خيارات الحوثي بعد اتفاق غزة: بين خدمة المشاريع الإيرانية و هل انتهى زمن الوكلاء الحوثيين؟

  • الساحل الغربي، أ.د. عبدالوهاب العوج:
  • 09:33 2025/10/09

بعد إعلان الأطراف قبول خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى، وتحديدا الاجتماعات التي بدأت قبل أيام في شرم الشيخ بجمهورية مصر العربية وهي مستمرة حتى الآن، بدا المشهد الإقليمي وكأنه يدخل مرحلة إعادة ترتيب واسعة تتجاوز حدود القطاع المحاصر. غير أن التصريح المفاجئ لترامب، بأن خطة السلام الجديدة «تتجاوز غزة لتشمل إيران»، فتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول مصير الوكلاء الإقليميين الذين شكّلوا لسنوات أذرع طهران الممتدة في المنطقة، وفي مقدمتهم مليشيا الحوثي في اليمن، التي وجدت نفسها فجأة خارج دائرة الضوء بعد أن كانت تُستخدم كورقة ضغط سياسية وعسكرية في المساومات الكبرى.
 
منذ بداية التصعيد في غزة، حاول الحوثيون تقديم أنفسهم كجزء من «محور المقاومة»، واعتبروا هجماتهم في البحر الأحمر والخليج العربي استجابة «شرعية» لمعركة الأمة مع إسرائيل، لكن التطورات الأخيرة أظهرت أن الميدان تغيّر، وأن اللعبة لم تعد تدور حول الشعارات، بل حول من يملك القدرة على التأثير في ميزان الأمن الإقليمي، ومع دخول مصر مجددًا إلى واجهة التفاوض من بوابة شرم الشيخ وما يحدث هناك، بدا أن الدور الإيراني ذاته يخضع للمراجعة في ضوء ما وصفه ترامب بـ«الصفقة الكبرى مع طهران»، وهي الصفقة التي قد تُفرغ الكثير من الوكلاء من مضمونهم الاستراتيجي إذا تم تثبيت تفاهم أمريكي – إيراني جديد مما يلزم الحرس الثوري الإيراني بلجم مليشياتها الحوثية.
 
بالنسبة للحوثي، فإن المشهد الجديد يضعه أمام خيارات محدودة ومعقدة، فإيران التي كانت توفر له الحماية السياسية والغطاء العسكري قد تُضطر إلى تخفيض مستوى دعمها العلني إذا أرادت تجنب أي تصعيد مع واشنطن أو حلفائها، بينما لا يستطيع الحوثي أن يتحرك بحرية خارج إرادة طهران لأنه بنيويًا جزء من مشروعها الإقليمي، ومن ثم فإن أول رد فعل متوقع هو التصعيد البحري المتقطع لإبقاء صورته كذراع فاعلة في المواجهة، دون الوصول إلى حدّ يحرج إيران أو يعطل مسار التفاهم الدولي الجديد.
 
في المقابل، ثمة احتمال آخر يتمثل في لجوء الحوثيين إلى المناورة السياسية، بالحديث عن «حل وطني يمني شامل» ومحاولة فتح قنوات تواصل خلفية مع أطراف عربية، وخاصة سلطنة عمان أو مصر أو حتى قطر، في محاولة لتقديم أنفسهم كقوة أمر واقع يمكن التفاهم معها، وهو تكتيك يشبه إلى حدّ بعيد ما فعله «حزب الله» بعد حرب 2006 حين سعى إلى ترميم صورته السياسية داخليًا بالتوازي مع بقائه العسكري ضمن مشروع إيران الإقليمي، ومع ذلك، يبقى الفارق الجوهري أن حزب الله كان جزءًا من منظومة لبنانية فيها توازن داخلي هش يسمح بالتعايش، بينما الحوثيون يسيطرون بالقوة على العاصمة صنعاء دون شرعية سياسية أو اجتماعية جامعة وكذلك على موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى بعد كارثة ونكبة اتفاق ستوكهولم الذي مكنهم من استهداف السفن التجارية والممرات البحرية الدولية، مما يجعل مسارهم نحو الاعتراف أصعب بكثير من ذي قبل اتفاق استوكهولم الكارثي.
 
