استهداف الحوثيين للعملة الوطنية - القصة الكاملة

05:16 2021/08/06

تمكنت جماعة الحوثي من إحكام سيطرتها على كافة المؤسسات المالية بما فيها البنك المركزي اليمني عقب اجتياحها للعاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، لتبدأ في عملية استنزاف الاحتياطي النقدي للبنك المركزي الذي قدر حينها بـ 5.6 مليار دولار وأكثر من ترليون من العملة المحلية1، رغم مطالبة المؤسسات النقدية الدولية بتحييد الاقتصاد وبقاء البنك المركزي في صنعاء، شريطة عدم التدخل في إدارته أو إجراء تغييرات من اختصاص رئيس الجمهورية، مع السماح بتدفق الإيرادات إليه على أن يتم تسليم رواتب الموظفين الحكوميين في كافة المحافظات، لكن هذا الأمر قوبل برفض جماعة الحوثي واستمرت في نهب الاحتياطي النقدي من خلال صرف 100 مليون دولار شهريًا مجهود حربي، لتمويل عملياتها العسكرية محليًا، وأوقفت صرف رواتب كل الموظفين ممن يخالفونهم الرأي بالجهاز المدني والعسكري للدولة2.
 
كانت عملية نهب الاحتياطي النقدي أولى الضربات التي تعرضت لها العملة الوطنية، والاقتصاد اليمني بشكل عام، وأوصلت اليمن إلى مستوى متدهور وانهيار معيشي ما جعل المنظمات الدولية تصف الوضع في اليمن بالأزمة الأسوأ في العالم.
 
في الوقت ذاته، نشطت عملية المضاربة على العملة الصعبة كنتيجة طبيعية لتزايد الاستيراد لاسيما استيراد الوقود بعد شروع الحوثيين في إنشاء شركات وقود خاصة كان لها دور أساسي في عملية المضاربة وتزايد الإقبال على شراء العملات الأجنبية، وخلال هذه المرحلة بدأ هبوط العملة الوطنية بشكل متسارع في ظل تراجع النقد الأجنبي في البلاد.
 
وبدلاً من اتخاذ إجراءات اقتصادية تسهم في إيقاف تدهور العملة، حاولت جماعة الحوثي إيقاف هذا الانهيار عن طريق حلول أمنية مثل ملاحقة أصحاب محال الصرافة ومصادرة أموال بعضها، وقد دفعت هذه الخطوات محال الصرافة للإغلاق احتجاجًا على هذه الإجراءات، ووصفوا إجراءات الحوثيين بـ"التعسفية" والتي لا يمكن أن تضع حدًا لتدهور العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، مطالبين البنك المركزي الخاضع لسيطرة الحوثيين باتخاذ إجراءات مالية سليمة. مؤكدين بأن "التدهور المستمر للريال يرجع إلى إحجام البنك المركزي عن تغطية حاجة السوق من النقد الأجنبي، ورفضه تغطية اعتمادات التجار المستوردين من الدولار، ما أدى إلى زيادة الطلب على النقد الأجنبي من السوق المحلية وبالتالي ارتفاع سعره"3.
 
كانت الجماعة قد فرضت الإقامة الجبرية على محافظ البنك المركزي محمد عوض بن همام ومنعته من التنقل والسفر، لكنه استطاع مغادرة صنعاء، في 10 أغسطس/آب 2015، واستقر في مسقط رأسه بمنطقة غيل باوزير، في محافظة حضرموت (شرقي اليمن) بعدما وصل إلى طريق مسدود مع جماعة الحوثي وتدهورت العملة الوطنية في عهدها بسبب التجاوزات الاقتصادية التي قامت بها لاسيما تعويم أسعار المشتقات النفطية عبر ربطها بالبورصة العالمية. 
 
وخلال أقل من ثلاثة أشهر، استنجد الحوثيون بمحافظ البنك لمعاجلة أزمة انهيار الريال اليمني أمام الدولار الأمريكي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ليعود إلى صنعاء في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2015 بتوجيهات من الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي4. 
 
لكن عودة محافظ البنك لم توقف عبث الحوثيين وتسخيرهم مقدرات الدولة لصالح الحرب، ما دفع وزارة المالية في عدن للتحذير من نهب الحوثيين للاحتياطي النقدي والسياسات المالية التي تستهدف الاقتصاد اليمني لأكثر من مرة، دون جدوى. 
 
