لصوص باسم الله

قبل 22 ساعة و 16 دقيقة

تعددت أسماء الجبايات الإمامية، والسلب في النهاية واحد، تارة كانوا يسمونها (زكاة)، وتارة (واجبات)، ومرة (عُشر)، وأخرى (حق بيت المال)، وكُله في الأول والأخير يتم باسم الله، ويُنهك عباد الله.
 
جعل الأئمة السلاليون من الرعية المُستضعفين مَصدرًا رئيسيًا لدخل دولتهم، ولم يبحثوا عن مَصادر أخرى لذلك الدخل، وعن ذلك قال الأستاذ أحمد محمد نعمان في أنته الأولى: «لقد بات من المُقرر أنَّه ليس للحكومة مورد من موارد المال إلا من أرض الفلاح، ومزرعة الفلاح، وعناء الفلاح، وكد الفلاح، فهو قُوتُها، وقوتها، وكنزها، ومتجرها الذي لا تعرف سواه».
     
وبلغ الأمر بالإمام يحيى حميد الدين أنَّه كان يحدد مقادير الزكاة بنفسه، ويؤكد ذلك هذه الرسالة التي بعثها لأحد عماله 9 فبراير 1926م، حيث قال: «قد سبق الأمر إليكم بقبض علف الذرة من نفس شبام، بعد كل قدح ربع ريـال، وحيث تحقق بأنَّ ذلك موافق للحق، نأمركم بالقبض من جميع ما تحت نظارتكم من المحلات، بعد كل قدح ربع ريـال من ذرة وغيرها، فخرج ما لم يستفاد بعلفه مثل الخردل، والحلبة، والقلا، والعدس، والسعتر، والذرة. وهذا اعتبار من الصراب الحاصل بهذه السنة، واجروا الضم على التزام ما يقاوم الثمن، ريـال الزائد على الدرهم، فلا بد من ضمه، حيث كان الالتزام بشرط أنَّ القبض بعد كل قدح ثمن ريـال، فاعتمدوا هذا». 
 
رعية وعساكر
     
أوغلت تلك السلطات الغاشمة في تفتيت وتمزيق الشعب الواحد على قاعدة العصبية المذهبية والعرقية السلالية، وصيروهم - تبعاً لذلك - رعية وعساكر، ولقد عرَّف الشهيد محمد محمود الزبيري الإمامة: بأنَّها فكرة مذهبية طائفية يعتنقها من القديم شطر من الشعب، وهم الزيدية - أي الهادوية - وأنَّ باقي اليمنيين لا يدينون بها، ولا يرون لها حَقًا في السيطرة عليهم، مُشيـرًا إلى أنَّ التَحكم الإمامي خَلق شُعـورًا مَريرًا لدى الغالبية، وأبقى الانقسام ظلًا قاتمًا رهيبًا يخُيم على البلاد. 
     
وأكد القاضي الزبيري أنَّ سُكان المناطق الشمالية العُقلاء منهم أبرياء من هذا الافتئات والظلم، وأنَّهم لبثوا الدهر الطويل يعانون مرارة الطغيان، ويرون فيه حكمًا طارئًا عليهم، دخيلًا على حياتهم، يفرض عليهم إلى جانب السُلطة السياسية سُلطة روحية تعيش في دمائهم كالكابوس الرهيب، وتُجرعهم المُعتقدات المسمومة، ثم تُطلقهم على الفريق الآخر كالذئاب المسعورة. 
    
مَـارس الإماميون العبث على عباد الله، في حياتهم وممتلكاتهم، فالاستبداد المُطلق، كان عنوان حكمهم وهويته اللصيقة به، والطغيان الأحمق كان سُلوكهم اليومي الذي يتباهون به. قـادوا البلاد والعباد بما أملته عليهم رغباتهـم الفجَّة، وفَصّلوا فقهاً سياسيًا يشملهم بكل الخيرات، ويستثني كل اليمنيين.
     