وتاريخيًا، حين تدخل إيران في مفاوضات كبرى، فإن أولى ضحاياها هم الوكلاء الصغار، فقد حدث ذلك في العراق حين تم تهميش بعض الفصائل الشيعية المسلحة بعد تفاهمات طهران مع واشنطن عام 2015، وحدث في سوريا بعد اتفاق مناطق خفض التصعيد في أستانة حين تم استبعاد ميليشيات ثانوية من المشهد الميداني، واليوم قد يتكرر المشهد في اليمن إذا قررت طهران تقديم الحوثي كورقة تهدئة مقابل مكاسب أكبر في الملف النووي أو في إعادة دمجها في الاقتصاد العالمي.
 
و لابد من ايضاح دور مصر في الوساطة الإقليمية حيث
تُعد مصر واحدة من أبرز اللاعبين في الوساطة الإقليمية بالشرق الأوسط، مستفيدة من موقعها الجيوسياسي الاستراتيجي، وتاريخها الطويل في حل النزاعات، وعلاقاتها المتوازنة مع القوى الإقليمية والدولية، منذ معاهدة كامب ديفيد عام 1979، التي أنهت الصراع بين مصر وإسرائيل، أصبحت القاهرة "قلب الوساطة" في المنطقة، حيث ساهمت في اتفاقيات سلام وتهدئة في فلسطين، اليمن، ليبيا، وسوريا، ففي السنوات الأخيرة، يبرز دورها بشكل خاص في اتفاق غزة، الذي يُعيد تعزيز مكانتها كقوة إقليمية محورية، وسط تحذيراتها من "حزام النار" الذي يحيط بها، بما في ذلك النزاعات في غزة، اليمن، والسودان، 
فالدور التاريخي والاستراتيجي
في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي: مصر لعبت دوراً حاسماً في اتفاقيات أوسلو (1993) وتهدئات سابقة في غزة، مثل اتفاق نوفمبر 2012، كما استضافت مفاوضات في القاهرة لإدخال المساعدات الإنسانية، وأكدت رفضها لأي تهجير قسري للفلسطينيين، مما يعكس التزامها بأمن حدودها الشرقية، في 2025-2023، حيث أشادت الولايات المتحدة بدورها في اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، الذي شمل تبادل الأسرى وانسحاباً جزئياً للقوات الإسرائيلية، و
في اليمن شاركت مصر ضمن اللجنة الرباعية (مع الولايات المتحدة، السعودية، والإمارات) لدعم السلام، ودعت إلى ربط وقف إطلاق النار في غزة بتجديد الجهود في اليمن كـ"محفز محتمل" للاستقرار الإقليمي، كما حذرت من تداعيات النزاع اليمني على أمن البحر الأحمر وخليج عدن، الذي يؤثر مباشرة على قناة السويس.
في ليبيا وسوريا، ففي ليبيا، ساهمت مصر في دعم الحكومة الشرعية ووساطة بين الفصائل، بينما في سوريا، ركزت على جهود إعادة الإعمار ودعم العودة الآمنة للاجئين، مستضيفة أكثر من خمسة ملايين لاجئ إقليمي من سوريا و السودان  وغيرها من مناطق الصراع في الشرق الأوسط دون احتجازهم في معسكرات.
الدور الحالي في 2025-2024 و نجاح اتفاق غزة كمثال
مع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط، أصبحت مصر "صانعة السلام" في اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار في غزة، الذي أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 9 أكتوبر 2025، بدعم من قطر وتركيا. الاتفاق يشمل
وقفاً فورياً لإطلاق النار وانسحاباً جزئياً وعلى مراحل من قبل إسرائيل، و
تبادلاً للأسرى والرفات للموتى و
إدخال المساعدات إلانسانية إلى جميع مناطق قطاع غزة، مع آلية دولية للمراقبة وانسحابات القوات الإسرائيلية من قطاع غزة،
فهذا النجاح يؤكد لمصر دورها التاريخي كـ"قلب الوساطة الإقليمية"، ويُرسخها كمركز دبلوماسي رئيسي، بعيداً عن الوساطة اللوجستية فقط.  حيث أشاد الكثير بدور مصر كـ"ضامن للاتفاق"، مع دعوات لاستضافة التوقيع في القاهرة، رغم بعض الآراء الناقدة التي ترى في الوساطة مخاطر متعددة، فالتحديات والآفاق
رغم النجاحات، تواجه مصر تحديات كثيرة، ومنها الضغوط الاقتصادية الناتجة عن النزاعات، التي أثرت على قناة السويس وانخفاض عائدات القناة بفعل الهجمات الحوثية على السفن التجارية واغراق السفن في البحر الأحمر و خليج عدن و تحول الكثير من الشركات العالمية نحو رأس الرجاء الصالح، ومع ذلك، يُتوقع أن يعزز هذا الدور الاستقرار الإقليمي، مع التركيز على "آليات التخطيط والتأثير" لتفعيل الوساطة المستقبلية، و في النهاية، يُثبت دور مصر أنها ليست مجرد وسيط، بل قوة إقليمية تحمي مصالحها الوطنية وتساهم في بناء السلام الدائم.
 
