الـشَّـعب يريد استعادة النظـام

10:54 2025/02/14

تذكِّركَ أيامُ الحاضر بوقائعِ الماضي فنستذكرها للافتخار أوالاعتبار، بحسب طبيعة تلك الذكرى وانعكاساتها. قبل عقدٍ ونصف وفي مثل هذا الشهر ( فبراير ) من العام 2011 نزلَت إلى الشارع القواعدُ الشعبية للمعارضة المناهِضة للنظام الحاكم في اليمن آنذاك ( وبعضٌ من جموعِ الشعب المستقلة) وعَلَت هتافاتُها التي ملأ صداها عددًا من ساحاتِ المدن، وبالأخص ما عُرِف بشارع الستين في العاصمة صنعاء محل أنظار وسائل الإعلام الداعمة لهم، كان مطلبها واحدًا،  كيف لا وقد استقتهُ من فم تكتل المعارضة يومها، ألا وهو ( إسقاط النظام ). 
 
وتلك عبارةٌ في مضمونها اللغوي والقانوني تحمل ما لا يتقبلهُ منطق أو يستسيغه عقل، لكنّ تِردادَها كان سلوكًا انتهجهُ أعمى البصيرة واختطَّ به خُطى أعمى البصر، لتتسارعَ الأحداثُ وتتعاقبَ الأزمنةُ ويخلفهم مِن بعدهم خَلْفٌ استنَّ بسُنّة مَن قبله في إسقاط الأنظمة الشرعية وشَرعنَ لنفسهِ ما شرعنه مَن قبلُه لأنفسهم بالأمس القريب، لنصل إلى النهاية التراجيدية المحتومة، المتمثلة في سقوط مركب الوطن بكلِّ مَن على ظهره في الهاوية. 
 
في الحقيقة كان النظامُ يومها قوياً، ولم يكن لِيتدَاعى لمثل تلك الدعوات أمام الجُدُر المتينة لمقومات بقائه وفق معطيات القوة حينها، فالنظام عسكرياً وشعبياً ومادياً وقبلياً وإقليمياً لا زال له وزنه وثِقلُه، لولا تماهيهِ هو مع تلك الرغبة في التغيير - لكن وفقاً لمضمون المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية القائمة على الصلح بين النظام والمعارضة باسترضاء كليهما تحت قاعدة الشراكة والمناصفة - تجنبًا للوقوع في السيناريو الأسوأ لا قدَّر اللَّه، وذلك اجتهادٌ في ظاهرهِ يُحسب له، إلا أنَّ التَّنصل مِن الالتزام التام بحرفية بنود المبادرة وآليتها، وكذا مستجدات أحداث سبتمبر 2014، كانتا وقوداً مسرِّعًا لولوجِ البلاد في ويلات ما وقعت فيه اليوم، من محظور هدم الدولة وتآكل سيادتها وانهيار استقرارها وما لحقَ ذلك من تَبِعاتٍ سلبيةٍ لم تُحمد عُقباها في كل المجالات والأصعدة. 
 
إنَّه لمن نافلةِ القول، التأكيد على أن جموعًا كثيرةً عادت اليوم إلى رُشدها وأخذت درسًا قاسيًا، دفع الوطن والشعب كلاهما ثمنًا باهضاً لاستيعابه، فقد بات الجميع يعلم ضريبة التحرك لإسقاط النظام في بلد مستقرٍ، لكنها كانت تجربةً، ما كان للبعض أن يستوعب كارثية آثارها لو لم يَخُض غمارها ويَذُقْ ويلات ومرارة انعكاساتها الأليمة التي للأسف لا زلنا جميعًا ندفع فاتورتها، وما حالنا اليوم الذي يُرثى له إلا بعضٌ من تبعات عبارة إسقاط النظام التي استسهلناها نطقاً وفعلاً.  
 
