واشنطن تضرب العمق: رأس عيسى تحت النيران وشريان تمويل الحوثي يتهاوى!
الساحل الغربي، تقرير/ حسام المخلافي:
04:19 2025/04/19
في مشهد يعكس تحوّلاً جذرياً في فلسفة إدارة النزاع في اليمن، شنت الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أكثر ضرباتها الجوية إثارة للجدل منذ بداية تدخلها العسكري المباشر في البحر الأحمر، حين استهدفت ميناء رأس عيسى النفطي، المنفذ الاقتصادي الأكثر حساسية بالنسبة لجماعة الحوثيين.
هذه الضربة، التي حملت بصمتها العسكرية طابعاً دقيقاً وحاسماً، تجاوزت حدود الاستجابة التكتيكية للهجمات الحوثية ضد السفن التجارية، لتعكس ولادة مرحلة جديدة عنوانها استهداف مصادر التمويل ومحاصرة العمق الاقتصادي للجماعة المدعومة إيرانيًا.
توقيت هذا الاستهداف لم يكن عشوائيًا؛ بل جاء محملاً برسائل سياسية وأمنية تتجاوز حدود الميدان اليمني، ليمتد صداها إلى طهران، ودوائر القرار في العواصم الغربية؛ فالقرار الأمريكي بضرب الميناء يعكس قناعة استراتيجية متزايدة داخل واشنطن بأن المعركة مع الحوثيين لا يمكن كسبها عبر تدمير المخزون العسكري فقط، بل بضرب مرتكزات قدرتهم على تمويل وإدارة الحرب، وفي مقدمتها شبكات النفط والوقود التي يوفرها ميناء رأس عيسى.
يقول خبراء عسكريون إن الضربة على ميناء "رأس عيسى" ليست مجرد رد فعل عسكري على تهديد حوثي محدد، بل هي إعادة تعريف لقواعد الاشتباك، ومؤشر واضح على أن واشنطن باتت تمضي بخطى ثابتة نحو خيار أكثر شمولاً قد يتجاوز الغارات الجوية، وصولاً إلى تحريك ملفات الهجوم البري وإعادة رسم الخريطة السياسية لليمن، بما في ذلك استعادة العاصمة صنعاء.
رحلات مشبوهة
ضربة استراتيجية
بعد أن ركزت الغارات الأمريكية خلال الأسابيع الماضية على استهداف القدرات العسكرية البحرية للجماعة الحوثية، في إطار حملة تهدف إلى وقف هجماتها على السفن التجارية والعسكرية في البحر الأحمر؛ قررت واشنطن توجيه ضربة استراتيجية للاقتصاد الحوثي من خلال استهداف إحدى النقاط الرئيسية التي يعتمد عليها الحوثيون لتمويل حربهم، مستهدفة منشآت اقتصادية مرتبطة بالحوثيين.
وفي هذا السياق، كشف الخبير البيئي الدكتور عبدالقادر الخراز، عن معلومات تتبع دقيقة تخص الباخرة "ST.OSLO"، التي يُعتقد بأنها لعبت دوراً محورياً في نقل شحنات الغاز إلى مناطق سيطرة الحوثيين خلال الأشهر الأخيرة.
ويوضح الخراز: "من خلال تتبع مسار الباخرة ST.OSLO، التي دخلت محيط ميناء رأس عيسى قبل ساعات قليلة فقط من الضربة الأمريكية، تبين أنها قامت بعدة رحلات مشبوهة بين فبراير وأبريل من العام الجاري، لنقل الغاز إلى مليشيا الحوثي، بواقع 3 رحلات على الأقل".
ويضيف: "ما يثير الشبهات أن خطوط الملاحة الخاصة بهذه الرحلات غالباً ما تكون غير مكتملة الوضوح؛ حيث تظهر نقاط التوقف بين جيبوتي ورأس عيسى أو الصليف فقط، غير أن التتبع الفني كشف أن الباخرة كانت تعبر بشكل رئيسي عبر ميناء صحار في سلطنة عمان، إضافة إلى رحلات أخرى منشأها الصين وسيرلانكا".
وتابع الخراز بأن السفينة تعمدت إخفاء مساراتها خلال تلك العمليات، الأمر الذي يعزز الشكوك حول طبيعة الشحنات التي كانت تنقلها، خاصة مع ملاحظة تاريخ طويل من تبديل الهوية البحرية؛ حيث كانت السفينة ترفع أعلامًا مختلفة خلال السنوات الماضية، تنقلت فيها بين ألمانيا وليبيريا وبلجيكا، قبل أن تستقر حاليًا تحت علم بنما.