حول هذا الشأن قال نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية عبدالملك المخلافي في 20 يناير/كانون الثاني 2016، إن الحكومة "حرصت على تجنيب البنك المركزي والسياسة المالية من الصراع وأن رئيس الجمهورية وجه محافظ البنك محمد عوض بن همام بالعودة إلى صنعاء لتفادي انهيار العملة". 
 
وفي لقاء جمعه بالسفير البريطاني لدى اليمن أدمنتون براون، أوضح المخلافي محاولات الحكومة النأي بالاقتصاد عن الحرب القائمة، أمام تعنت الحوثيين الذين نفذوا تغييرات واسعة في وزارة المالية ومارسوا ضغوطًا على القطاع المصرفي ولازالوا "يعطلون اجتماع مجلس إدارة البنك المركزي الذي أردنا أن ينعقد لوقف التدهور، وإذا انهارت الثقة في العملة الوطنية فمن الصعب استعادتها، (...) الوضع الاقتصادي لم يعد يحتمل واللجنة الاقتصادية في الحكومة لديها مؤشرات سلبيه للغاية"5، فقد أصبح البنك المركزي في صنعاء غير قادر على ضخ كتلة نقدية للسوق لأن الأموال النقدية الموجودة في حوزة الأفراد قد زادت ثمانية أضعاف. وبعدما كانت قيمتها تعادل ۱۰۳ ملايين دولار في 2014، وصلت إلى 884 مليون دولار في يونيو/حزيران 2016، وقد أدى هذا إلى استنفاد الكتلة النقدية تمامًا في النظام المصرفي6.
 
وفي 18 مايو/آيار 2016، ألقى رئيس الوزراء الدكتور أحمد عبيد بن دغر كلمة في مؤتمر صحفي، تحدث فيه عن كثير من القضايا المتعلقة بتلك المرحلة، ومن ضمنها عبث الحوثيين بالاقتصاد وطباعة أوراق نقدية دون غطاء، ونهبهم للاحتياطي ومنعهم تسليم المرتبات للموظفين ما تسبب في انهيار العملة المحلية. والتالي الجزء المتعلق بالجانب الاقتصادي من تلك الكلمة:
 
"أيها الإخوة: تعيش البلاد حالة انهيار اقتصادي ونقدي مريع، لقد تصرف الحوثيون وصالح بثلاثة مليار دولار تقريبا كانت تمثل معظم الاحتياطي النقدي في البلاد، استخدم هذا الاحتياطي في المجهود الحربي للاستيلاء على الدولة والسلطة، والانقلاب على الجمهورية والوحدة، وإدارة الحرب، لقد أخل الحوثيين بنظم الإدارة المالية والنقدية ورتبوا لطبع المزيد من الأوراق النقدية، فانهار سعر الريال أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، واستدعى انهيار العملة زيادات كبيرة في الأسعار، وفوضى اقتصادية وقلص مداخيل المواطنين، وألحق بالفقراء ومتوسطي الدخل أضرارًا معيشية كارثية، وبؤسًا ينمو ويكبر يومًا بعد آخر. لقد التزمنا نحن في الحكومة، بهدنة اقتصادية كان قد اقترحها الأصدقاء منذ بداية الحرب واحترمنا حيادية البنك المركزي رغم إدراكنا أن المليشيات لا تعرف معنىً للهدنة، ولا تحترم أمر الحياد. وقمنا بتوريد كامل الإيرادات العامة الى البنك المركزي في صنعاء من الضرائب والجمارك والرسوم ومن جميع المنافذ والمرافق التي تقع تحت سيطرة الشرعية بما في ذلك إيرادات خارجية، شعورًا منا بالمسؤولية الوطنية تجاه شعبنا، والتزامًا بما تعهدنا به، محذرين وباستمرار من مخاطر السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المدمرة التي تبناها الحوثيون خلال الشهور الماضية.
 
