الوحدة اليمنية.. بين الذكرى والذاكرة

01:02 2021/05/23

عشرون عاماً سبقت فبراير 2011 كان يأتي هذا اليوم ولا يوجد صغير أو كبير إلا ويعلم عنها من قبل تاريخها بأيام، كانت الإذاعة تصدح بالأناشيد والأغاني الوطنية منذ اليوم الأول من مايو المجيد، وتبدأ الصحافة تستقبل كتابات السياسيين والأدباء والصحفيين من بزوغ اليوم الأول لمايو ومن قبله حتى، لم تكن تغيب هذه الذكرى لا عن شيخ ولا طفل ولا شاب، لا راعي ولا فلاح ولا مزارع أو مهندس، يتنفس اليمنيون كلهم روح هذا اليوم ومعناه وأصله وأصوله.
 
حين أعلنت الوحدة اليمنية كنت حينها لم أتجاوز العاشرة، كان شيوخ قريتنا الصغيرة وهم الفلاحون يتحدثون عنها ووجوههم تشع بروح انتصار لا أعرفه غير أن ذلك الانتصار كان يستقر في قلبي كبذرة لشجرة لا تذبل.. صعدنا سطح بيتنا الصغير وكان الجميع يطلق أعيرة نارية في الهواء ويشعلون الإطارات على سفوح الجبال في مشهد مهيب، يصرخ جارنا السبعيني حينها بلهجته القروية الجافة (اللهم انصر اليمن بعلي عبدالله صالح واحفظ لنا هذه البلاد)، أتذكر جيداً نبرة صوته وهو يصرخ من سطح بيته القديم حاملاً بندقيته الشيكي الوحيدة في القرية ويطلق خزنته من الرصاص الخمس في الهواء.
 
أمسك بي وأخي الذي يكبرني بعام أخونا الأكبر وصعدنا السطح وأمسك بإصبعي على الزناد لنشارك فرحة الجميع وتكون أول مرة تطلق فيها يدي رصاصة للنصر والوحدة.
 
كانت الوحدة هي الانتصار اليمني الكبير الذي لا يعلوه انتصار، كان تتويجاً حقيقياً للثورة اليمنية الخالدة سبتمبر وأكتوبر، كان مايو هو التاج المرصَّع على رأس سبتمبر يلمع بجوهرة الوحدة الثمينة شامخاً بنورها وبركتها أيما شموخ.
 
لم أكن أعرف عنها إلا أنها أزالت النجمة الخضراء من وسط العلم اليمني وكان أخي لا يعرف عنها إلا أنها أزالت مسمى (العربية) من الجمهورية، وحين كبرنا أدركنا أنها كانت أكبر من أن تحتويها نجمة واحدة أو طلقة نارية واحدة أو جبل واحد أو أغنية واحدة، وأما بعد فبراير فقد أدركنا أنه كان يجب علينا أن ننتصر لها أو نموت، وأن صمتنا كان هو الخطيئة الكبرى التي لا تغتفر.
 
ثم يوماً فيوم تُدك الذاكرة بكل مسميات الفرح وكل عناوين التوحد لتصبح كل مسميات الوحدة والجمهورية خاوية من روح الوطن الكبير الذي كان يحتضن أحلامنا.
ما هذا النسيان! 
ينشغل اليمنيون بالحرب وينسون أن أصل الحرب هو تاريخ لنقاط كثيرة من الانتصارات يحارب اليمنيون اليوم لأجلها.
 
الوحدة اليمنية ذكرى يجب أن لا تُنسى، الوحدة فرضٌ كالصلاة تنهى عن التشرذم والتفرقة وتدعو للاعتصام والقوة، وحتى لو أزيلت اليوم أو غداً وفُرض علينا ذلك فإن التغني بها حقٌ وواجب كفطرة إنسانية ودينية واجبة الحصول والتحقق والاستمرار.
 
سبتمبر ومايو توأمان قضى الأول على الجهل والتخلف وقضى الآخر على الشتات والتمزق، وكلاهما لا تستقيم الحياه إلا بتحقق هذين الشرطين.. واليوم تدور عجلة الزمن ويعود الجهل والتخلف من الشمال والشتات والتمزق من الطرف الآخر ليخبرنا أننا بحاجة لندور أيضاً حيث تدور بنا الأقدار ونستمر في النضال لنعيد توحيد الشمال بالشمال أولاً والشمال بإخوتنا في الجنوب ثانياً كيمنيين نسير بالغنم من صنعاء إلى حضرموت دون حواجز.
 
مايو من صنعاء إلى حضرموت كيف يُنسى! لا يُخشى إلا الله والذئب على الغنم.. طريق واحد تتباعد المسافات وتقترب القلوب وتهون المتاعب والآلام وتزال التعقيدات.
 
إضاعة الوحدة هو حصار أبدي وقيدٌ نكبل به مستقبلنا ومستقبل أجيالنا، ولذلك سنحتفي به ونواصل الاحتفاء به حتى رصيف جمهوري وحدوي واحد، حتى لو كان آخر عرق نابض في جسد مذبوح، ستنبت روح الوحدة من الخلايا التي اعتقدنا أنها ماتت وسيتنفس الصبح والليل والشمس والقمر والجبل والسهل والوادي والطريق.
 
كانت الوحدة مشروع إنقاذ إنساني واقتصادي للجنوب ومشروع حياة وتواصل للشمال ولا تزال حتى يكفر بها اليمنيون ويصدق عليهم إبليس ضنه فيتبعوه كما فعل السبئيون من قبل ونصبح بعدها أحاديثَ ومزقاً.
 
نصيحة أخيرة.. لنحتف بهذه الوحدة المباركة حتى لو كانت الطير تتخطفنا من كل جانب، الوحدة قضاء وقدر وذكرى وذاكرة.
 
أما الحقيقة المؤسفة أننا ربطنا الوحدة بشخص علي عبدالله صالح وعاديناها كما عاديناه وأنكرناها كما أنكرناه ثم قتلنا الجميع ومتنا على ظهر الجدار لا حفرنا بقعة للنور ولا استفدنا من ظل الجدار.. 
وذهبت عبس وذهب عنترة وذهبت عبلة.