بين الكلمة والطلقة... لُحمة نضال وطني ضد الإمامة والاستعمار في اليمن (1 - 2)
- كتب / توفيق السامعي:
- 09:27 2023/09/11
منذ أول يوم حط الثوار الشماليون رحالهم في عدن، ولجوؤهم إليها هرباً من بطش الإمامة في الشمال في بداية أربعينيات القرن الماضي، تكونت بذرة الثورة، غرست في تلك اللحظات الأولى شمالاً وجنوباً، رسم فيها الطريق، وخططت فيها الأهداف وتوحدت معها الغايات للتحرر في كلا الشطرين.
لم تكن تلك الثلة التنويرية التي لجأت ومكثت وتربت في عدن كالزبيري والنعمان والحكيمي والموشكي ودماج، لتمثل فقط نواة الثورتين اليمنية في فبراير 1948 والسادس والعشرين من سبتمبر من عام 1962، بل كانت مشكاة اليمن كلها بطريقة أو بأخرى، وهو الأمر الذي تنبه إليه باكراً الإمام أحمد حميد الدين والاحتلال البريطاني، فقد كانا يعلمان أن عجلة الحراك الشعبي الثوري في الشمال والجنوب قد تحركت، وما هي إلا خطوات ومحطات يمضي عليها الثوار ليصلوا إلى مبتغاهم من إعتاق الشعب اليمني من الكهنوت والاحتلال.
تنسيق الإمامة والاستعمار
ومنذ اللحظات الأولى لأولئك الثوار بدأ الاحتلال البريطاني في التضييق عليهم، وكذا التنسيق مع الإمام في الشمال، والحقيقة أن التنسيق بدأ باكراً بين الإمامة والاحتلال البريطاني منذ أيام الأتراك الذي استنجد آخر ولاتهم سعيد باشا بالإمام يحيى حميد الدين لتسلم محافظة لحج منهم قبل أن يرحلوا عن اليمن، ويوصيه بإدخال جيشه إلى هناك، إلا أن الإمام رفض فاضطر سعيد باشا الانسحاب منها وتوسع في احتلالها البريطانيون.
اشترطت سلطات الاحتلال في عدن على الثوار الذين لجأوا إليها عدم القيام بالأنشطة السياسية، وكذا العمل السياسي من عدن، وهذا الشرط كان الخطوة الأولى للاحتلال الذي قام بعد ذلك بخطوات تالية منها ترحيل بعض الثوار من عدن ونفيهم إلى دول أخرى كالزبيري الذي نفاه المحتل البريطاني إلى باكستان.
فتح الأحرار في الجنوب بيوتهم ومتاجرهم وصحفهم للأحرار القادمين من الشمال، فكانوا بمثابة الأنصار للمهاجرين، فآووهم واحتضنوهم وناصروهم ومولوهم، وكان كثير من التجار الشماليين في عدن والقرن الأفريقي هم الصندوق الرافد والممول لأنشطة الأحرار.
الجمعية اليمانية الكبرى
ففي العام 1944 كان وصول الأحرار من الشمال تباعاً إلى عدن بهجرات خفية ومتتابعة بشكل أحادي فرادى، فقد كانوا يتهربون تهريباً عبر طرق وعرة وجبال شاقة سيراً على الأقدام، وهكذا توافدوا إلى عدن حتى تم توافق الجميع على مكون يحضنهم جميعاً ولافتة يتحركون تحت غطائها، فكونوا “الجمعية اليمانية الكبرى”، حيث انعقد أول مؤتمر شعبي للأحرار في منزل الحاج محمد سلام حاجب بالتواهي من نفس العام 1944، حضره أحمد محمد نعمان، ومحمد محمود الزبيري، والشيخ مطيع دماج، والشيخ القوسي، والشيخ محمد حسن أبو راس، وزيد الموشكي، وعقيل عثمان، والسيد الشامي، وعبد الله ناجي الأغبري والأستاذ محمد علي لقمان والشيخ عبدالله الحكيمي وآخرون. وقد كان المؤتمر سرياً، إذ لم يستطع رجاله المجاهرة بالعمل خوفاً من حكومة عدن التي اشترطت عليهم عدم التدخل في الأمور السياسية، وفي هذا المؤتمر تم تشكيل “الجمعية اليمانية الكبرى” أولاً قبل أن يتم بعد ذلك تحويلها إلى “حزب الأحرار اليمني”.
لم تكن هذه الجمعية، وهذا الكيان خاصاً بشطر من شطري اليمن، بل كانت نواة للثورتين اليمنيتين سبتمبر وأكتوبر، فقد كان الأحرار المؤسسون من الشمال والجنوب على حد سواء لا يرون أي فرق أو تقسيم في القضية اليمنية الكبرى، حتى منهم الذين خرجوا خارج اليمن للتعريف بالقضية اليمنية لم يكونوا يخصون شطراً من الشطرين بل يطرحون قضية جامعة للوطن بشكل عام، ومن هؤلاء لقمان وعبدالله الحكيمي والبيحاني وباسندوة.
