منبر المقاومة ينقل مأساة ثلاث آسر نازحة من مدينة الحديدة فرت من بطش المليشيات الحوثية إلى المخا وموزع - (صور)
- الساحل الغربي - خاص
- 12:00 2020/04/07
المخا، منبر المقاومة – فيصل حسان:
دفعت النزوات القذرة لمليشيات الحوثي، الملايين للنزوح، حيث كان الهرب، الطريقة المثلى للنجاة من شر العصابة الإجرامية، لكن التهجير يعد بمثابة قلع الجذور من أماكن عاشوا فيها سنوات عدة، كما أن الظروف اللاحقة للنزوح كفقدان مصادر الرزق، وخسارة الممتلكات وصعوبة التأقلم مع الحياة الجديدة هو بمثابة فتح فصولا جديدة من المآسي.
بداية 2018 عندما كانت حسينة عبدالله، تنشر ثياب الغسيل في حوش منزلها في منطقة حرض، نجت من طلقة قناص بأعجوبة بعدما أرتطمت بجدار سور يحيط منزلها، وعندما حاولت الإحتماء خلف ذلك السور، تعرضت ﻹطلاق نار ثانية، كان واضحا أن الهدف من ذلك قتلها حتى وإن كانت مدنية ليس لها علاقة بما يجري بقدر ما تبحث بين ركام الحرب عن فرص للعيش كي تبقى على قيد الحياة.
شعرت حسينة بالرعب من حقيقة أن المنزل الذي عاشت فيه سنين طويلة، لم يعد أمناً ولذا قررت النزوح إلى مدينة الحديدة، مع أبنائها وزوجها المعاق، وفي حي الربصة أستأجرت منزلا متواضعا ومكثت به طيلة عام.
في نهاية شهر ديسمبر 2019 شهد حيها ليلة مرعبة، إذ تعرض لقصف مكتثف بقذائف الهاون، كانت مليشيات الحوثي مصدر إطلاق تلك القذائف، والإنفجارات القوية أحدثت إهتزازات في المباني إلى حد شعر السكان وكأنها ستسقط على رؤوسهم.
ساد جو من الهلع، وعاشت الأسرة ليلة مليئة بالرعب، بل لقد شعرت وكأنها في لحظة الإقتراب من الموت، ذلك كان سببا للفرار مرة أخرى.
تقول حسينة لمنبر المقاومة، كأننا خلقنا لنعيش حياة الفرار من قذائف المليشيات، لقد خرجنا من الربصة في جو كئيب، كنا نخشى إعتقالنا في أي لحظة، لكننا تركنا كل أمتعتنا وتفرقنا في سيارات عدة كي لا نلفت أنظار المليشيات حولنا.
ومنذ ثلاثة أشهر تحاول أسرة حسينة في المخا، تدبير مصاريفها اليومية دون جدوى حتى أنها لم تجد مسكنا تأوي إليه وهي إلى اليوم لا تزال في ضيافة أسرة مخاوية.
مأساتها تتطابق إلى حد ما مع مأساة إمرأة أخرى حاولت منع عناصر المليشيات من إقتحام منزلها بإحدى إحياء مدينة الحديدة، كان الهدف من ذلك هو إتخاذ سطح المنزل موقعا لقناص قاتل.
أعتذرت منهم المرأة بأدب، قائلة: لا يجوز دخول بيتي حتى لو كنتم مثل أبنائي لكن حديثها فهم وكأنه إعتراض على ما يقومون به.. كال لها أحدهم السباب والشتائم وهددها بالقتل وأتهمها بالداعشية ومساندة ما أسماه "بالعدوان".
يفهم من تلك التهمة، أرهاب الضحية ودفعها للإستسلام كي يسهل إبتزازها، لكن الحقيقة هي منح أنفسهم رخصة للقتل ذلك أن الداعشية وصمة عار مرادفة لكلمة إرهابي، كما هي كلمة تدل على التحقير لشخص يجوز قتله.
لا أحد يفعل ذلك مع إمرأة، ولا يعرف اليمنيون مثل ذلك السلوك القذر من قبل وهم المتمسكون بقيم دينية وإجتماعية تمنع الإعتداء على المرأة بل تمنحها قدراً من الإحترام والتبجيل.
في لقائنا معها في المخا، ترجت عدم نشر أسمها أو ذكر قصتها كما رفضت إكمال حديثها معنا، كان مبررها، أن المليشيات ستفجر منزلها، قالت وهي تغادر، أن منزلها هو خلاصة عمل زوجها طيلة 33 عاما كعامل في مجال البناء، لقد كان حديثها يفسر حالة الخوف التي تعتري المدنيين من سلوك المليشيات الإجرامية، وهو تفجير المنازل.