لقد أوقف الحوثيون صرف مرتبات الضباط والجنود والموظفين في المناطق المحررة، بما فيهم أعضاء في مجلس النواب والشورى الذين رفضوا الانصياع والاستسلام لسلطة الانقلاب، ومنعوا وصول الموازنات التشغيلية للمستشفيات والمرافق العامة ورفضوا معالجة الجرحى، وتعويض أسر الشهداء، في المناطق المحررة، والمستعادة من سلطتهم فكان ذلك إخلالًا بما تم الاتفاق عليه. لقد عانى أهلنا في كل أنحاء اليمن جراء هذه السياسيات، وها نحن جميعًا نشهد انهيارًا تامًا لاقتصاديات بلادنا، ونهبًا لماليتها العامة يتحملون هم دون غيرهم مسئوليته.
لقد بات واضحًا أن تدميرًا ممنهجًا مقصودًا قد مورس تجاه شعبنا ومقدراته وثرواته الوطنية، وذلك لإرغامه على القبول بسلطة الأمر الواقع، أو تجويعه، وتدمير كيانه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لقد كان بالإمكان منع التدهور ووقف الانهيار، لو قبل الحوثيون وصالح بتنفيذ قرار مجلس الأمن، كما هو لا كما يريدونه هم" انتهى7.
 
بدأ المجتمع الدولي يدرك حجم الورطة الاقتصادية والإنسانية الناتجة عن جرائم الحوثيين الاقتصادية، وهذا ما جعل السفير البريطاني لدى اليمن يقول في لقائه بنائب رئيس الوزراء، بأن "وقف التدهور والانهيار الاقتصادي قد يكون أولوية أكثر من وقف إطلاق النار في ظل المؤشرات الخطيرة للوضع"8. 
 
ومن المهم الإشارة هنا إلى الوسيلة التي استخدمها الحوثيون في نهب الاحتياطي في البنك المركزي لاسميا وقد نفوا مرارا نهب الاحتياطي، فالعملية لم تتم بشكل مباشر، فهم لم يدخلوا إلى البنك ونهبوا الأموال قسرا. وإنما استمروا في سحب الأموال تحت مبرر إنجاز مشاريع تنموية في المؤسسات الحكومية بعدما كانوا قد أعلنوا في مارس/آذار 2015 قرار التعبئة العامة لتسخير كافة الموارد وإمكانيات الدولة ومخصصاتها المالية بما فيها موازنات وزارتي التعليم والصحة ودعم الغذاء والاصحاح البيئي لصالح العمليات الحربية9. وبالتالي، لم يكن هناك أي مشاريع تنجز، وكل ما يصرفه البنك المركزي من الاحتياطي النقدي بذريعة إنجاز مشاريع كان يذهب لصالح العمليات الحربية وإثراء القيادات الحوثية.
 
وأمام هذا الواقع الاقتصادي المتهاوي الناتج عن استمرار الحوثيين في استنزاف موارد البنك المركزي واستخدام الاحتياطي النقدي في تمويل الحرب، أصدر الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي في 18 سبتمبر/أيلول 2016، قرارًا جمهوريًا قضى بنقل المركز الرئيسي للبنك المركزي إلى عدن وإعادة تشكيل مجلس الإدارة للحفاظ على ما تبقى من موارد للدولة ولتجفيف منابع تمويل الحرب الحوثية على اليمنيين10، لكن الحوثيون تمسكوا بما لديهم كبنك مواز، ورفضوا توريد عائدات الدولة إليه، ما تسبب في زيادة أضرار الاقتصاد الوطني، وحصول أزمات متلاحقة وتفاقم أخرى، منها أزمة الرواتب وتهاوي قيمة العملة اليمنية.
 
وجدت الحكومة اليمنية نفسها أمام التزامات مختلفة تجاه اليمنيين وموظفي الجهاز الإداري للدولة كونها قررت نقل البنك المركزي. لكن ما هو متاح كان عبارة عن كميات قليلة من العملة المحلية في البنك، بعدما نهب الحوثيون حوالي ترليون ونصف ريال يمني. وما زاد الوضع تعقيدًا، هو استمرار جماعة الحوثي في تخزين كميات كبيرة من العملة المحلية (الريال) ما أحدث أزمة سيولة دفعت الحكومة اليمنية إلى اللجوء لـ"الحل الأخير" بحسب تعبير الخبير الاقتصادي ورئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي مصطفى نصر، والذي أكد بأن الحكومة وجدت نفسها أمام خيارين، "إما أن تطبع عملة جديدة ليست مختلفة عن السابقة بكميات كبيرة، أو تطبع عملة جديدة مختلفة، أي تغيير العملة"11.
 