عبدالله بن علي الحكيمي
ومن خلال تلك الثلة التحررية في تكوين قضية جامعة لتحرير اليمن من خلال تشكيل “الاتحاد اليمني” عام 1953 أيضاً للأحرار في الشمال والجنوب والذي انتخب فيه الشيخ عبدالله الحكيمي أميناً عاماً له ليخلفه بعد وفاته الشهيد الزبيري، ثم بعد ذلك النعمان الذي ترأس الاتحاد في القاهرة نستطيع القول إنهم لم يبذروا بذرة الثورتين فحسب بل كذلك بذرة الوحدة الشاملة التي كان يخاف منها الكثير من القوى الدولية وعلى رأسها بريطانيا التي كرست الانفصال بكل قوة ورسمت الحدود مع الإمام يحيى وتبادل الطرفان بعض المناطق كقعطبة والبيضاء والضالع، وكونا لذلك قوات حرس حدود كل من جهته.
استطاع المناضلون الأوائل كسر تلك الحدود جزئياً من خلال تبادل بعض المصالح وكذا تهريب الثوار المعارضين لكلا الاحتلالين وتهريب بعض الأسلحة من الجنوب إلى الشمال لدعم ثورة 26 سبتمبر، وتهريب السلاح من الشمال إلى الجنوب بعد ثورة سبتمبر لدعم ثورة 14 أكتوبر.
فاعلية العمق الشعبي
وقد كان للعمق الشعبي المتداخل في نفوس الشخصيات الثورية التي لا تعترف بالتشطير ولا الحدود المصطنعة الدور الأكبر في توحيد النضال ضد الاحتلال في الجنوب والإمامة في الشمال، إذ لم يفرق مناضلو الجنوب بين صنعاء وعدن أو لحج وتعز وإب والضالع، ونفس الشيء كان لدى مناضلي الشمال الذين جعلوا صنعاء عاصمة للتخطيط والتوجيه الثوري لتحرير الجنوب عقب قيام ثورة سبتمبر وذلك في احتضان صنعاء الاجتماع الجنوبي لأكثر من 105 شخصيات برعاية السلال، كما جعل الجميع من تعز معسكراً لاستقبال الفرق المتدربة لتحرير الجنوب.
وتطبيقاً لهذا الأمر سنجد أن الشخصيات الأولى في الجنوب كالأصنج وقحطان ولبوزة ونعمان الحكيمي وغيرهم كانوا يجمعون المتطوعين من الجنوب إلى الشمال والذين كان يرأس بعض فرقهم كما شهر بذلك الشيخ راجح لبوزة وغيرهم.
فعقب قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م انتقل قحطان من القاهرة إلى صنعاء، وعُين مستشاراً للرئيس عبد الله السلال لشؤون الجنوب المحتل، وتم دعم الجنوبيين لثورة 26 سبتمبر في الشمال، وأرسل المتطوعون لدعم الثورة في كل من الحديدة وحجة وإب.
فحين اشتدت الهجمات الإمامية المضادة على ثورة سبتمبر في محاولة يائسةٍ لوأد الثورة الوليدة برزت الضرورة الملحّة للإسهام في الدفاع عن الثورة أمام كثير من الشخصيات الجنوبية في الميدان خاصة ومنهم علي عنتر ورفاقه باعتبارها أهم وأنبل مهمة نضالية تقع على عاتق المناضلين الشرفاء، وإزاء هذه المستجدات الجديدة، وبرئاسة عنتر عَقد أبرزُ قادةِ حركة القوميين العرب في (الضالع) اجتماعهم في منزل الشهيد المناضل (علي شائع هادي) حيث تم في الاجتماع تدارس خطةٍ للإسهام المباشر في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر بكل الإمكانيات المتاحة وبمختلف الطرق، كما أنه ناقش إمكانية الثورة في الجنوب بعد أن توفر له أهم ظرف موضوعي لذلك، وعقب الاجتماع تحرك عدد كبير من الفدائيين مع إخوانهم من الجنوب للدفاع عن الجمهورية الفتية.
وهنا برز اسم راجح لبوزة الذي كون مع آخرين من أبناء منطقته مجموعة من الشباب المتبرعين للقتال في صف ثورة 26 سبتمبر للدفاع عنها، فكونوا مجموعة كبيرة من أبناء ردفان إلى قعطبة وكانوا حوالي «150» شخصاً، وتم ترحيلهم إلى إب ثم إلى الحديدة، وهناك سلمت لهم أسلحة شخصية وذخيرة.
غالب راجح لبوزة
واصل لبوزة المسير من الحديدة إلى منطقتي عبس برفقة قائد لواء إب الشهيد المقدم أحمد الكبسي، وكان في استقبالهم هناك قائد القوات المصرية المرابطة في عبس والمحابشة، وتم تمركز القوة التي كان يقودها الشهيد لبوزة في المحابشة في منطقة الوعلية والمفتاح.