كانوا - أي أولئك الأئمة السلاليين - يقولون أنَّهم يَحكمون بأمر الله، وباسم الحق الإلهي. وما من استبداد سياسي - كما قال عبدالرحمن الكواكبي - إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله، والطغاة - كما قال علي الوردي - يعبدون الله، وينهبون عباد الله في آن واحد. 
قضاء مُبرم
     
وليت أمر الظلم توقف عند ذلك الحد، فبعد التخمين والكشف يأتي دور بيت المال، وهي الجهة التي تحوي دفاتر تقديرات المخامنة، والكشافين، ومن خلالها تتم المُقارنة بين ما كان وما صار، وإنْ كانت تلك التقديرات أكثر من العام الماضي اعتمدوها، وإنْ كانت أقل رفضوها، وخاطبوا الرعية أنْ يسلموا ما سبق دفعه.
     
وإذا جادت السماء - في سنة ما - بغيثها، وأخرجت الأرض غلاتها بكثرة، خلافًا عن السنوات السابقة، فإنَّ الزكاة تتضاعف، وتُصبح ثابتة في الدفاتر، حتى لو تغير الحال إلى الأسوأ، وغادر الناس قراهم، وحول هذه الجزئية قال الدكتور عبدالرحمن البيضاني في إحدى كتاباته: «وحتى إذا هاجر بعض أهالي المنطقة فرارًا من الزكاة؛ أمر الإمام بأنْ تضم أنصبتهم منها على جيرانهم، لأنَّ الإمام يريد نفس المقدار من المال»!
    
وخُلاصة هذه المأساة أنَّ ما تم تسجيله في الدفاتر فهو كالقضاء المُبرم الذي لا يجوز نقضه، ولا تخفيفه بحالٍ من الأحوال، حتى لو انقطع الغيث، وعمَّ الجفاف، أو جَرفت السيول الأرض، أو أصيبت الزراعة بآفات قاتلة، أو غادر الناس قُراهم!
     
وفي حال ما كانت تلك التقديرات مُتساوية، فيضاف لها بعض التعديلات، ويُضاف ما لا بد منه احتياطًا، على اعتبار أنَّ المخامنة قد يكونوا تهاونوا في حق بيت المال، ويلي ذلك ضم العائد، وعُشر العشر، وحق العلف، والرهينة، ثم يجري التسعير، وهو تقدير قيمة الزكوات، لأنَّها في الغالب لا تدفع عينًا؛ بل تؤخذ قيمتها نقدًا، وللمالية سعر مخصوص يختلف كثيرًا عن سعر السوق؛ بل وأكثر منه بثلاثة أضعاف، وهنا يضطر الرعوي المسكين أنْ يبيع جميع مُمتلكاته ليفي بذلك، أو يغادر أرضه فرارًا من ذلك.
 
تواصل سلبي
     
 كان الإمام الطاغية يحيى حميد الدين دائم الاتصال والتواصل برعيته، عبر عساكرة المُتوحشين طبعًا، لا ليتفقد أحوالهم، ويُنفذ مَطالبهم، عملًا بقول - من يدعي أنَّه جده - النبي محمد صلى عليه وسلم: «كُلكم راعٍ، وكُلكم مَسؤول عن رعيته»، وإنما لكي ينهب أموالهم، ويتفنن في أذيتهم، ويُمعن في إذلالهم، عملًا بالمقولة الاستعبادية الدارجة: «جَوع كَلبك يتبعك»، وهي العبارة التي هذبها بقوله: «غبر الشميل إذا لم يُظلموا ظَلموا»!
     
وقد تَحدث الشاعر عبدالله البردوني في إحدى كتبه عن ذلك التواصل السلبي، وصور تلك العلاقة الاستغلالية بقوله: «كان الإمام يحيى لا ينقطع عـن قرية أو منطقة إلا مُدة قصيرة، فقد كان مأموروه وجنوده يمسحون البلاد طولًا وعرضًا، يتحسسون ما يجري، ويتحصلون ثمرة ما ينبت وما يتحرك، يأتي المُخمن عند بزوغ الثمرة، يليه القباض عند حصادها، يليه الكاشـف على القباض، يليه العسكري لتحصيل البواقي، يتبعه عَدَّاد المواشي، ثم مُثمر الخضر والفواكه، فيدوم اتصال الإمام بالشعب علــى طِيلــة العام، عن طريق المأمورين والعساكر، ويزيد اتصاله أعنف إذا نجمت أحداث، واحتدم شِجار».
     
