قصة "مريم سعيد".. امرأة استثنائية تتعاهد نزلاء "الأمراض النفسية والعصبية" بتعز
- تعز، الساحل الغربي، عصماء منير الكمالي:
- 07:52 2021/08/08
مريم لـ"الساحل الغربي": "أعطي المرضى أكل.. أتكلم معهم وأشوف أيش يحتاجون وما ينقصهم.. هم بحاجة إلى رعاية واهتمام"
"أزور المرضى.. أقدم لهم الأكل وأعتني بهم". هكذا بدأت الحجة مريم سعيد حديثها لـ"الساحل الغربي" عن قصتها الفريدة، وأمومتها الاستثنائية وجهدها الكبير الذي تبذله من أجل الاهتمام بشريحة معينة من المرضى.. الشريحة الأكثر احتياجاً للرعاية، كما تقول.
مريم، وهي في الخمسينيات من عمرها، تذهب مرتين في الأسبوع لزيارة المرضى في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بتعز.. صباح كل يوم اثنين وخميس تأتي هذه المرأة مُحملة بأكياس من الطعام والخضروات، ليس بوسعها أن تحمل كمية تكفي جميع المرضى، عمرها الكبير لا يساعدها على ذلك.. الأمر الذي يستدعيها إلى استئجار باص يحمل ما تجود به يداها.
تقول مريم لـ"الساحل الغربي": "أزور المرضى يومين بالأسبوع.. أجيب لهم أكل، لحوح وحقين، وأحيانًا خمير وشاي، أو خضروات أو تمر أو فواكه.. ولا يوم قد زرتهم ويدي فاضية".
وتضيف: "أتكلم معهم وأشوف أيش يحتاجون وما ينقصهم.. بعضهم بحاجة فلوس، والبعض يشتي قات وسجارة، والبعض يريد يخرج من المُستشفى.. ناس بسطاء ومطالبهم بسيطة.. هم بحاجة إلى رعاية واهتمام".
"أزور المرضى يومين بالأسبوع.. أجيب لهم أكل، لحوح وحقين.. ولا يوم قد زرتهم ويدي فاضية".
ما إن تسأل أحد أبناء منطقة النور، التي يتواجد فيها المُستشفى عن هذه المرأة، فسرعان ما يجيبك: "هذه الحجة تجي تتفاقد المرضى".. منذ عقدين من الزمن ومريم تتردد على هؤلاء المرضى دون انقطاع حتى في ظل الحرب لم تتوقف عن مواعيدها الأسبوعية. تؤكد: "لأكثر من عشرين عام وأني آتي إلى هذا المُستشفى.. جاءوا ناس وخرجوا ناس، أعرف مرضى تشافوا ومرضى خرجوا وما زالوا مرضى".
تجسد مريم سعيد حالة أمومة وإنسانية استثنائية تجاه المرضى الذين تناساهم الأهل وتذكرتهم مريم
زُرنا المصحة، أو المُستشفى، ذلك المكان الذي ينفر منه الجميع.. ربما تخوفاً من أن يتعرضوا لأي أذى قد يلحق بهم.. وهناك وجدنا مرضى بوجوه شاحبة، وتصرفات غريبة، أحدهم يكلم نفسه وآخر يحدث من بجواره، وثالث غارق في صمت دائم، لا شيء يوحي بأنه على قيد الحياة سوى نظراته.. هذه هي تفاصيل وملامح البسطاء داخل المُستشفى بقسميه العام والذي يتواجد فيه 110 حالات، والخاص وفيه 30 حالة، ناهيك عن المرضى الذين يترددون من فترة لأخرى بغرض العلاج.
يتخلصون منهم، لكن هناك من لا ينساهم: يغيب الأهل ويحضر آخرون!
