المختطفون… شهادتي من الزنزانة

قبل 17 ساعة و 23 دقيقة

أنا لا أكتب هذا المقال من موقع المراقب أو المحلل السياسي، بل من موقع الشاهد؛ شاهدٍ على الزنازين، وعلى الانتظار الطويل، وعلى الكذب المنهجي الذي يُدار باسم السياسة والتفاوض. أكتب بصفتي صحفيًا، نعم، لكن قبل ذلك بصفتي مختطفًا سابقًا قضى عامًا ونصف العام في سجون جماعة لا ترى في الإنسان سوى ورقة ضغط، ولا تؤمن بالسلام إلا كشعار مؤقت. كنا بالمئات، وهذه حقيقة يجب أن تُقال بوضوح. لم يكن بيننا مقاتل واحد، ولا من حمل سلاحًا، ولا من واجه الحوثيين، ولا حتى من رفع عصًا في وجوههم. كنا مدنيين خالصين: طلاب جامعات، موظفين، عمال، شبانًا انتُزعوا من الشوارع، ومن المدارس، ومن أماكن عملهم، وبعضهم بطرق خديعة لا تقل إجرامًا عن الاختطاف نفسه.
 
أتذكر حسام، وعبدالله ورو، وأمجد دبوان، وحسام الشوافي. الأخير كان يعمل في مجال الألمنيوم، تلقى اتصالًا عاديًا قيل له إن هناك عمارة من عدة أدوار تحتاج إلى مقاولة. ذهب كما يذهب أي عامل شريف بحثًا عن رزقه، لكن ما إن بدأ بأخذ القياسات حتى وجد نفسه محاصرًا، دُفع بقوة، سقط أرضًا، وبدأت رحلة لا علاقة لها بالقانون ولا بالإنسانية. كان يكرر سؤالًا واحدًا: “ما الذي فعلته؟” وكان الجواب دائمًا: “سنعلمك”.
 
هذه ليست حالة فردية، بل سياسة متكاملة. سياسة اختطاف ممنهجة استهدفت المدنيين تحديدًا، لأنهم الحلقة الأضعف، ولأن خطفهم لا يكلّف الجماعة شيئًا، بينما يمنحها أوراق ابتزاز جاهزة. أتحدث عن عشرات السجون في حجة، وعمران، والمحويت، والحديدة، وذمار، وإب، وريمة، فضلًا عن محافظة صعدة التي تحوي بين جنباتها مئات المختطفين المخفيين قسرًا منذ سنوات. أنا عشت هذه القصص، وعشت عشرات غيرها، ولو أردت سرد كل ما رأيته وسمعته وعشته في سجون الجماعة الإرهابية لطال المقال أكثر وأكثر. شباب بسطاء، شيوخ، أكاديميون، طلاب، عمال، لا ذنب لهم سوى أنهم خارج مشروع المليشيا.
 
المأساة الأكبر لا تكمن فقط في سلوك الحوثيين، فذلك متوقع من جماعة مسلحة لا تعترف بالقانون، بل في طريقة التعامل الدولي مع القضية. لا تزال الأمم المتحدة تتعامل مع ملف الأسرى والمختطفين كملف واحد، وكأن المدني المختطف من الشارع يساوي المقاتل في الجبهة. هذا خلط خطير، إما ناتج عن جهل، أو عن تواطؤ، أو عن عجز فادح في إدارة الملف.
 
والحقيقة المؤلمة أيضًا أن الشرعية نفسها تتحمل جزءًا من المسؤولية. هناك فشل واضح في إيصال القضية كما هي، وضعف في الخطاب، وارتباك في إدارة الملفات الإنسانية. كثير من المسؤولين وصلوا إلى مواقعهم دون كفاءة سياسية حقيقية، فكانت النتيجة ضياع الملفات، وعلى رأسها ملف المختطفين. لقد بُنيت الشرعية – ولا تزال – على سياسة محاصصة: أحزاب، ومصالح، ومنافع، لا على استراتيجية وطنية واضحة، وهو ما ضاعف معاناة المختطفين وذويهم، وسمح بتحويل قضيتهم من جريمة إنسانية إلى بند تفاوضي قابل للتأجيل.
 
أقولها بوضوح: لا سلام مع السجون مفتوحة. أي مفاوضات لا تبدأ بالإفراج الفوري وغير المشروط عن المدنيين المختطفين هي مفاوضات بلا قيمة، وأي حديث عن حلول سياسية بينما الآلاف خلف القضبان هو حديث زائف، مهما بدا براقًا. فالحرية ليست ورقة تفاوض، وليست تنازلًا سياسيًا، الحرية حق.
 
أتحدث اليوم عن إبراهيم ساجد وربيع جيلان، عن البيضاني عن امهات تعبت من الزيارات من زالدين توفو ققبببل مشاهدة أبنائهم أبنائهم،وعن مئات غيرهم ممن لا تزال أسماؤهم عالقة بين الجدران، وأمهاتهم عالقات في الانتظار. هؤلاء ليسوا أرقامًا في تقارير، بل وجوه وقصص وأعمار تُستنزف بصمت. السلام الحقيقي لا يبدأ من القاعات المغلقة، بل من فتح أبواب الزنازين، وما عدا ذلك ليس سوى ضجيج سياسي فوق جراح مفتوحة. وهذا ليس نداء استعطاف، بل شهادة… وموقف.
 