وحين قام أحد أصدقائه - أي أصدقاء الإمام يحيى - بمُراجعته في التخفيف من جور الضرائب التي كان يَفرضها على المُواطنين، خاطبه بقوله: «هل رأيتهم يحملون البصائر ويعرضون أرضهم للبيع؟!».
     
وقد عَمل الأحرار الأوائل على تحسين تلك العلاقة الشائكة، وإيجاد قانون رادع ينظمها، ولو عدنا إلى أدبياتهم الحافلة بتلك المآسي، لوجدنا أنَّ رفع الظلم عن الرعية المساكين كان البند الأول في سلسلة مَطالبهم الإصلاحية التي قدموها للإمام يحيى حميد الدين عام 1934م، ليتعمق الأستاذ أحمد محمد نعمان في ذات الأوجاع والمطالب في رسالة شهيرة أسماها (الأنـَّة الأولـى)، موجهة لـولي العهد أحمد يحيى حميد الدين 1937م.
     
وفي بداية العام 1941م ذهب القاضي محمد محمود الزبيري إلى صنعاء لتقديم برنامج (جمعية الأمر بالمعروف) إلى الإمام يحيى حميد الدين، وهو برنامج إصلاحي شامل يقع في 22 صفحة من القطع الصغير، ومقدمة كتبها بنفسه، متبوعة بـــ 37 مادة تحت عنوان: (ماذا نريد أنْ نفعل)، وكانت جميع المواد تدور حول التمسك بالإسلام الصحيح، والدعوة إلى تطوير جميع مرافق البلاد المالية، والصناعية، والإدارية، وإزالة الظلم عن الرعية المساكين، وهو الأمر الذي أغضب الإمام الطاغية عليه، فشكل لجنة لمـُـحاكمته برئاسة القاضي زيد الديلمي، وحين تأخر الأخير في إصدار الحكم، وجه بحبسه وعدد من الأحرار في سجن المشبك في جبال الأهنوم.
     
كان القاضي الزبيري لا يعرف شيئًا عن تلك المظالم، حتى رآها أثناء تواجده في لواء تعز بأم عينيه، عبر حينها عن امتعاضه الشديد، وقال مُتألمـًا: «أول نبضة من نبضات الوطنية أحسستها جياشة في قلبي، فوارة في دمي، كانت في قضاء "القماعرة" حيث رأيت مشاهد من الظلم، والاضطهاد، والسلب، والنهب، تشمئز لها نفس الحر الكريم.. لقد كان ما رأيته مُفاجأة لم أكن أتصورها، فأخذت لأول مرة أكتب رسالة عما شاهدته من فظائع، وأندد بالأوضاع القائمة.. ومن هنا كان في مقدمات مطالب الأحرار إلغاء الخطاط، والتنافيذ، والتخمين، وجعل الزكاة أمانة».
     
مطالب الأحرار الأوائل الإصلاحية كانت داعية في الأساس إلى المساواة والعدالة الاجتماعية، وتطبيق شرع الله، لتُركز مُقترحاتهم الاقتصادية فيما بعد على إيجاد مَصادر أخرى لدخل الدولة، تخفف من حدة تلك الجبايات التعسفية التي اثقلت كاهل الرعية، وهي مَطالب لم يُعرها - للأسف الشديد - الأئمة الطغاة أي اهتمام؛ بل ازدادوا عُتوًا ونفورا، وظُلمًا وفجورا، حتى أنَّ زوال ذلك الطغيان كان بنظر الرعية المساكين ضربًا من المُحال، وحين تبدد بفعل الثورة السبتمبرية المُباركة والخالدة، التي كان أبناؤهم ركيزتها الأساسية، كانت دعوة أولئك المكلومين على أي ظالم مُستجد تلخصها هذه العبارة: «زالك ما أزال بيت حميد الدين».