ويشير إلى أن الشركة المالكة حالياً هي شركة تركية تدعى ZED Shipping Investment CROP، بعد أن انتقلت ملكيتها سابقًا من شركة كورية جنوبية، مؤكدًا أن هذه المعلومات تسلط الضوء على شبكة تهريب وقود معقدة تخدم المجهود الحربي للحوثيين تحت غطاء عمليات تجارية مزعومة.
سياسة الضغط
قالت ميليشيا الحوثي الإرهابية، إن الطيران الأمريكي نفذ أكثر من 14 غارة جوية على مرحلتين، استهدفت منشآت حيوية في الميناء، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 80 شخصًا وإصابة أكثر من 170 آخرين، بالإضافة إلى تدمير شاحنات نقل وقود وغاز.
وأقرت مؤسسة موانئ البحر الأحمر التابعة للحوثي، بتعطل نشاط ميناء رأس عيسى النفطي جراء الغارات الأمريكية؛ وأضافت المؤسسة، التي تدير موانئ ثلاثة (الحديدة، الصليف، رأس عيسى)، إن القصف ألحق "أضرارًا كبيرة" بمنشآت الميناء، وتسبب في شلل شبه كامل لنشاطه الحيوي، وفق بيان نشرته وسائل إعلام حوثية.
وأوضح موقع "ذا وور زون" العسكري الأمريكي أن الصور الملتقطة في 18 أبريل الجاري، قد أظهرت تدميرًا واسعًا في البنية التحتية للمنشأة، بما في ذلك عدة خزانات لتخزين الوقود ومواقع لشاحنات التوزيع، إلى جانب رصيف الميناء الذي بدا مثقلاً بالحفر والانفجارات.
ويرى مراقبون أن هذه الضربات تعد جزءًا من سياسة الضغط المتزايد التي تنتهجها واشنطن على الجماعة المصنفة ضمن قوائم الإرهاب، وهذا ما يوضح جليًا أن العملية الأمريكية الجديدة ضد الحوثيين في عهد ترامب أوسع نطاقًا من الهجمات على الجماعة في عهد الرئيس الأمريكي السابق بايدن، وفقًا لمراجعة أجرتها وكالات خارجية.
شريان التمويل
لماذا رأس عيسى؟
يُعد ميناء رأس عيسى من أهم المنافذ الاقتصادية التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، إذ يقع في مديرية اللحية بمحافظة الحديدة، وهو يمثل أحد أهم شرايين الاقتصاد اليمني الذي تسيطر عليه الجماعة؛ ففي الفترة التي سبقت الإنقلاب كان الميناء يُستخدم لتصدير النفط، لكن منذ عام 2014، تحول إلى منفذ رئيسي لاستيراد الوقود والمواد الأساسية التي يحتاجها الحوثيون في حربهم.
وتتراوح تقديرات إيرادات جماعة الحوثيين من هذا الميناء بين 1.5 إلى 2 مليار دولار سنويًا، تُستخدم لتمويل أنشطتهم العسكرية، مثل شراء الأسلحة وصواريخ باليستية وطائرات مسيرة، بالإضافة إلى استراتيجياتهم الاقتصادية مثل تهريب الوقود وفرض رسوم إضافية على المنتجات التجارية.
وتشير تقارير إلى أن إيران تعد أحد أبرز داعمي جماعة الحوثي، خاصة على المستوى اللوجستي والاقتصادي؛ مؤكدة وجود دلائل على تورط الحرس الثوري الإيراني بتهريب الوقود عبر ميناء رأس عيسى إلى الحوثيين، حيث يُعاد بيعه في السوق المحلية بأسعار مرتفعة، حيث يُستخدم هذا الوقود في العمليات العسكرية، وتعزيز جبهات القتال في مختلف مناطق الحوثي بالمقاتلين وإمدادهم بالسلاح، ما يعزز قبضة الجماعة على السكان المحليين.
شلل اقتصادي
القرار الأمريكي: لماذا الآن؟
يتساءل اليمنيون عن سبب توقيت الضربات الأمريكية على ميناء رأس عيسى، سيما أن هذا الاستهداف يأتي بعد فشل استراتيجية الضربات المحدودة في عهد الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن؛ وعلل مراقبون أن استهداف الميناء يوضح مدى جدية واشنطن في قرار توسيع نطاق استراتيجيتها العسكرية ضد مليشيا طهران، والانتقال من ضرب الأهداف العسكرية المباشرة إلى استهداف الاقتصاد الحربي للحوثيين في محاولة لضرب قدراتهم التمويلية.
وحول التداعيات الاقتصادية المباشرة التي خلفها قصف ميناء رأس عيسى، يؤكد خبراء اقتصاد وشؤون يمنية أن واشنطن وجهت "ضربة موجعة" لبنية الاقتصاد الحربي للحوثيين، وأحدثت ارتباكاً فورياً في شبكات التوزيع والتمويل التي تعتمد عليها الجماعة.