أكتب بصفتي صحفيًا، نعم، لكن قبل ذلك بصفتي مختطفًا سابقًا قضى عامًا ونصف العام في سجون جماعة لا تعرف من السياسة إلا الابتزاز، ولا من السلام إلا الشعارات. أتذكر ذلك اليوم كما لو أنه الآن. كان النقل مفاجئًا، مرتبكًا، ومشحونًا بالوهم. أُخرجنا من سجن الأمن والمخابرات، من الأجنحة في الدورين الأول والثاني. مئات المختطفين دفعة واحدة. الوجوه متعبة، لكن العيون تلمع. كان الشعور واحدًا: هذه لحظة الإفراج. كان ذلك في ديسمبر 2018، مع بداية الحديث عن اتفاقيات وتبادل. بعد العشاء وصلت الحافلات. قُيّدت أيدينا، وعُصبت أعيننا بالكامل. لم نكن نرى شيئًا، لكننا كنا نستنشِق صنعاء. هواء صنعاء فقط، بعد سبعة أشهر من الإخفاء القسري في زنزانة رقم (6) في البدروم الشمالي.
 
وصلنا إلى غرف مفروشة، فيها حمام، فيها مساحة للتنفس. كنت مع الأستاذ جمال المشرعي، ومحمد حمران، وربيع جيلان الذي لا يزال حتى اليوم خلف القضبان، والأستاذ الحميدي. فرحتنا كانت صادقة، عفوية، إنسانية. قلنا: شهر واحد ونخرج. شهر واحد فقط. لكن في سجون الحوثيين، الشهر يتمدد، والأمل يُستنزف، والانتظار يتحول إلى أداة تعذيب نفسية.
 
كانوا يأتوننا كل يوم بصحيفة “المسيرة”. يبشروننا بالمفاوضات، ويغذوننا بالأوهام. كنا نقرأ ما بين السطور، نحلل أخبارهم، نعرف تقدم الجيش من ارتباك خطابهم، ونقيس خسائرهم من صراخهم الإعلامي. وحين قال أحد السجناء لأحدهم ساخرًا: “نحسب انتصاراتكم من كثرة شهدائكم”، مُنعنا في اليوم التالي حتى من سماع النشرة.
 
في سجن شملان، التابع للأمن السياسي، عشنا أيامًا قاسية. طائرات تحوم، ضربات تُسمع، تدريبات عسكرية مكثفة، ومختطفون من كل المحافظات. شباب لا يقرأون ولا يكتبون، شيوخ تجاوزوا السبعين، أكاديميون، دكاترة، حفّاظ قرآن. أتذكر الشيخ علي كليب، إيمانًا وصبرًا ومعرفة. هناك، في قلب العتمة، تعلمنا معنى الصبر الحقيقي، ومعنى أن تُسلب منك الحرية فقط لأنك يمني خارج مشروعهم.
 
لكن الصدمة الكبرى لم تكن في السجن… بل في السياسة. حين منحت الأمم المتحدة الحوثيين ضمانات في الحديدة، تراجعوا فورًا، وتنصلوا من اتفاق الإفراج. عندها فهمنا الدرس القاسي: هذه جماعة لا تفي. إذا ضعفت تمارس التقية، وإذا قويت عادت للاختطاف، وللتصريحات الرنانة، وللإنكار الوقح.
 
نُقل المرضى بحجة العلاج، وبقي السجن. أُعدنا مرة أخرى إلى الأمن السياسي. ثم أُفرج عن بعضنا، وبقي كثيرون خلفنا… ولا يزالون حتى اليوم.
 
اليوم، وأنا أتابع مفاوضات مسقط، أقولها بوضوح لا يحتمل التأويل: لا سلام مع السجون مفتوحة. أي مفاوضات لا تضع الإفراج الفوري وغير المشروط عن المختطفين في مقدمة أولوياتها هي مفاوضات بلا شرف سياسي ولا قيمة أخلاقية. وأي جلوس على طاولة واحدة مع متورطين في الانتهاكات هو شرعنة للجريمة، لا طريق للسلام. الحرية ليست بندًا تفاوضيًا. الحرية ليست ورقة ضغط. الحرية حق، سابق على السياسة، وأعلى من كل الصفقات.
 
أتحدث اليوم عن إبراهيم ساجد وربيع جيلان، أبناء محافظة الحديدة، وعن مئات غيرهم ممن ذاقوا أقسى الانتهاكات ولا يزالون. هؤلاء ليسوا أرقامًا في قوائم، ولا “ملفات مؤجلة”، بل أرواح معلّقة، وأعمار تُسرق، وأمهات ينتظرن على أبواب الصبر منذ سنوات.
 
من يعتقد أن هذا الملف يمكن تدويره أو تجميده أو ترحيله، يخطئ التقدير. الظلم المؤجل لا يختفي، بل يتراكم. وكل يوم تأخير يزرع غضبًا لن تنفع معه اتفاقيات ولا بيانات.
 
السلام الحقيقي لا يبدأ من وقف النار فقط، بل من وقف الظلم. ومن لا يجرؤ على إطلاق سراح مدني أعزل، لن ينجح في بناء دولة أو حماية وطن. افتحوا السجون أولًا… ثم تحدثوا عن السلام كما تشاؤون. غير ذلك، فكل حديث عن الحلول ليس سوى ضجيج فوق جراح مفتوحة. وهذا ليس نداء استعطاف، بل شهادة وموقف. وموقف الضحايا لا يُفاوض عليه.