أزمة الدولة قبل أزمة التحالف
- المحرر السياسي:
- 09:13 2025/12/30
لا يمكن قراءة التطورات الأخيرة في حضرموت والمهرة، ولا التوتر المتصاعد داخل مجلس القيادة الرئاسي، بمعزل عن السياق الإقليمي المضطرب الذي تمر به المنطقة.. نحن أمام لحظة شديدة الحساسية لا تحتمل المغامرة السياسية ولا الحسابات الضيقة، لأن ما يجري لا يهدد تماسك معسكر الشرعية فقط، بقدر ما يضع فكرة الدولة اليمنية نفسها أمام اختبار وجودي خطير.
ففي اللحظة التي تُعاد فيها صياغة التوازنات الإقليمية، وتُرتب فيها خرائط النفوذ، يبدو المشهد اليمني وكأنه يختار أسوأ توقيت ممكن للانقسام، وأضعف موقع ممكن للتشظي؛ انقسام لا يُدار كخلاف سياسي، لكنه يتسع ليطول معنى الدولة، وحدود السلطة، وشرعية التمثيل.
من خلاف الصلاحيات إلى أزمة البنية
الأزمة الراهنة لا تنحصر في تباينات إجرائية أو تفسيرات متباينة لإعلان نقل السلطة، بقدر ما تكشف عن تصدع عميق في بنية الشرعية ذاتها.. شرعية وُلدت كإطار اضطراري لإدارة الصراع مع الانقلاب الحوثي، فإذا بها تنزلق تدريجياً إلى ساحة صراع داخلي على النفوذ والسرديات وحق تمثيل الدولة.
وحين يتحول الإطار الجامع إلى ميدان تنازع، تتآكل وظيفته الأساسية: «إدارة الخلاف لا تفجيره، واحتواء التناقض لا تدويله».
من منطق الإنقاذ إلى أزمة التمثيل
عند إعلان نقل السلطة، لم يُقدّم مجلس القيادة الرئاسي بوصفه سلطة مكتملة، بل كصيغة إسعافية تهدف إلى: منع انهيار الشرعية، وتجميد الصراعات البينية، وتوحيد القرار السياسي والعسكري في مواجهة الحوثي.
لكن ما تلا ذلك كشف انحرافاً تدريجياً عن هذه الوظيفة.. بيانات متبادلة، واتهامات بقرارات انفرادية، وحديث عن إجراءات استثنائية، وصراع مفتوح على من يملك «حق تعريف الدولة».
هنا يتحول الإطار الجماعي من أداة إنقاذ إلى بنية صراع... والسؤال الذي لم يعد ممكناً تجاهله:
هل ما زال مجلس القيادة إطاراً لإدارة الدولة؟
أم أصبح انعكاساً لأزمة تمثيل أعمق لم يُحسم تعريفها بعد؟
فجوهر الأزمة لا يكمن في النصوص القانونية، بل في غياب تصور موحد للدولة نفسها: هل الدولة كيان جامع فوق المكونات؟
أم مجرد مساحة تفاوض دائمة بين قوى تبحث عن حصتها قبل أن تبحث عن الخلاص الوطني؟
فحين يغيب هذا التوافق، تصبح كل خطوة سياسية مشروع صدام، وكل قرار مادة اشتباك، وكل ملف ساحة اختبار نفوذ لا تعبيراً عن سيادة.. وهكذا تبدأ الدولة في التآكل… لا بانهيار مفاجئ، ولكن بتصدعات صغيرة وغياب ثقة تتراكم حتى يصبح السقوط مسألة وقت.
من الأزمة اليمنية إلى ارتباك التحالف
الأخطر من الانقسام داخل الشرعية، هو تمدده إلى العلاقة بين ركيزتي التحالف العربي: «السعودية والإمارات».
فحين تنتقل الخلافات من القنوات المغلقة إلى البيانات العلنية، فنحن أمام خلل استراتيجي لا سوء تفاهم.
بيان الرياض الذي تحدث صراحة عن "ضغط إماراتي" وتحركات مقلقة، والرد الإماراتي الذي نفى الاتهامات واعتبرها "مغالطات جوهرية"، يعكسان لحظة توتر نادرة في خطاب الحليفين.
وهذا بالضبط هو السيناريو الذي راهن عليه الحوثيون منذ البداية: «تفكيك التحالف من الداخل بدل مواجهته في الميدان».
ففي الحروب الحديثة، لا تُهزم التحالفات بالقوة العسكرية وحدها، بل بتآكل الثقة، وتحويل الخلاف التكتيكي إلى صدام سياسي مفتوح.
الضربة الجوية في ميناء المكلا، بذريعة استهداف شحنة أسلحة، لم تكن حدثاً عسكرياً صرفاً.. إنها رسالة سياسية بامتياز، تكشف حجم الارتباك والتداخل في مناطق يفترض أنها بعيدة عن خطوط النار.
الأسئلة التي أثارتها الضربة أخطر من الضربة نفسها: من يقرر؟ من ينسق؟ وأين تقف حدود الشراكة؟
وحين تغيب الإجابات، تتحول المناطق المحررة إلى مساحات رمادية مفتوحة على كل الاحتمالات، وأخطرها الفوضى.
هامش الحوثي يتسع
كل يوم ينشغل فيه معسكر الشرعية بصراعاته الداخلية، هو يوم إضافي يمنح الحوثي: مساحة مناورة، ووقت إعادة تموضع، وفرصة لتعزيز سرديته بوصفه «الطرف الأكثر تماسكاً».
التاريخ اليمني لا يحتاج إلى شواهد جديدة: فالدولة لا تسقط بضربة واحدة، لكنها تُستنزف من الداخل حتى تعجز عن الدفاع عن نفسها.
وحدة الموقف السعودي-الإماراتي: خط الدفاع الأول
مهما بلغت حدة الخلافات التكتيكية، يبقى التوافق السعودي-الإماراتي هو حجر الزاوية في أي مشروع لاستعادة الدولة اليمنية.. والعبث بهذه الوحدة، أو محاولة استثمار التباينات لضرب أحد الطرفين، لا يخدم إلا أعداء المنطقة، ويقوض أمن الخليج برمته.
والأمر ذاته ينطبق على مجلس القيادة:
إما أن يكون مجلساً جماعياً فعلياً؛ أو يتحول إلى عبء سياسي وأمني يُسرع الانهيار بدل منعه.
لحظة تصحيح أم بداية انحدار؟
المفارقة أن هذا كله يحدث في وقت يُفترض أنه لحظة سياسية مفصلية. فالسؤال الحقيقي ليس عن "الزخم"، بل عن اتجاهه.
اليمن اليوم لا يواجه خطراً أكبر من تفكك منطق الدولة داخل معسكر الشرعية.. فالخيارات باتت محدودة: إعادة ضبط البوصلة، وإحياء منطق الشراكة وتغليب الحكمة، وتوحيد القرار وحماية وحدة الصف الإقليمي والوطني، وإعادة توجيه الصراع نحو هدفه الحقيقي «إنهاء الانقلاب الحوثي».
أو الانزلاق إلى فوضى جديدة
لا رابح فيها سوى خصم ينتظر بصبر قاتل
التاريخ لا يحاسب على النوايا بل على النتائج
وفي هذه اللحظة تحديداً لم يعد التردد خياراً
لأن ثمن الانقسام هذه المرة قد لا يكون أزمة محلية، بقدر ما هي ضياع آخر فرصة لإنقاذ الدولة نفسها.
