سقراط، فالنتين، ليو.. والعائلة

09:50 2021/02/13

أن تعيش تعساً، وقلقاً وسط عائلة، خير لك من البقاء وحيداً، فضلاً عن أن تحمل الزوج زوجه يمكنه من إقامة علاقات جيدة مع بقية البشر.. هذه خلاصة تجربة الفيلسوف اليوناني سقراط، مع زوجه زانتيب، حسب ما قرأنا.. فقد كانت تعامله معاملة قاسية، لكنه لم يهج، بل صمد أمام العاصفة لكي يعلم الآخرين.. لقد تجاسر سقراط على مجتمع أثينا فانتقده بجرأة، وخالف المألوف من الأقوال، وأنتج أفكاراً غير معهودة، بينما كان شديد اليقظة والحرص على تحاشي معركة تقرع زوجه طبولها، فإن تشجع ورد على إساءاتها له، كان رده سخرية، أو ضحكة.. بل لقد بلغ بها الأمر تذمرها من ضحكه، كتذمرها من فقره ومن أفكاره التي لا تفهمها.. رأته مرة مبتسماً، فصرخت في وجهه: لماذا تبتسم؟ قال: تذكرت حزني فابتسمت، وردت هي: أهاه، حسبتك تبتسم لغير هذا! وجاءت إلى حيث يعلم تلاميذه، فسبته وسكبت على رأسه مياه مغسلة، فلم يلتفت إليها، بل توجه نحو التلاميذ يقول لهم: ألم أقل لكم أن الرعد يأتي أولاً، ثم ينتهي بهطول الأمطار؟ وسأله أحدهم عن سبب تحمله مكاره السيدة زانتيب، وصبره عليها، فقال له: اعتدت عليها، فبمرور الوقت تعتاد على صوت الأوز، فهو يقدم لك البيض، والقاذورات من خلفه أيضاً، وكذلك زانتيب، فهي أم أولادي.
 
عاش سقراط قبل مجيء عيسى المسيح بأربعمائة سنة، واليونان يومها وثنية كما هو فيلسوفها، ومع ذلك فقد أعلى قيمة الزواج ومكانة الأسرة إلى مستوى قيمتهما في إنجيل المسيح.. ولعله من المناسب التذكير أن فالنتين أو عيد الحب، له علاقة ببناء عائلة، وليس بقضاء أوقات ممتعة، فالعائلة في المسيحية تعد بمثابة كنيسة صغرى، لذلك كان الزواج قائماً على عقد غليظ.. إبان الحكم الروماني كانت كل الممارسات المسيحية محظورة، بينما نذر القديس فالنتين نفسه لتزويج الشابات والشبان المسيحيين الذين يحب بعضهم بعضاً، وفقاً للتقاليد المسيحية، فلما اكتشفت السلطة الرومانية أمره قبضت عليه ثم اعدمته، ومنذ ذلك الوقت (في القرن الثالث الميلادي) تم اعتباره شهيد الحب، لذلك يحتفل المسيحيون الكاثوليك والبروتستانت بذكراه يوم الرابع عشر من شهر فبراير، بينما يحتفل به الأرثوذكس يوم ثلاثين يونيو من كل عام.
 
نعود إلى ما بدأنا به، ويقال إنه يمكن رؤية صورة الزوج سقراط وزوجه زانتيب مقلوبة، مع فارق في القياس كما يقول الفقهاء، فقد كانت صوفيا بيرز، وزوجها الأديب الروسي العملاق ليو تولستوي، زوجين مثاليين في علاقتهما الجيدة معظم الوقت، لكن ليس في آخره، وليس على أساس من الفلسفة التي قدمها سقراط للزواج والعلاقة بين طرفي العائلة.. كان ليو تولستوي صاحب قصور، ونشأت صوفيا في دار طبيب قيصر روسيا.. ورث من أسرته الإقطاعية أراضي زراعية رحبة وخصبة فتفرغ للتأليف، وكانت هي تنسخ مؤلفاته أو تحررها، حتى قيل إنها أعادت نسخ رواية الحرب والسلام سبع مرات، وتولت اختيار المطابع والإشراف على طباعة تآليفه، وتحصيل قيمة المبيع منها.. كان تولستوي يميل للسكينة والهدوء، ويتحاشى الصدام مثل سقراط، بينما صوفيا جبروتية، لكن لا تشابه أخلاقها أخلاق زانتيب.. نقل عن ليو أنه قال لصوفيا يوماً: هناك فقط، عندما تكون إحدى قدمي في القبر والأخرى خارجه، سأقول عنك كل شيء، وبعدها سأدخل القبر، ولن تجديني.. استخدمت صوفيا هيبتها الشخصية، وعلاقاتها الواسعة في حرمان زوجها من تحقيق أسمى ما كان يسعى إليه.. قرر توزيع تلك الأراضي الزراعية على الفلاحين الذين طالما كدحوا فيها، فسلبت المستندات ورفعت دعوى قضائية لاسترداد الأراضي، وحكم القاضي بإلغاء تصرفات تولستوي، وإعادة الأراضي إليه خلافاً لإرادته.. هذه الواقعة وتداعياتها تسببت في خراب علاقة الزوجين، خاصة بعد أن تدخل في الأمر فريقان: الأول عيره بضعفه أمام صوفيا، وشمتوا برجل لحيته تقيد بها الحوش، لكن -يا عيباه- تتحكم به أنثى! والفريق الثاني جاء إلى قصره يستنكر تصرف صوفيا، ويشيد بقراره الإنساني والعادل والثوري، في توزيع الأراضي على الفلاحين الكادحين، هذا على الرغم من أن تولستوي قد استسلم لزوجه صوفيا، ومعظم هذا الفريق أدباء ومثقفون.. لقد أوجعته صوفيا، فساءت علاقتهما، وتحول القصر الارستقراطي إلى جحيم، ورأى تولستوي النجاة منها بالطريقة التي بقت له.. خرج من القصر متخفياً تحت اسم نيقولاييف، وعليه ثياب فلاح، كي لا يعرفه الناس فيقولون: هذا زوج صوفيا قد هج.. سار حتى تجاوز حدود البلدة، ووصل إلى محطة القطارات، لكنه توقف هناك بسبب مداهمة المرض له.. أشفق له مدير المحطة، وأحضر إلى مكتبه سريراً يتمدد تولستوي عليه، ولما اشتهر أمره حضرت صوفيا وعدد من قرابته إلى المحطة يرجون عودته، لكنه رفض مقابلتهم فاعتصموا أمام المكتب أياماً كي يكرهوه على العودة معهم، وفي اليوم الأخير مات ليو تولستوي، ورجعت صوفيا إلى القصر دون تولستوي.