جريمة الطبيبة وفاء المخلافي.. السلطات كقاتلٍ بالوكالة (تقرير)
صنعاء، الساحل الغربي:
12:14 2025/11/02
لم تكن حادثة مقتل الطبيبة وفاء المخلافي مجرد جريمة جنائية تُضاف إلى سجل طويل من الانفلات الأمني في صنعاء، لكنها بدت في معناها الأعمق، انعكاساً مأساوياً لانهيار مفهوم السلطات ذاتها، حين تتحول أدوات الحماية إلى أدوات تهديد، حين يتحول العنف من استثناءٍ إلى لغةٍ يومية تمارس بها السلطة حضورها.. ففي تلك اللحظة التي أُزهقت فيها روح طبيبةٍ يمنية شابة، لم يكن الرصاص مجرد أداة قتل، بل إعلاناً صريحاً عن غياب العقد الاجتماعي، عن تلك المسافة الحرجة بين الدولة والعصابة التي انمحى فيها الفارق، حتى غدا القاتل يرتدي بزة الأمن، ويتحصن بشرعية الشعار الذي يرفع اسم الدولة لا مضمونها.
كانت وفاء المخلافي، ذات الخمسة والثلاثين عاماً، عائدةً من زيارةٍ عائلية في شملان، حين توقفت في محل صرافة لاستلام حوالة مالية، ثم وجدت نفسها مطاردة من قبل مسلحين، في مشهدٍ تتقاطع فيه تفاصيل الحياة اليومية مع رعب الدولة المتوحشة.. قاومت، فرّت، احتمت بأزقة حي النهضة، لكنها سقطت مضرجةً بدمها، بعد أن لاحقها الجناة حتى داخل الحي السكني.
قال جميل الحاج - أحد أقارب الضحية، إن أسرتها بدأت البحث عنها بعد غروب الشمس عندما تأخرت عن العودة ولم ترد على الاتصالات، ليعثروا عليها لاحقاً مقتولة داخل مركبتها في الطريق الذي اعتادت سلكه، ليتم إبلاغ الأجهزة الأمنية الخاضعة للحوثيين فوراً.
كل شيء كان واضحاً حتى تدخّلت الرواية الرسمية الحوثية، لا لتكشف الحقيقة، ولكن لتطمسها، وكأنّ الجريمة في صورتها الأولى لم تكن كافية.
فبينما أكدت مصادر حقوقية أن القاتل، المدعو عصام العقيدة، عنصر يتبع "شرطة النجدة" الحوثية، وله سجل سابق في الحرابة والتقطع ونهب المواطنين، خرجت وزارة الداخلية التابعة للجماعة ببيانٍ يغير الزمن والمكان والفاعل في آنٍ واحد: الجريمة وقعت يوم الجمعة لا الخميس، والقاتل "من سكان الحي" لا من رجال الأمن.. فقد صار البيان ذاته شريكاً وامتداداً للجريمة، لا نافياً لها، إذ لا يقتل الجاني وحده الضحية، بل تشارك المؤسسة في قتل الحقيقة.
إن هذا التضارب ليس مجرد خللٍ إداري أو سوء تنسيقٍ إعلامي، بل هو تعبير عن انهيار العلاقة بين الحقيقة والسلطات.. ففي الدول التي تفقد بوصلتها الأخلاقية، لا تُستخدم البيانات الرسمية لتوضيح الوقائع، بل لتبريرها، ولا تُكتب التقارير لطمأنة الناس، بل لتعويدهم على غياب الطمأنينة.. هكذا يتحول "الأمن" إلى ممارسة رمزية للسيطرة لا للأمان، ويصبح معنى الدولة، أو ما تبقى منها، مجرد غطاء قانوني للعنف المنفلت.
في واقع كهذا، لا يكون المواطن في مواجهة "الخارجين عن القانون"، لأن الخارجين عن القانون أصبحوا هم القائمين عليه.. فحين تُختطف الصحافة باسم "الاستخبارات"، ويُقتل المدنيين على يد "النجدة"، وتُصادر العدالة باسم "القضاء"، تتآكل الحدود بين الشرعي واللاقانوني حتى لا يبقى سوى منطق القوة والغلبه.. فعندها لا يعود المواطن يرى الدولة إلا كوجهٍ آخر للخطر نفسه، وعندها لا يعود الفرق بين المجرم ورجل الأمن سوى في الزي الرسمي، ولا بين العصابة والمؤسسة سوى في ختم الدولة على الورق.