اتفقت الحكومة اليمنية مع شركة روسية على طباعة أكثر من ترليون و700 مليار ريال يمني، لاستبدال الأوراق التالفة12، ومواجهة النفقات والمصروفات، ودفع الرواتب لموظفي القطاع المدني والعسكري. واستمر التعامل بالعملة الجديدة لحوالي عامين في مختلف أنحاء اليمن، إلى أن نفذت جماعة الحوثي خطوة صادمة كان لها تداعيات كارثية على الاقتصاد اليمني والوضع الإنساني بشكل عام. إذ أعلنت في 28 فبراير/شباط 2018 منع التعامل بالأوراق النقدية الجديدة من فئتي 1000 و500 ريال، والتي طبعها البنك المركزي اليمني13، ونفذت حملات أمنية لمصادرتها من المتاجر والمصارف ومنازل التجار والمواطنين، واتهمت كل من يجمعها أو يتعامل بها بالخيانة والعمالة للخارج. 
 
وضعت الجماعة كثيرا من المبررات لشرعنة هذا القرار على رأسها الحفاظ على سعر الصرف، غير أن كثيرًا من الاقتصاديين اعتبروها خطوة سياسية أكثر من كونها اقتصادية، وهذه الخطوة تهدف إلى قطع أي ارتباط مجتمعي بالحكومة المعترف بها دوليًا والإبقاء على حالة الجوع والفاقة المجتمعية بما يساعد في تطويع الناس.
 
ولإقناع الناس بتسليم ما بحوزتهم من أموال بالعملة الوطنية الجديدة، ادعى البنك المركزي الخاضع لسيطرة الحوثيين بأنه سيعوض المواطنين الذين يسلمون ما لديهم من نقد جديد، بعملة إلكترونية.
مطلع شهر ابريل/نيسان 2018، أغلق الحوثيون محال وشركات صرافة بالعشرات في صنعاء، على خلفية تعاملها بالأوراق النقدية الجديدة وقامت بمصادرة ملايين الريالات14.
 
كان لمنع تداول العملة الوطنية الجديدة في مناطق سيطرة الحوثيين تداعيات سلبية على قيمتها أمام الدولار، حيث تفاوتت أسعار الصرف، وألحقت أضرارًا كبيرة على التداول النقدي والتعاملات المالية، وتسببت بحرمان كثير من التجار والمواطنين العاديين من مدخراتهم النقدية الجديدة بعد حوالي من سنتين من التداول.
 
بطبيعة الحال، كانت هذه الخطوة الحوثية وسيلة جديدة لنهب أموال المواطنين، لاسيما شرائح الموظفين والعمال. فعقب مصادرة هذه الأموال من المواطنين والصرافين والتجار بكافة مستوياتهم، يقوم الحوثيون بتصريفها في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية بطرق مختلفة.
 
هذه الإجراءات دفعت الأمم المتحدة للتحذير من مخاطر انهيار العملة الوطنية في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2018. وقالت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، ليز غراندي، بأن "ملايين اليمنيين من الفقراء والمعدمين باتوا مهددين بالجوع نتيجة الارتفاع القياسي لأسعار السلع، على خلفية التضخم الناتج عن الانهيار المتسارع في قيمة العملة المحلية (...) عندما ترتفع أسعار القمح أو زيت الطهي أو الحليب في الأسواق المحلية، حتى ولو بزيادة بسيطة، فسيصبح التأثير كارثيًا وفوريًا. كما أن الأسر التي كانت بالكاد تستطيع شراء ما تحتاج إليه، أصبحت فجأة غير قادرة على ذلك"15.
 
مقابل العبث الاقتصادي الحوثي، طالبت الحكومة اليمنية المجتمع الدولي بإيقاف ما وصفته بـ"سياسة الإفقار والتجويع". حيث دعا وزير الإعلام معمر الإرياني، الأمم المتحدة ممثلة بمبعوثها الخاص إلى اليمن مارتن غريفيث، إلى "القيام بمسئوليتهم وممارسة الضغط على مليشيا الحوثي الانقلابية المدعومة من إيران، لتحييد الاقتصاد عن الصراع، التي تنتهج سياسات إفقار وتجويع أوصلت الأوضاع المعيشية إلى معدلات مأساوية". محذرًا "من تبعات منع تداول أو حيازة العملة الوطنية في مناطق سيطرة جماعة الحوثي وتجريم من يتعامل بها، ومساعيها الخطيرة لنهب رأس المال الوطني وسحب مدخرات المواطنين عبر دعوتها لاستبدال العملة الوطنية مقابل ما تسميها النقد الإلكتروني".
 
