير التي تعتمد عليها، ومع ذلك فإن تأثير العقوبات على المؤسسات المدنية والاقتصاد العام يبقى معقّداً، لأنه يتقاطع مع حاجة اليمنيين للمساعدات والاستيراد، وهذا التداخل خلق معضلة إنسانية وسياسية صعبة بالنسبة للمجتمع الدولي الذي يسعى لتقييد قدرات الجماعة دون ضرب المدنيين بشكل مباشر.
 
 داخلياً، تعاظم الصراع داخل بنية الجماعة نفسها
 
فشبكات الولاء والتنافس بين قيادات محلية ومراكز قرار في صعدة وصنعاء أضعفت القوام التنظيمي على المدى الطويل، وبرزت صراعات حول الحصص الاقتصادية والدور السياسي، ومع ارتفاع ضغوط الحصار والعقوبات وتضاؤل الموارد، تصبح هذه الخلافات عاملاً مسرِّعاً لضعف السيطرة المركزية، وهذا الانكماش في السلطوية قد ينعكس في ازدياد حالات الانشقاق أو الانفصال المحلي، وهو ما قد يؤسس لمرحلة من الفوضى الداخلية إذا لم تُدار عبر ترتيبات تفاوضية داخلية أو مصالحات مدروسة.
 
في المشهد المجتمعي
 
إن سقف روايات الوطنية والسيادة الذي روجت له الجماعة لتبرير سياساتها يتعرض لتآكل كبير، فالكثير من المواطنين في المناطق الخاضعة للحكم الحوثي باتوا يشعرون بأن مستوى الخدمات، والعدالة في التوظيف، وتوزيع الموارد لا يخدمهم، وهذا يخلق فجوة بين خطاب الشرعية الذي تبنته الجماعة وبين واقع يومي يعيشه المواطن، وهو أمر له انعكاسات على متانة الحاضنة الاجتماعية للحركة إذا استمرت الممارسات بنسقها الحالي.
 
أما السيناريوهات المحتملة للانهيار أو التغيّر
 
فليس هناك احتمال واحد واضح، بل مجموعة سيناريوهات يمكن تناولها كإمكانيات واقعية:
 
السيناريو الأول: الجمود المستمر
وهو السيناريو الأكثر ترجيحاًفي المدى المنظور، حيث تنجح الجماعة في الحفاظ على سيطرتها على شمال اليمن باستخدام القمع الأمني والاستغلال الاقتصادي، بينما تستمر في مواجهة أزمات شرعية واقتصادية دون انهيار كلي، في ظل جمود المسار السياسي وعدم توفر الإرادة الدولية الكافية لفرض حل.
 
السيناريو الثاني: الانهيار التدريجي بفعل ضغط اقتصادي داخلي وتفكك تنظيمي
حيث تؤدي الأزمة الاقتصادية وانقسام نخب القيادة إلى سلسلة انشقاقات وفقدان للقدرة على إدارة الموارد ما يؤدي إلى تفكك السيطرة على مناطق بعينها مثل الحديدة وإب وتعز،وهذا المسار قد يقود إلى تفجّر نزاعات محلية متشابكة تتداخل فيها عناصر قبلية ومحلية ومجموعات مسلحة أخرى.
 
السيناريو الثالث: التحول إلى إدارة شبه مدنية مدفوعة بمقايضات خارجية وإقليمية
حيث قد تُقدّم بعض الأطراف الدولية والإقليمية حوافز أمنية أو سياسية مقابل تقديم امتيازات لإدارة شبه مدنية تقبل بتقييد النشاط العسكري،وهذا يتطلب تغييراً في خيارات القيادة الحوثية أو استبدالها بمكوّنات أكثر ميلاً للاتفاقات، وهو مسار صعب لكن ليس مستحيلاً إذا توافرت ضمانات دولية وإقليمية معتبرة.
 
السيناريو الرابع: التصعيد الإقليمي الذي يمنح الجماعة زخماً عسكرياً مؤقتاً
بفعل دعم خارجي متزايد،وهذا قد يدفعها إلى مزيد من التجذر والاعتماد على الموارد العسكرية، لكنه في المقابل سيزيد من عزلة الجماعة ويفاقم تكلفة أي بقاء طويل الأمد على السلطة.
 
السيناريو الخامس: تحوّل المشهد إلى وضع شبيه بالاحتلال الموزاييك
حيث تتوالى مناطق نفوذ متناوبة بين جماعات ومليشيات محلية وقوات حكومية ومصالح إقليمية،وهذا سيناريو فوضوي للغاية ويعقّد عملية إعادة الدولة بشكل جذري.
 
خلاصة تحليلية
 
المشهد الراهن يظهر حركة بالغة التعقيد، الجماعة مقوّاة عسكرياً إلى حد أثبتته قدراتها على توجيه هجمات استراتيجية ومنها البحرية والجوية، ومع ذلك فهي تواجه أزمات شرعية واقتصادية واجتماعية متصلة. الاعتماد على دعم خارجي يربطها بمحاور إقليمية يضعف رواية السيادة الوطنية التي ظلت تتغنى بها، بينما العقوبات الدولية والتعاطي الأمني الإقليمي يزيدان من الضغوط عليها ويقيدان مواردها. وكل ذلك يفتح أمام عدة سيناريوهات للمستقبل تتراوح بين التفكك البطيء والتحول المشروط، أو الانجراف نحو مزيد من العزلة والتطرف في حال تصاعد الدعم الخارجي أو فشل محاولات إدماجها سياسياً.
 
أخيراً، أي معالجة سياسية أو اقتصادية فعالة تتطلب إدراكاً واقعياً لطبيعة التحالفات والقيود، وتقديم حوافز متوازنة تقلل من طابع المواجهة العسكرية وتفتح مسارات للتفاوض المجدي، مع ضمان حماية مدنية للتخفيف من آثار العقوبات على السكان، وإلزامية فصل النقاش حول الأمن الإقليمي عن التعاطي الإنساني مع اليمنيين، فإدارة هذا الملف بنجاح لا تقوم على وهم الحل العسكري وحده، ولا على تجاهل المخاطر التي تفرضها شبكة علاقات الجماعة الإقليمية، بل على مزيج دقيق من الضغوط والحوافز والضمانات الدولية التي تعترف بتعقيدات المشهد اليمني وتعمل على معالجة جذور الأزمة وليس أعراضها فقط.
 
أ.د/عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي يمني
جامعة تعز

ذات صلة