إن ما يثير القلق ليس الجريمة في حد ذاتها، بل ما يتلوها من محاولات تطبيعها عبر بياناتٍ مموهة تتحدث عن "ضبط الجناة" دون الإفصاح عن دوافعهم أو عن علاقتهم بالأجهزة الأمنية.. فحين تصبح اللغة الرسمية مبهمة عمداً، تُختزل العدالة إلى إجراءٍ شكلي يُمارس لتسكين الغضب لا لتحقيق الحقيقة.. وهذا الصمت المخزي لا يحمي الأمن بل يشرعن الخوف، ولا يصون المؤسسات بل يبرر انهيارها، لأن السلطة التي تتواطأ مع الكذب تفقد شرعيتها الرمزية حتى وإن احتفظت ببناها المادية.
ردود الفعل الغاضبة التي اجتاحت الرأي العام لم تكن محض انفعالٍ عاطفي، بقدر ما كانت في جوهرها احتجاجاً على اختلال المعنى: كيف يمكن لمؤسسة الأمن أن تقتل من يفترض أن تحميهم؟ وكيف يمكن للسلطة أن تتحدث باسم الدولة وهي تُمارس نقيضها؟ المطالب التي صدرت من حقوقيين ومحامين وناشطين كانت –في جوهرها– صرخة لاستعادة فكرة العدالة المستقلة، لا مجرد المطالبة بفتح تحقيقٍ ما.. لكن تلك الصرخة اصطدمت بجدار التواطؤ، لأن النظام المفروض والقائم "بطبيعته" لا يستطيع التحقيق في ذاته دون أن يدين وجوده.
ولعل أخطر ما في هذه الجريمة ليس تفاصيلها، لكن في ما تكشفه من بنيةٍ أعمق: إن ما تُسمى "السلطات" في صنعاء تعيش تناقضها البنيوي بين الشكل المؤسسي والمضمون الميليشياوي، بين الزي الرسمي والسلوك العصابي، فيتحول رجل الأمن إلى حاملٍ مزدوج للرمزين: رمز الدولة ورمز العصابة في الوقت ذاته.. وهنا يكمن التهديد الحقيقي، لأن المجتمع يفقد مرجعيته، ويصبح الخوف هو النظام الوحيد الذي يشتغل بثبات.
وفاء المخلافي ضحية نظامٍ جعل الجريمة سياسة، وجعل من القتل والترهيب اليومي نوعاً من الاستقرار.. إنها رمز لانكسار العلاقة بين المواطن والسلطات، حين لم تعد الدولة تعني الحماية بل الإيذاء، ولم تعد العدالة مطلباً بل حلماً.
وإذا كانت الأنظمة تُقاس بقدرتها على حفظ حياة مواطنيها، فإن ما حدث في صنعاء يُظهر دولةً تقتل مواطنيها بالوكالة، ثم تُصدر بياناً لتشرح كيف قُتلتهم بطريقةٍ قانونية.
قد تُغلق القضية كما أُغلقت عشرات قبلها، لكن الذاكرة الاجتماعية لن تُغلق.. فالناس "حتى في صمتهم" يحتفظون بما هو أخطر من الغضب: الوعي بأن القاتل يرتدي بزة الدولة.. ومن هنا تبدأ المسافة بين النظام والمجتمع، وبين الشرعية والعصابة، بين الدولة كفكرة والدولة كمليشيا ترفع شعارها.
مقتل وفاء المخلافي مرآة تعكس الحقيقة المرة: أن صنعاء، في ظل سلطةٍ كهذه، لا تعيش غياب الدولة فقط، بل تعيش انتحالها المرعب.. فالقاتل يلوح بشعار السلطات، والوزارة تصوغ البيان، والناس يشيعون الثقة كل يوم مع ضحاياهم.. تلك هي الإمامة الجديدة في ثوبها الأمني، حين تصبح الدولة نفسها أداةً في يد من قتل معناها.