عن الظهر الأخير وآخر الأصدقاء..عن عارف الزوكا

  • كتب/ ماجد زايد*
  • 09:51 2020/12/02

لا أحد صنع ما خلده هذا الرجل في تاريخه، ولا أحد سيفعل ذلك، كيف لسياسي أن يموت كـظهر أخير عن قناعته..؟!
 
على أطراف عمران، المحافظة الأقرب إلى صنعاء، قُتل القشيبي.. القائد العسكري المعروف، وأحد الحواجز العنيدة في طريق صنعاء والسلطة، كان قائدًا عسكريًا لم يتخل عن شرفه العسكري وبزته المزينة بملامح الدولة، كان القشيبي يقاتل بعكازته وشرفه ولا يلتفت، يقاتل فقط بلا ظهر ولا إمداد ولا رفيق يحمي حياته، قُتل يومها وحيدًا عاجزًا، ودولته الكبيرة على بُعد أمتار منه، لكنها قد تركته ليواجه مصيره ومعركته الأخيرة، في ساعته الحاسمة تلك لم يترك المكان والمعركة، ولم يفكر بالنجاة بنفسه كما فعل الآخرون، قتل بالفعل، لكنه لم يقبل بالهزيمة..! كان رفقاؤه بالسلاح قد تخلوا عنه، وحسموا أمرهم في قبول الهزيمة، وقبلها بسنوات كانوا قد خانوا يمينهم وقسمهم بجواره، لكنه على الأقل لم يعش مشردًا مهزومًا في مهانة الغربة والأوطان البعيدة..! 
 
قُتل القشيبي وحيدًا بغصة لا يعلمها سواه..! 
قتل وهو يرثي كل شيء عن رفاقه الذين لم يبق منهم أحد..! 
 
 
بعدها بسنوات تغيرت المعطيات، وتوسعت الحرب، وهرب كل من تركوه في مكانه.. ويوماً إلى يوم اشتعلت معركة أكبر وأكبر، كانت المدينة تتهيأ لحرب لا تبقي على ظهرها أحداً، أعد الجميع فيها عدتهم، وتمترس الجميع على بعضهم بنية النهاية، وتقدم الأولون والآخرون، ونشرت الأخبار كل شيء عن الساعات القادمة.. في هذه الساعات كان هناك رجل جاء من قرية بعيدة، رجل يحمل بندقية وجعبة ويغطي وجهه ويقاتل جنبًا إلى جنب مع صديقه، رجل جاء من قرية لها رائحة سيف بن ذي يزن.. 
 
 
كان هذا الرجل هو عارف الزوكا، ابن الجنوب اليمني وأمين عام الموتمر الشعبي العام، كان خلال العامين الأخيرين من حياته يقف بجوار صالح كظله وحياته وعقيدته المرتبطة بالبقاء والمصير، كان لا يفارفه ولا يتركه، ولا يرتب وضعه الخاص في مكان بعيد، كان أحد أبرز ديناموهات وأضواء السياسة خلال العامين الأخيرين قبل الحرب.. 
 
 
عارف الزوكا، الكاريزما والبساطة ورجل خطابات القانون والدستور، وأحد رجالات صالح المستقبليين في السياسة، كان نقيضًا بعيدًا لشخصية الرئيس الجنوبي الضعيف، وشكلًا آخرَ عن السياسة في كيفية صناعة رجالاتها، كان بطلًا قادمًا من ساحات الحركة الحزبية والتنظيم السياسي البعيد تمامًا عن الدين والحديث بالدين، وفي المقابل كان الرجل وفيًا شجاعًا لا يعرف البرجماتيا وتناقض المصالح، يومها خطب في جمع كبير من الناس ليقول، هكذا نحن، لا نريد المصالح والمناصب والثروات، نريد الوطن والقانون والدستور، ومن سيأتي ليحققها حقًا سنكون خلفه..! لكن الزوكا خلق للمقدمة فقط، لا يكون البعض من الرجال في الخلف، هذا قدر العالم في تفاصيل بعض الأمور المعقدة، الأمور التي يعجز الأغنياء والأثرياء وأبناء السلطة عن تجسيدها في أنفسهم، لكنهم يهربون ويستسلمون مع أول اهتزازات الزمان والمكان حولهم، لا يمكن لأحد أن يكون رجلًا كـ الزوكا، الجميع يعرف هذا، ولا يمكن للزوكا أن يكون في المؤخرة، هذا ما أدركه صالح فيه، وما يعرفه عنه من يخافونه فعلًا.. وما هي الاّ بضعة أعوام ليصبح الرجل الأول في السياسة خلال عامين، ودينامو المؤتمر التنظيمي والحزبي والفعالياتي، كان لا يتوقف، وفي كل الأماكن ستجدونه لا يسكت، وفي حضرة صالح يكون سندًا وظهرًا وعكازةً يحتاجها الرفيق في المنصات، كان رجلًا نادرًا في الشدائد والأحداث، وآخر الأصدقاء الأوفياء في عالم التناقضات..!
 