أما من زاوية الأمن الإقليمي، فإن اتفاق غزة – إيران إذا ما تطوّر إلى تفاهم فعلي، قد يفتح الباب أمام إعادة صياغة منظومة الأمن البحري في البحر الأحمر والخليج العربي، حيث ستتجه الولايات المتحدة إلى تحييد بؤر التوتر المرتبطة بالوكلاء الإيرانيين، وهو ما يعني أن الحوثيين سيخسرون واحدًا من أهم أدواتهم في الابتزاز الإقليمي، وهذا بدوره سيؤثر على مصادر تمويلهم غير المشروعة، خصوصًا تهريب السلاح والمخدرات وحبوب الكبتاجون عبر البحر الأحمر وخليج عدن الذي يشهد منذ مطلع العام ضبط شحنات كبيرة من قبل قوات المقاومة الوطنية وفي ميناء عدن وسواحل رأس العارة ومن مناطق في محافظة المهرة وغيرها، وهو ما يعكس تضييقًا متزايدًا على شبكات الحوثي اللوجستية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
 
وعلى المستوى الداخلي، فإن تراجع الدور الإيراني المباشر سيُحدث ارتباكًا في قيادة الجماعة الحوثية نفسها، بين جناح عقائدي متشدد يرى في طهران مرجعية دينية وسياسية لا يمكن تجاوزها، وجناح براغماتي يبحث عن مخرج سياسي يضمن بقاء النفوذ داخل المناطق التي يسيطر عليها، ما قد يفتح الباب أمام انقسامات داخلية غير معلنة، تشبه ما حدث داخل الحرس الثوري الإيراني عقب الاتفاق النووي عام 2015 حين برزت خلافات بين التيار الثوري المحافظ وتيار البراغماتيين بقيادة روحاني وظريف.
 
كما أن الأزمة الاقتصادية في مناطق سيطرة الحوثيين تتفاقم بشكل غير مسبوق، فغياب الرواتب وتراجع النشاط التجاري وارتفاع الأسعار وتآكل العملة المحلية أدت إلى موجة سخط شعبي تتزايد في صنعاء والحديدة وذمار وصعدة، فيما تواصل قيادات الجماعة جباية الأموال وفرض الإتاوات على التجار والمواطنين، ما عمّق الفجوة بين الطبقة السياسية الحوثية المترفة وقواعدها الاجتماعية الفقيرة، وهو ما يهدد تماسك الجماعة من الداخل في حال تراجع الغطاء الإيراني المالي والسياسي.
 
في ضوء ذلك، يمكن القول إن الحوثيين يقفون اليوم أمام لحظة حاسمة، فإما أن يتحولوا إلى مجرد ورقة ضغط هامشية في صفقة إقليمية أكبر، أو أن يعيدوا تعريف أنفسهم كقوة محلية ذات أجندة يمنية، لكن الخيار الثاني يبدو شبه مستحيل في ظل بنيتهم العقائدية المغلقة التي تستمد شرعيتها من فكرة «الحق البطني» في الحكم وليس من مفهوم الدولة الوطنية. إن تراجع الحماية الإيرانية سيكشف هشاشتهم البنيوية، وسيفرض عليهم مواجهة الواقع الداخلي بلا غطاء خارجي، وهو ما لم يعتادوه منذ صعودهم العسكري عام 2014.
 
وهكذا، فإن السؤال الذي يبدو ساخرًا في ظاهره، «هل انفضّ المولد وخرج الحوثي بلا حمص؟»، قد يكون التوصيف الأدق للمرحلة القادمة، فالمولد الإقليمي لم يعد كما كان، والحمص الذي كان يُوزّع على الوكلاء لم يعد مجانًا، وكل طرف مطالب الآن بأن يدفع فاتورة بقائه من رصيده الذاتي لا من حسابات طهران أو مزاج واشنطن. إن زمن الوكلاء يقترب من نهايته، وما بعد اتفاق غزة لن يكون مجرد هدوء في ميدان غزة، بل إعادة رسم لموازين القوة في الشرق الأوسط برمّته، واليمن سيكون أحد مختبرات هذه المعادلة الجديدة.
 
أ.د. عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي يمني

ذات صلة