عبود الشرعبي
وبعد عام من الدفاع عن ثورة سبتمبر والنضال المستمر جاءت الحاجة إلى الاتجاه جنوباً، واتفق الزعيم عبدالله السلال وقحطان الشعبي وبرعاية من جمال عبدالناصر على عودة أولئك المتطوعين المجندين في الشمال إلى الجنوب للقيام بثورة الرابع عشر من أكتوبر التي أشعل شرارتها الشهيد راجح لبوزة من جبال ردفان، ولما انطلقت تلك الثورة فتحت تعز وإب أرضها ودورها لاستقبال المجندين الجنوبيين والشماليين للتدريب على السلاح ودعم تلك الثورة، وهنا برز إسم عبود الشرعبي مهندس العمل الفدائي في تلك الثورة وأول من قام بعملية فدائية فيها.
عبود الشرعبي
حيث ملأ عبود سيارته بالألغام وذهب برفقة زملائه لتفخيخ ميدان الاتحاد في عدن الذي كان يجري الإعداد للاحتفال فيه من قبل شخصيات كبيرة من البريطانيين بينهم المندوب السامي مع بعض السلاطين الموالين إلا أن سلطات الاحتلال اكتشفت الأمر قبيل الاحتفال مما أدى إلى فشل العملية، الأمر الذي دفع عبود ورفاقه بفتح النار على مجموعة من الضباط البريطانيين الحاضرين وتكبيدهم خسائر طائلة، لكنه استشهد برصاص جندي بريطاني كان متمركزاً مع ثلة من الجنود فوق سطح عمارة البنك القريب من مسجد النور ليسقط “عبود” شهيداً مُضرجاً بدم الثورة والحرية.
أسماء في مجال النضال
وبرز من الشخصيات القيادية التي تدربت على السلاح وتلقت تدريبات خاصة في تعز علي عنتر وأبو بكر شفيق وغيرهم، كما استقبلت تعز فيها لأول مرة عقد الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل مؤتمرها الأول في تعز في 22 يونيو 1965، وأعلنت فيه موقفها الثابت لمواصلة الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني حتى جلائه عن أرض الوطن.
نفس الأمر سنجده في محافظة إب، حيث كان للشيخ مطيع دماج دور فاعل في دعم ثورة أكتوبر والكفاح المسلح في جنوب اليمن، وتوفير الأسلحة وجمع التبرعات. وقد كانت بيوته وبيوت أسرته في “النقيلين” ملجأً آمناً لبعض أبرز قيادات ثورة أكتوبر والكفاح المسلح في الجنوب. كما كان على رأس المساهمين في التحضير لمؤتمر الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني الذي انعقد في مدينة جبلة في أبريل 1966.
لقد برز كذلك اسم محمود عشيش – ابن مدينة رداع البيضاء- في العمل الثوري ضد الاحتلال البريطاني في عدن، وانخرط في صفوف “الاتحاد اليمني” قبل أن يتم تأسيس حركة القوميين العرب، ومع تأسيس فرع حركة القوميين العرب في الجنوب عام 1959م اكتسب عشيش عضوية ذلك التنظيم، ومع تأسيس الجبهة القومية وإعلان الكفاح المسلح في 14 أكتوبر 1963م كان محمود عشيش من الأعضاء المتألقين فيها، حيث تم انتخابه في عضوية القيادة العامة في مؤتمر جبلة (المؤتمر الثاني المنعقد خلال الفترة من 7 إلى 11 يونيو 1966).
كان عشيش يرفض بقوة دمج الجبهة القومية ومنظمة التحرير في إطار جديد تحت مسمى (جبهة التحرير) في 13 يناير 1966.
كما بدأ نضال بعض الشخصيات الجنوبية مع الشمال في وقت مبكر كان أيضاً لبعض الشخصيات الشمالية في عدن والجنوب عامة نضال في وقت مبكر أيضاً، حيث شارك الشيخ إبراهيم حاميم – أحد شيوخ خدير في تعز – في ريعان شبابه بالحملة العثمانية على الإنجليز في مستعمرة عدن عام 1915م. ثم ذاع صيته بعد أن بدأ يتعهد بحماية القوافل التجارية وبتأمين أهم الطرق التجارية للبلاد في حينها، وهو طريق عدن – تعز البري، ولما خاف الاحتلال البريطاني من لعب هذه الشخصية دوراً هاماً في تزويد ثورة الشمال بالسلاح من الجنوب قام طيران الاحتلال البريطاني بقصف مخزنه للسلاح في الراهدة بتنسيق واتفاق مع الإمام أحمد حميد الدين يومها.
هناك الكثير من الشخصيات التي ناضلت في الجنوب من أجل التحرر من الاحتلال البريطاني نذكر منهم مثلاً عبدالعزيز عبدالولي ناشر من مواليد عزلة (الأعبوس) في محافظة تعز، الذي التحق بحركة القوميين العرب، ثم بتنظيم (الجبهة القومية)، الذي شارك في مناهضة التواجد البريطاني، وقد اعتقل في عدد من سجون مدينة عدن، وأطلق سراحه عام 1387هـ/ 1967م، وكذلك محمد عبده نعمان الحكيمي ومحمود عشيش وعبدالفتاح إسماعيل، وغيرهم كثير.
.. يتبع