لا يزال باب ذلك المخزن الصغير بين عيني، هناك كان عمي يضع العطر البخاخ والريفدور وقلاصات وفناجين لا تستخدم إلا عندما يأتي ضيوف كبار لزيارة الوالد عندما يأتي من المفاليس أو تعز... وفي المخزن يضع بضعة قوارير من شراب "الستيم الأصفر" الذي كان يأتي به محملا على حمارنا الجميل من المصلى حيث غنى أو كتب سعيد الشيباني يا نجم يا سامر....

 

عبد القوي بجاش ظل طوال حياته إنسانا معجونا بالطين، بالعدة بالمحراث بالثور، ذهب بالبقرة مصدر الخير.... بخضرة الحشيش وزرقة السماء من حيث يأتي المطر فتسقى أحواله، يبكر مع الطيور يباشر الأرض... ترى على وجهه علائم الراحة بموسم جيد بكون ناتجه اقداح من ذرة وغرب ودخن... وأنا صغير كان يدفنها في قاع الطابق الأول من الديوان ترى الراحة ترتسم على محياه فقد كان الموسم خيرا....

 

لا يزال صوت "المعلجة" حق باب الدار، اسمعها عند تباشير الغبش والزنينة تستقبل فجر الله، أعرف أن عمي عبد القوي خرج ملفوفا بردائه الأبيض يستكب إلى وادي "الجنات" يتلمس ما فعلته مطرة الليلة الفائتة، ويتحسس طينه اللين بفعل غيث الله...

 

يعود وقد عادت جدتي وانجزت عمتي فطور الصباح وعمتي الاخرى قد عادت من الحول حيث كانت تطعم، وعمتي الثالثة من بير الماء والدنيا غبش، ترانا جميعا نتحلق حول مائدة مطرزة بأقراص البر الملوح واكواب الشاهي العدني عصب والا...

 

تجلس إلى عمي عبد القوي، تراه لا يفارق عصاه "باكورته"، فقط تلمس بداية أي حكاية، تراه يتدفق كالسيل، يحدثك عن عدن، عن طريق المفاليس وخبت الرجاع والسبت ولحج وصولا إلى البحر على سيارة محمد حسن واصحاب الاحكوم اصحابه... يحدثك عن صاحبه محمد صوفان ويحيى صوفان وعلي عثرب بحميمية كرم ليس لها نهاية..

 

عندما قدم ذات مرة إلى صنعاء، ذهبت به إلى مستشفى الكويت، هناك لمحت العم محمد صوفان وكان يلبس المشدة بطريقة عمي عبد القوي، وكلاهما محمر الوجه، قلت سأختبر ذاكرتيهما، قلت: يا عم من ذلك الواقف هناك؟ فورا ضحك: صاحبي محمد صوفان، اقتربنا، القيت بالتحية على العم محمد وقلت: تعرف هذا؟ صاح بصوت عال: عبد القوي، الله المستعان، كان صوفان وفيا، مسكه من يده، قال: رح لك يا ابن عمي قاسم، عبد القوي ضيفي ثلاثة أيام، فتركتهما.....، ذهبت به إلى علي عثرب وكان وزيرا للداخلية، رحمهم الله جميعا، فقام من مكتبه ليحتضنه ويردد: الله الله الله....

زمن رجال كبار اوفياء..

 

ظل عمي وفيا للأرض، للقيم الجميلة، للمطر، للبويرق، للأحوال والشعاب... للأشجار والشجيرات، للزرع يرى كل زراعي احد اولاده....

 

ظل ذلك الديوان الأثير ميدان حركته يستقبل به الناس بطريقة عبد القوي بجاش...

 

وعندما تحول الزمن وترك الناس ارضهم وذهبوا إلى المدن، لم يترك، ظل وفيا لها، إلى جانب الحياة التي أسست زمنا جميلا...

 

ظلت ذاكرته حية، وجهه يبتسم للجميع ذهابا وايابا...

تعب عندما لم يجد من يشاركه حب الطين والاثوار والمضمد... لكنه لم يترك فضاء الله....

 

وعندما تجلس اليه تجده خبيرا في اسرار المواسم المطيرة... يحدثك عن تفاصيل التفاصيل، وعن التربة حيث الحكومة يتدفق كالسيل، يحدثك عن حسين الجنداري، والحلالي وتفاصيل حياة مدهشة برغم قسوتها...

 

وكلما تقدم به العمر ظهر نشيطا أكثر، تراه ينهب الطرق بقدميه، ظل لصيقا بالارض لا يفارقها....

 

رفيق الطريق العم عبد الولي كل يوم ينتظره على قارعتها، فتراهم يوميا يذهبان ويعودان...

 

عمي لم يذق القات يوما ولم يدخن وبالمطلق، ظلت صحته طيبة طول عمره.. لكنه العمر، ولكل اجل كتاب....

 

القرية ستفتقده، والقيم الجميلة السامية هي الأخرى تفقد رجلا طالما ظل بقيمه كبيرا....

 

ستفتقده الطريق من بداية حول "الأسابيل" حتى "الجنادة"، سيفتقده الرجال الكبار بقيمهم الجميلة حيث لم يكن صغيرا على الاطلاق، لم يكن يهتم للسفاسف الصغيرة ولا لأصحابها...

 

ظل محترما، في بيته، في سلوكه، في علاقته بالناس...

أنا أخسر.. فأمثاله أبكيهم... ابكي الفقيه علي نعمان، محمد نعمان، احمد نعمان، هزاع مهيوب، عبد الله مهيوب، والد عبد الله السيد، حمود عبد الجبار ومنصور وعبد العزيز، احمد نعمان الوجد، ناجي الحداد، العسر، محمد عبد الله اسماعيل، الطويل، جدتي نعمة، يسر وناعمة، قاسم مهيوب، صاحبي امين، الفقيه محمد طربوش، محور الكون قاسم اسماعيل، محور الكون الآخر العم عبد الواسع، من كان يذري الخير وراء اثواره عبد الرحمن عبد القادر، احمد علي وعبد الحميد ومحمد حاجب...

أطال الله في عمر العم درهم والعم عبد الولي الذي ستسأله الطريق عن رفيقه...

 

سلام الله على روحك عمي شقيق والدي عبد القوي بجاش...

سلام على ارواح من ذهبوا وتركونا لهذا الزمن الصغير جدا...

سلام على روح عمتي شريفة وجدتي نعمة وعمتي غاية...

سلام على ربوع قريتي التي كانت يوما زاخرة بجواهرها ولآليها...

 

سلام على روح الرز قاسم صالح صاحب عمي وأهلي من زين صباحات أعيادنا بالفرح...

 

* صفحته على الفيس بوك