ربما يشفعُ لبعض الشباب براءتهُ في عملية التقليد التي انتهجها في خوض تلك التجربة، لكنّ تلك الشفاعة، بالطبع، محجوبةٌ عن سَاسة القوم والطبقة الحصيفة المثقفة والنُّخَب السياسية التي لديها قراءاتها الخاصة، ليس رجماً منها بالغيب، إنما بما تملكه من قُدُرات تمكِّنها بيُسرٍ من استقراء الواقع وافتراضها لمآلات الأمور ومصائرها، ومع ذلك شجَّعت ذلك المَسلك وحفَّزت إليه ودعمته بكل ما أُتيح لها، يدفعها لذلك إما سُوءُ تقديرها (إن فعَّلنا خاصية حسن الظن بهم لاعتبارات توحيد الصف) أو غريزة الانتقام. 
 
إنّ ما تمرُّ به البلادُ اليوم من تمزّق وشتاتٍ وعدم استقرار وما تولد عن ذلك من تناحرات وأوجاعٍ عمت البقاع شمالاً وجنوباً، وانعكاسات ذلك على معايش الناس التي أدت لاستلاب مقومات حياتهم من مرتبات وصحةٍ وكهرباء وخدمات أخرى لا غنى عنها لخلق بيئة العيش الآمن الذي كانوا يحظون به قديماً، يجعلهم يتوقون وبقوة لما كانوا يرتعون فيه من قبل، ويستبدلون أمنيةً كانت مختزلةً في يافطة إسقاط النظام، بأمنيةٍ أخرى يمكن اختزالها اليوم من تداعيات الواقع المُعاش في يافطة: "الشعب يريد استعادة النظام".  
 
ولا نعني باستعادة النظام عودة شُخوصِه، إنما استعادة نمط مؤسسات الدولة وهيبتها وآلية استمرارها واستقرارها وسُبُل إدارتها لتوفير مقومات العيش الكريم وكافة الخدمات الحياتية لمواطنيها، بالطبع مع تنقيتها من الشوائب المصاحبة. ومن المفارقات أنّ تلك الآمال أضحت اليوم بعيدةَ المنال وبِـتنا نستجدي تحقيقها ولو في حدودها الدنيا، وذاك مدعاةٌ للأسف والتحسُّر، تحد منه اعتبارات ظروفَ المرحلة الراهنة التي أخفضت ذلك السقف العالي، والعالي جداً، من الطموحات التي كانت مطروحةً ذات يوم على طاولة النظام القديم في مبادراته مع خصومه للعمل على تحقيقها، لولا انحراف تلك التطلعات لتصل حدَّ الغلو والتعنت ممن كانت لديهم فرصة تاريخية يومها لإصلاح النظام لكنهم أضاعوها.
 
لسنا هنا اليوم في معرِض العتَب والعتاب وإلقاء اللوم، إنما هي ذكرى مرَّت فاستذكرنا من خلالها ما كان، وما آل وضعنا إليه، ردًّا على ثلةٍ نراها تمجِّدها وتقدِّسها بطريقة استفزازية دونَ اكتراث لضحاياها، وهم كُثُر ، وهل من عاقلٍ يمجِّد اليوم الذي كان نقطةَ البداية لمرحلة السقوط في غَيابةِ الحياة البائسة، ثم راح عَقِبهُ خمسةَ عشرَ عامًا يلهث لاسترداد جزءٍ من جماليات الحياة السائدة قبله ؟ 
 
ختاماً سيتحققُ ما يأملهُ اليمنييون عاجلاً أم آجلاً، ما دام وسقف ذلك الأمل محكومًا بالعقلانية والمنطق لا الطيش والغُلو، إن توحدت الجهود وارتصَّت الصفوفُ وصدقت النوايا وصَفَت القلوب، ووُسِّدَ الأمرُ لأهله، وجَعلنَـا من المعاناة المُحدقة بنا في كل تفاصيل حياتنا دافعًا كبيرًا لتغيير مأساوية الواقع واستعادة ما سُلِب، فـ "اللَّه لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" .