وأكدت الحكومة اليمنية بأن هذه الإجراءات تندرج "ضمن السياسات التدميرية التي انتهجتها المليشيا منذ انقلابها لضرب الاقتصاد الوطني والفساد والمضاربة بالعملة وتقويض جهود الحكومة وسياساتها النقدية التي نجحت في وقف انهيار العملة والحفاظ على قوتها الشرائية وتحسين سعر الصرف واستقرار أسعار السلع الغذائية"16.
 
الباحث الاقتصادي عبد الواحد العوبلي، لخص التأثيرات الاقتصادية لهذه الإجراءات بقوله إن سحب العملة الجديدة أدى إلى المضاربة على سعر العملة الجديدة مقابل القديمة لاسيما بعدما قام الحوثيون "عبر مشرفيهم والنافذين في الجماعة باستبدال العملة القديمة بالجديدة فئة ألف ريال مقابل 900 أو 800 فقط، كما يقومون بسحب المبالغ المالية من المواطنين ويقومون بمصارفتها بعملة صعبة"، ما أدى إلى تزايد الطلب على العملات الأجنبية وارتفاع سعرها أمام العملة المحلية وساهم في زيادة التضخم ومن ثم زيادة أخرى في أسعار السلع والخدمات، "وبالتالي تخفيض القيمة الحقيقية للمدخرات والدخل والاستهلاك، وتفاقم مؤشرات الفقر وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، خصوصًا أن اليمن يعتمد على الاستيراد في تغطية جل احتياجاته الغذائية وغيرها"17.
 
لاقت هذه الإجراءات استنكارًا مجتمعيًا واسعًا، حيث اعتبرت شكلًا من أشكال السرقة لأموال اليمنيين. وصف رئيس تحرير صحيفة عدن الغد، وهي واحدة من أبرز الصحف اليمنية المستقلة، فتحي بن لزرق، عملية مصادرة العملة الجديدة في مناطق سيطرة الحوثيين ومنح أصحابها عملة إلكترونية بـ "المغالطات الغبية لعصابة لا دين ولا سلوك لها إلا نهب الناس"18. 
 
وفي 31 ديسمبر/كانون الأول 2019، بدأ التجار اليمنيون في المحافظات الخاضعة لسيطرة الحوثيين إضرابًا مفتوحًا، رفضًا لقرار منع تداول ومصادرة العملة النقدية الجديدة الصادرة عن البنك المركزي في عدن.
 
وفي بيان صحفي، طالبت نقابة "التجار اليمنيين"، البنك المركزي الخاضع لهيمنة الحوثيين "بإعادة النظر في القرارات الخاصة بالعملة المحلية الجديدة، لأنها منتشرة في السوق بمبالغ خيالية (...) وأن تغيير العملة الجديدة بالريال الإلكتروني ليس حلًا"19.
 
قوبل هذا الحراك النقابي بقمع انتهى بخضوع كافة المؤسسات المالية والتجارية في مناطق سيطرة الحوثيين لهذه القرارات، وهو الأمر الذي أظهر مشكلات مالية مختلفة كنتيجة طبيعية لإيقاف التعامل بالعملة النقدية الجديدة، لتضاف إلى قائمة الأعباء الكثيرة التي أثقلت كاهل اليمنيين وتسببت في حرمانهم من كثير من احتياجاتهم اليومية. فقد دفع هذا الإجراء محلات الصرافة إلى فرض نسبة وصلت في بعض المراحل إلى 40 بالمائة على التحويلات المالية من المحافظات والمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة اليمنية إلى المحافظات والمدن التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، بمبرر فارق الصرف بين العملتين الجديدة والقديمة، وهو ما انعكس بشكل سلبي على المواطنين.
 
على سبيل المثال، من كان يعمل في حضرموت ويحوّل لأفراد أسرته في صنعاء مبلغ 100 ألف ريال يمني عبر شركة صرافة، يخصم من المبلغ المحول حوالي 30 أو 40 ألف ريال، فتصل إلى المستلم 60 إلى 70 ألف ريال فقط.
 