ووفقاً لتقديرات خبراء اقتصاد يمنيين تحدثوا لعدة وسائل إعلام دولية، فإن ميناء رأس عيسى يُعد شرياناً حيوياً لإمداد الحوثيين بالوقود، حيث يعتمد على استيراد الشحنات القادمة من الخارج لتأمين السوق المحلي وتمويل العمليات العسكرية عبر فرض رسوم جمركية غير معلنة، مشيرين إلى أن استهدافه يعني حرمان الجماعة من أحد أبرز مصادر دخلها، بالإضافة إلى خلق أزمة طاقة خانقة في مناطق سيطرتها.
وأكد ناشطون في مناطق سيطرة الإنقلاب لـ "الساحل الغربي" أن توقف نشاط الميناء بعد الضربة الأمريكية أصاب الاقتصاد الحوثي بشلل شبه كامل، ويتفق كثيرون على أن هذه الضربة لم تستهدف قدرات الحوثيين العسكرية فحسب، بل جاءت لتقويض قدرتهم على الصمود اقتصادياً، وضرب شبكات تمويلهم التي كانت تعتمد على عائدات الوقود، مما يُنذر بمزيد من الأزمات في مناطق سيطرتهم خلال الأسابيع القادمة.
ضربات مستمرة
تؤكد القيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم"، أن عملياتها العسكرية ضد الحوثيين لن تتوقف، حيث يتم استمرار العمليات على مدار الساعة بواسطة حاملتي الطائرات "يو إس إس كارل فينسون" و "يو إس إس هاري ترومان" في البحر الأحمر؛ وتشمل ضربات جوية مستمرة على معسكرات الحوثيين، واستهداف مراكز الاتصالات العسكرية التي تستخدمها الجماعة في توجيه هجماتها بالصواريخ والطائرات المسيرة.
وأوضحت في منشور على منصة "إكس": "حاملتا الطائرات ترومان وكارل فينسون تواصلان عملياتهما على مدار الساعة ضد جماعة الحوثي المدعومة من إيران". حيث نشرت القيادة المركزية مقاطع فيديو تُظهر عملية تحميل قنابل على الطائرات قبل انطلاقها من سطح حاملتي الطائرات لتنفيذ غارات تستهدف جماعة الحوثي الإرهابية.
وسط تصعيد متواصل في الضربات الجوية على مواقع الحوثيين في عدة محافظات يمنية أبرزها الحديدة وصنعاء وصعدة ومأرب والجوف والبيضاء، ثمة مؤشرات واضحة تبرز عن تحرك أوسع يتجاوز الاستهداف الجوي نحو التنسيق المشترك لمعركة برية محتملة قد تكون الأوسع منذ بداية الحرب في اليمن.
قلب المعادلة
وتفيد تقارير دولية بأن الانتشار المكثف لحاملات الطائرات وتوسع نطاق الضربات الموجعة للحوثيين تأتي في إطار تهيئة للأرضية العسكرية والسياسية لمواجهات برية، حيث تجري مباحثات للتنسيق بين القوات الأمريكية وقوات يمنية معارضة للحوثيين، ضمن مشاورات وصفت بـ"الحساسة" تهدف إلى بلورة خطة ميدانية لشن هجوم بري واسع النطاق يستهدف استعادة ميناء الحديدة الاستراتيجي، والتقدم نحو العاصمة صنعاء.
ويهدف هذا السيناريو إلى قلب المعادلة العسكرية وإضعاف قبضة الحوثيين، خاصة بعدما تزايدت المخاوف الغربية من تحول البحر الأحمر إلى بؤرة صراع طويلة الأمد تهدد خطوط الملاحة العالمية؛ وبحسب سياسيين يمنيين فإنه يجب على الحكومة الشرعية أن تنتهز الفرصة للانقضاض على ميليشيا الحوثي واستعادة الجمهورية من أيدي الإماميين الجدد.
لكن تقارير استخباراتية غربية تؤكد أن إيران لا تزال تزود الجماعة بترسانة من الأسلحة والصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وهو ما قد يضع العديد من العقبات والعراقيل أمام انطلاق أي معركة برية في قادم الأيام؛ ومع ذلك يظل الأمر مرهونًا بمدى التنسيق بين الولايات المتحدة والأطراف الحكومية، والقدرة على مواصلة الضغط العسكري، وقطع خطوط الإمداد التي تربط الحوثيين بإيران، ما لم يحدث ذلك، قد تدخل الحرب اليمنية مرحلة أكثر شراسة وتحوّلاً، يزيد من تعقيد مساعي الحل السياسي ويطيل أمد الصراع لسنوات.