 
شخصيًا، تابعت معظم خطاباته، كان يكرر عدة كلمات لا يتجاوزها كثيرًا، كأنها إيمانه وهويته السياسية، القانون، الدستور، الحزب الزعيم الرمز، ضرورة الرمز، الوفاء والنضال، التعايش والحفاظ على الدولة.. وفي كل مرة يكرر ويقول: لو قدموا لنا كنوز هذا العالم لنخون هذا الوطن والشعب ما فعلنا ولن نفعل، ما قيمة الحياة بلا مبادئ ولا قيم ولا شرف ولا رجولة..!
 
ذات مرة تحدث في مقابلة تلفزيونية عن أحقية صالح في جائزة نوبل، قالها بثقة: هذا الرجل ترك السلطة بسلام.. أليس كذلك..؟! تركها بإرادته، ومعها ترك الجيش والتلفزيون وكل شيء، تركها لتجنيب البلاد الحرب المطلة برأسها، من يفعل ذلك..؟! ومن فعل ذلك في الأصل..؟! لا أحد صدقني، لو كان هناك شرف لنوبل لكان صالح أحد رموزها، لكنها ترتيبات خارجية ليس للوطن فيها ذرة واحدة من قرار..! 
 
 
بعدها ذهب ليمارس السياسة، كان شعلة من نشاط يضاء بها ظلام المدينة، رجل نزيه في أشد الفترات السوداء قتامة على اليمن، لكنها الأحداث والتنازعات والخوف من الأضواء القادمة ما أودت بحياته أيضًا، في تلك الليلة القاتمة من السواد والفراغ انفجرت الحرب، وتغيرت المعطيات على الأرض، وغادر الكثير من الناس لبيوتهم، منهم من بقي مختبئًا ومنهم من فر إلى بعيد، ومنهم من ظل يراقب ليرى لمن ستكون الكفة الأخيرة، إلاّ عارف الزوكا بقي في مكانه وإيمانه، ظهرًا وسندًا وبندقية تشبه الظهر لا تخون صاحبها، كان بوسعه الحفاظ على مستقبله ومكانته وكل شيء، كان بمقدوره الفرار مع الفجر، وفي النهار، مع الضوء، وفي الظلام، كان يستطيع أن يخرج ملوحًا بسلام وأمان، كان يستطيع ويستطيع ويستطيع لكنه لا يستطيع الخيانة، لا يمكنه الحياة بعدها، لا يمكنه العيش بلا ضمير ورجولة، كيف يعيش الرجل وضميره ساقط قديم..؟! هكذا قال ذات مرة.. 
 
 
بقي عارف الزوكا بجوار صالح مع بندقيته ووفائه وصداقته، وقبيلته تلوح بحياته إذا قتل، جاءت ولأجله الوساطات والأمان، لم يكونوا يعرفون الرجل في ساعته الحقيقية، رفض كل شيء وبقي مع رفيقه، يمنيًّا بطلًا لا يخاف ولا يهرب، ولا يترجى العفو والمسامحة، قتل كـرجل حقيقي، كـسياسي لا يتخلى عن عقيدته السياسية وعن روحه المقدمة قربانًا للوفاء والقناعة.. 
 
لا أحد صنع ما خلده هذا الرجل في تاريخه، ولا أحد سيفعل ذلك، كيف لسياسي أن يموت كـظهر أخير عن قناعته..؟! هذا لم يحدث، ولن يحدث، وربما لا يعلم بمقدار هذا الخلود أولئك الكارهون لمجرد السياسة، في هذا المقام سأنحني أيضًا لعدويّ الذي ظل واقفًا يقاتل الموت أمامي لكنه بقي بـإباء وشرف، هؤلاء قليلون، وربما لا يتكررون في الدهر مرة، لكنه الزوكا من بقى في ذاكرتنا كحكاية وفاء لا تنتهي، كخلود أبدي عن الصدق والرجولة والرفيق الأخير.. 
 
هذا ليس سردًا سياسيًا لكسب الود السياسي، كلا، هذا ضمير وسرد صريح عن الضمير، هو حكاية عابرة عن شخص غير عابر في عالم الحكايات الأسطورية..!
 
كل الحب والخلود..
 
#فيسبوك

ذات صلة