لم يتوقف الأمر هنا، فقد استمرت الجماعة في تنفيذ إجراءاتها التي أسهمت في القضاء على قيمة العملة الوطنية عبر قرارات تستهدف البنوك وشركات الصرافة. ولأن المقار الرئيسية لغالبية المؤسسات المالية في صنعاء، فقد استطاعت الجماعة الوصول إلى البيانات والمعلومات التفصيلية للمصارف والبنوك وفرض قبضة أمنية على هذه المؤسسات ومنعتها من التعامل مع البنك المركزي في عدن والمعترف به من المؤسسات المالية الدولية، حتى وصلت هذه التدخلات إلى درجة منعها من استخدم أموالها المودعة كاحتياطي قانوني في البنك المركزي بصنعاء، واقتحام المصارف والبنوك في صنعاء واختطاف من يديرونها، وقد أكدت وسائل إعلام بأن الحوثيين اقتحموا حوالي عشرة بنوك ومصارف في صنعاء خلال العام 2020 فقط. 20.
 
يحدد الحوثيون ربح كل بنك دون اعتماد الحسابات الختامية الرسمية الخاصة به، وبناء على ما يتم تحديده، تفرض على البنوك دفع نسب من الأرباح ومن يرفض الدفع يتم الزج به في السجن وتعذيبه أو منعه من ممارسة أنشطته ومصادرة هذه المؤسسات. إضافة لذلك، منعوا البنوك من فتح اعتمادات مستندية لدى البنك المركزي المعترف به في عدن لاستيراد مواد غذائية أساسية بموجب نظام الاستعاضة المعمول به في مقر البنك، وبسبب ذلك سجنوا عددًا من العاملين في بعض البنوك كان أبرزهم نائب مدير بنك اليمن والبحرين الشامل عباس ناصر21.
 
أوكل الحوثيون مهمة اقتحام المصارف إلى تاجر السلاح المقرب من زعيم جماعة الحوثي صالح مسفر الشاعر بالإضافة إلى مطلق عامر المراني، واللذيْن عملا على تشكيل شبكة تتألف من أفراد أسرة صالح الشاعر، ومن عناصرهم السلالية الموجودة في المحكمة الجزائية المتخصصة والبنك المركزي اليمني في صنعاء ودوائر التسجيل في وزارة التجارة والصناعة وبعض المصارف الخاصة الخاضعة لهم، لتقوم "بالابتزاز والتخويف والاعتقال غير القانوني لمديري الشركات ومديري المصارف، مع تهديدهم بتوجيه تهمة التعاون والتجسس لصالح العدو". أما مطلق المراني، فكانت مهمته "تدبير عمليات اعتقال المالكين والمديرين والموظفين في المصارف" وتعذيبهم على رأسهم العاملين في بنك التضامن الإسلامي الدولي وبنك اليمن والكويت وبنك اليمن الدولي ووكالات صرافة أخرى22.
 
في 22 يونيو/حزيران 2021، أعلن الحوثيون منع التعامل مع عملة نقدية جديدة من فئة 1000 ريال طبعتها الحكومة اليمنية، واعتبرتها "مزوّرة وغير قانونية"23. ولم تمر أيام قليلة إلا وتراجعوا عن قرار منع التعامل مع هذه العملة، وسمحوا بنقل مبلغ 100 ألف ريال لكل شخص قادم للمناطق الخاضعة لسيطرتها، شريطة تطابق الرقم التسلسلي في الفئة الجديدة مع الفئة المتداولة القديمة24.
 
خلال العام 2020، برزت بشكل واضح وجلي إحدى النتائج الكارثية لعملية "الفصل القسري" بين مناطق سيطرة الحكومة اليمنية وبين مناطق سيطرة الحوثيين كما وصفها تقرير صادر عن مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، فقد تراجع حجم التجارة بين المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين، ومناطق الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، بنسبة 40%، وذلك للمرة الأولى في تاريخ اليمن منذ تحقيق الوحدة اليمنية بين اليمن الشمالي والجنوبي عام 1990.
 
واعتبر مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي قرار الحوثيين بعدم التعامل مع الفئات النقدية الجديدة من العملة المحلية، بمثابة "نقطة تحوّل خطيرة ضاعفت من التحديات التي يواجهها الاقتصاد اليمني، وفاقمت من الأزمة الإنسانية والمعيشية التي تعد الأسوأ عالميًا"25. وقد علق الخبير الاقتصادي مصطفى نصر، على هذا الإجراء الحوثي الكارثي بالقول: "أخطر خطوة لتقسيم اليمن من الناحية الاقتصادية خلال المرحلة الراهنة تمثلت في قرار جماعة الحوثي عدم التعامل بالفئات النقدية الحديثة من العملة وما ترتب عليه من تعامل بعملتين مختلفتي القيمة؛ مهما كانت المبررات فإن تداعيات هذه الخطوة كارثية وتبعاتها أكبر مما نتصور حاليًا"26.
 