وبحسب كثيرا ممن جرب مأساة النزوح فإن المنزل هو الوطن، كان ذلك متطابقا مع ما ذهب إليه نجيب علي يحيى، كان حينها يتوسل تحرير ما تبقى من مناطق البرح غرب تعز ليتمكن من العودة إلى منزله بعد أن دفعته الخشية من الإعتقال للهرب منه.
مأساة نجيب هو أن شقيقه التحق بالقوات المشتركة بعدما شاهد جرائم المليشيات المروعة بحق المدنيين ومن لحظتها بقي الرجل متوجسا من أن يقع في إيدي عصابة الحوثي بتهمة "جريرة شقيقه".
كانت توقعاته صحيحة، إذ لم تمض سوى أيام قليلة حتى بدأ عناصر الحوثي بالبحث عنه، كانوا يسألوا عنه جيرانه وعن مكان عمله وموقع منزله.
تلقى نجيب العامل في بيع القات، عددا لا بأس بها من الرسائل، كانت جميعها تحثه على الهرب، "مليشيات الحوثي تبحث عنك".
يدرك ذلك الرجل حجم المأساة فيما إذا وقع في أيدي العصابات التابعة لإيران، لم يشغل نفسه بالتفكير طويلا بل قرر الهرب، لكنه لا يملك الأموال التي تكفي لنقل كافة أسرته، ولذا ذهب إلى أحد أصدقائه على سبيل الإقتراض، كان ذلك بعد صلات العشاء بداية 2018.
عند ذهابه صادف عنصران يقفان عند ناصية الشارع، كانت نظراتهما تدقق في ملامح وجهه، وكان ذلك كفيلا في جعل فرائصه ترتعد من الخوف، كانت نظراتهم مخيفة وتقدح بالشر وتوحي برغبتهم في إعتقاله.
سارع الخطى وسلك شارعا فرعيا يؤدي الى أحد الأحياء واختفي وسط ظلام المنازل، وعندما أعتقد أنه أبتعد بما فيها الكفاية، نظر للوراء وإذ بالمسلحان يتتبعان خطواته، حاول أن يسرع ويختفي في ظلام الحي وأتخذ طريقا ملتويا إلى أن عاد إلي منزله.
بعد نحو ساعة طلب من شقيقه الأصغر الخروج لشراء وجبة العشاء وعندما عاد ذلك الفتى البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما أخبر شقيقه بوجود ملسحين يقفان في الجهة المقابلة للمنزل.
هي حالة نادرة أن يقف مسلحان مقابل منزل بني حديثا على رابية صغيرة تبعد نسبيا عن أقرب حي وفي منطقة خالية من المساكن، لكن عبدالله أدرك أن الدائرة بدأت تضيق حلقاتها عليه، أنه مطارد وأن ذراع إيران تحاول إلحاق الضرر به.. تمنى حينها أن تحفظه الأقدار إلى اليوم التالي وقد تحققت له أماله.
في وقت مبكر من صبيحة اليوم الثاني فر وعائلته متخذا طريقا تسيطر عليه مليشيا الحوثي إلى أن وصل مشارف حيس وهناك أستوقفت نقطة حوثية السيارة التي يركب بها طلب منه أحدهم إبراز هويته، وبعد سؤاله عن وجهته ولماذا سافر وكم من الأسئلة التي كان يرتبك عند الرد عليها، ولقد كان ذلك كافيا لجعل دمه يتجمد في عروقه، وما زاد من شدة خوفه هو إستغراق ذلك العنصر وقتا في إجراء مكالمة هاتفية، كانت توحي كما لو أنه يبلغ مرؤسيه بوجوده، لقد تأكد له أنه واقعا لا محالة، لكن العنصر المليشاوي أعاد له هويته وسمح للسيارة التي يقلها بالمرور.
وصل إلى حيس ومنها إلى الخوخة ومن ثم إلى المخا لينطلق إلى موزع، المحطة الأخيرة، في رحلة مليئة بالخوف والرهبة من الإعتقال وصوله إلى موزع منحه قدرا من الأمان من غدر مليشيات الحوثي، لكن نجيب الذي ترك كل شيء خلفه، أصبح عاطلا عن العمل وفقيرا ويشعر بالمهانة لعجزه في الحصول على فرصة عمل.
يتمنى العودة إلى حياته السابقة، لكن تربص المليشيات به يجعله يتراجع عن إحلامه.
يقول من الصعب التخلي عن كل شيء إذا يرتبط المنزل بالكرامة.
ورغم حصول يحيى على منزل لا يدفع إيجاره، إلا أن مأساته تلخص، رحلة العذاب التي يعايشها الفارين من بطش المليشيات، إذ ينتقلون من لحظات القلق والخوف إلى لحظات تسوء فيها حياتهم وتنعدم فيها مصدر أرزاقهم ويتحولون بين عشية وضحاها إلى معدمين لا يملكون شيئا.