أم المساكين
في تعز قد ينسى الأهل أحد أولاده بمجرد أن يفقد عقله ويصير مريضاً نفسياً.. على الرصيف تجده مرمياً، وفي الأسواق والحارات بدون رعاية أو عناية.. الشارع هو بيته الوحيد بعد أن أصبح بلا مأوى.. فيما هناك الكثير ممن يتناسون مرضاهم من خلال تركهم في المستشفى.. يتخلصون منهم ويتناسون قُربهم الأسري، لكن هناك من لا ينساهم، يتذكرهم دوماً، يأتي لزيارتهم باستمرار، ويتفقد حالهم.. يغيب الأهل وتحضر مريم أمًا وأهلًا لهؤلاء المنسيين.
وتشير هذه المرأة: "الأب يترك ولده، والأخ يترك أخاه ويذهبوا بلا رحمة أو شفقة.. بدلا ما يعالجوا المريض ويتعافى بأقل وقت، يتركوه وحيد ويمتنعوا عن زيارته، وهذا ما يزيد معاناته.. يفكر كيف تخلوا عنه حتى تسوء حالته".
وتتابع: "أعتبرهم أولادي.. أعتني بهم قدر الممكن؛ لكنهم بحاجة لعناية أقربائهم كي لا يشعروا بتخليهم.. الاهتمام قد يساعدهم على استعادة صحتهم النفسية".
"أم المساكين".. بهذا الاسم تنادَى مريم، وهي تتجول بين المرضى وتوزع لهم الطعام.. هو لقب أُطلِق عليها في هذا المكان نظرا للدور الذي تقوم به تجاه هؤلاء.. لقد جعلت من نفسها أماً لفئة منسية، وهذا ما يميزها بإنسانيتها النادرة.
يقول الدكتور عادل ملهي، مدير مستشفى الأمراض النفسية: "أم المساكين.. امرأة استثنائية في هذا المجتمع.. منذ أن تعينتُ مديراً في سنة 2007 وهي تأتي إلى هنا.. حقيقة هي أم حنونة وصبورة".
اقرأ أيضا:
وعن تخلي الأهل أشار ملهي: "مشكلة المجتمع أنه يتخلص من المريض بأخذه إلى المُستشفى.. يتركه وما يعود لأخذه بعد انتهاء فترة علاجه.. المُستشفى ليس مسكنا أو مأوى دائما، هو للعلاج، لكن من بيسمع كلامك".
للمرضى النفسانيين وأهاليهم ألف قصة تخلي (ترك) وقصة.. جميعهم أمام مُفترق طريقين لا ثالث لهما: إما المستشفى أو الشارع.. والأخير هو الخيار المفتوح للكثيرين.
ينتظرون "لفتة كريمة" من أحد أهاليهم: المرضى بين إهمال ونسيان متعمد
لفتة مريم الإنسانية
منسيون، ينتظرون لفتة كريمة من أحد أهاليهم.. تمر الأيام والأشهر دون أية زيارة أو اهتمام، وبالمقابل تحضر أم المساكين ذات القلب الرحيم، بلفتتها الإنسانية تجاه هؤلاء البسطاء الذين لم يتعاطف معهم لا الأهل ولا المجتمع.. ونتيجة لما تلقوه من تعنيف أصبحوا فاقدي الشخصية، وهذا ما ضاعف من تدهور حالتهم النفسية.
منسيون، ينتظرون لفتة كريمة من أحد أهاليهم، وتحضر أم المساكين ذات القلب الرحيم
إلى جانب ما يعانيه هؤلاء من إهمال متعمد من قبل أهاليهم.. فإنهم يعانون من قلة في الاحتياجات.. وبحسب المعلومات التي حصلنا عليها فإن المُستشفى يعجز أحياناً عن توفير ملابس للمرضى وبعض الأدوية وكذلك التغذية وأدوات النظافة.. ويؤكد ملهي بأن العجز الحاصل في المُستشفى سببه عدم كفاية الميزانية التشغيلية المقدمة من مكتب صحة تعز، والتي تقدر بـ مليون و500 ألف ريال.
هكذا هي حياتهم اليومية، إن جاز لنا تسميتها حياة.. يقضون أوقاتهم بالذهاب والإياب في حوش المُستشفى، يتبادلون النظرات، كل واحد أشد بؤساً من الآخر.. لا أحد يحتويهم في هذا المكان سوى مريم المليئة بالإنسانية والرحمة.