ما سبق، غيض من فيض الإجراءات التي نفذها الحوثيون وكانت سببًا في تدني قيمة العملة الوطنية لمستويات قياسية أمام العملات الأجنبية الأخرى، علاوة على ذلك أسهمت في إيجاد انقسام نقدي ومصرفي حاد في البلاد أدى إلى تدهور الوضع المعيشي. 
 
الثبات الزائف
 
في إحدى اللقاءات التلفزيونية، قال الناطق الرسمي لجماعة الحوثيين عبدالسلام فليتة (محمد عبدالسلام) إن سياستهم المالية (عملية نهب العملة الوطنية الجديدة ومنع تداولها) كانت سببًا في الحفاظ على قيمتها أمام العملات الأجنبية في مناطق سيطرتهم، في واحدة من أكاذيب الجماعة التي راجت بين عامة الناس لكنها لا يمكن أن تنطلي على أي متخصص في الاقتصاد27.
 
في شهر مايو/أيار 2020 ارتفع سعر الصرف في مناطق سيطرة الحوثيين من ٦٠٠ إلى ٧٠٠ ريال يمني مقابل الدولار الواحد جراء الضغط على العملة القديمة وعدم تداول العملة الجديد، ثم عاد إلى مستواه السابق لأسباب اقتصادية طبيعية منها:
 
- يجمع الحوثيون إيرادات هائلة حتى أنهم يتحصلون على أموال خاصة بالدولة كانت لدى مؤسسات مالية منذ التسعينات، لكنهم في المقابل لا يقدمون أي خدمات أو مرتبات للمواطنين.. إيرادات هائلة بلا التزامات. في مقابل ذلك، كانت إيرادات الحكومة الشرعية قليلة كما أشارت الأمم المتحدة، لكنها تحرص على تسليم ما يمكن من المرتبات رغم المشكلات والمؤامرات الاقتصادية التي تحاك ضدها، ولهذا فإن صرف ما حصلت عليه من إيرادات على شكل مرتبات وخدمات ومشتقات نفطية تقدم في مختلف المحافظات الخاضعة لسيطرتها يضعف سعر العملة. في النهاية هي دولة ومسؤولة عن المجتمع، بينما جماعة الحوثي مجرد عصابة ولا تهتم سوى بأنصارها من السلالة وتترك بقية اليمنيين للفاقة والفقر أو ما تقدمه المنظمات الدولية لهم بين الوقت والآخر.
 
- تعتبر تحويلات المغتربين ومساعدات المنظمات من أهم التدفقات النقدية من العملة الأجنبية، وغالبا ما تصل هذه التحويلات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين بسبب الكثافة السكانية ولأن المراكز الرئيسية للبنوك والمنظمات في صنعاء وهذا ما يسهم في الاستقرار النقدي.
 
- العامل الأهم والذي أدى إلى ضعف العملة الوطنية في مناطق سيطرة الحكومة والثبات النسبي الكاذب في مناطق سيطرة الحوثيين، فمرده فتح الاعتمادات المستندية وشراء العملة الأجنبية وحركة التجار مع العالم الخارجي عبر القنوات المصرفية المعتمدة في البنك المركزي اليمني المعترف به خارجيًا في عدن. في المقابل، لا توجد تعاملات خارجية تتم عبر البنك المركزي في صنعاء الخاضع لسيطرة الحوثيين. وبالتالي، يزداد الطلب على العملة الصعبة في عدن، ويضعف الريال اليمني أمامها.
 
وعندما نصِف الاستقرار النسبي للعملة في مناطق سيطرة الحوثيين بـ"الكاذب"، فلأن أسعار السلع والخدمات ترتفع في مناطق سيطرتهم كنتيجة طبيعية لانهيار العملة في البنك المركزي في عدن والمعترف به دوليًا جراء إجراءات الحوثيين النقدية. وهذا يعني بأن المواطنين لا يستفيدون من بقاء سعر العملة ثابتًا في مخازن الحوثيين، وهو ثبات شكلي بلا أهمية.