عبدالله البردوني

02:28 2023/08/31

  • لا يمكن الحديث عن البردوني الشاعر في منأى عن البردوني الناقد و المؤرخ و الكاتب الصحفي، وربما شغل الناس بأفكاره النقدية و بنظراته التاريخية بأكثر مما شغلهم بشعره.
 
ولد الشاعر الكبير عبدالله البردوني في قرية البردون (بفتح الباء و تشديد الدال) من محافظة ذمار الواقعة -جغرافياً-في قلب اليمن.ولم يكن حتى وقت متأخر يعرف سنة مولده إلا تخميناً حين حددها في ديوانه الأول (من أرض بلقيس) ب١٣٤٨ه‍ وفي السيرة القصيرة التي تضمنها ذلك الديوان إشارة إلى أنه بين سن الرابعة والسادسة من عمره داهم البلاد وباء الجدري الذي ظل يتعهدها إلى منتصف الخمسينات من القرن العشرين-و اختطف عينيه مع العشرات من أطفال قريته فضلاً عن تشويه وجوه عشرات أخرين نجوا من الموت والعمى بأعجوبة. أدركت الأسرة بعد أن فقد البردوني الطفل بصره أنه لم يعد نافعاً في مجتمع قبلي زراعي فبعثت به إلى مدينة ذمار ليتعلم القرآن الكريم لعله يرتزق من تلاوته،لكن الشاعر الموهوب خرج في وقت مبكر عن الخط الذي حاولت أسرته أن ترسمه لمسيره حياته القادمة فبدأ في حفظ الشعر وفي متابعات دروس الفقه والحديث الأمر الذي أهله للانتقال إلى مرحلة أعلى في المدرسة العلمية بصنعاء العاصمة التي تفتح وعيه فيها على المزيد من العلوم والمعارف الأدبية واتسعت قراءاته في الشعر قديمه وحديثه وبدأت محاولاته الأولى في الظهور.
 
قالوا عنه -في بغداد عندما تسلطت عليه الأضواء لأول مرة في مهرجان أبي تمام -إنه مفاجأة اليمن الإبداعية السارة فقد نجح في أن يعلن -في حشد من شعراء الأمة العربية- عن حضوره الإبداعي وعن تمرده على العمود داخل العمود نفسه ،وفي ظل هذا التمرد جرب الرمزية و السوريالية،وأطلق على بعض قصائده عناوين مثيرة للجدل مثل :
زمان بلانوعية،تحولات،أعشاب الرماد،دوي الصمت.واستهوت طريقته عدداً من الشعراء الشباب و الكهول الذين كتبوا وما زالوا يكتبون أشعارهم على ضوء تجربته الكبيرة.
 
 وإذا كانت الكلاسيكية تشكوا من تحكم الشعراء الموتى في الشعراء الأحياء فإن شعراء الكلاسيكية الجديدة لم يتمكنوا بما اكتسبوه من المغامرات المماثلة أن يتحكموا في مقلديهم وحسب،بل أن يبتلعوهم و ينتقموا منهم شر انتقام على ما يتسببون به من تشويش طريقهم في الكتابة الشعرية ومحاوله مسخها وتحويلها إلى قوالب شكلية جاهزة.وهذا بعض ما نال كل الذين حاولوا تقليد إلياس أبو شبكة وبدوي الجبل وإيليا أبي ماضي و البردوني وسليمان العبسي و الجواهري و أضرابهم من عمالقة التحديث العمودي .
 
 
كثيراً ما تحدث إلي الشاعر الكبير و إلى عدد آخر من أصدقائه عن رغبة كامنة في كتابة قصيدة التفعيلة إيمانا منه بالتنوع الخلاق في مجال الكتابة الشعرية لكنه لم يحاول ذلك، و ظل مشدوداً بسلاسل من الذهب إلى القصيدة "البيتية"بموسيقاها الهادئة حيناً و الصاخبة حيناً آخر، و شعره العظيم يؤكد على أن قبضة الشكل الكلاسيكي ما تزال شديدة و قادرة على مناوشة الأشكال الحديثة و الأحدث، و في هذا الشكل الكلاسيكي نماذج حافلة بالدلالات والرموز والأساطير و مساحات واسعة من العذوبة الناتجة عن الجمع بين إيقاع اللغة وموسيقى البحور، و هو ما يدعو شعراء الحداثة وأنصار النماذج المنفتحة على التجارب التعبيرية الأحدث إلى أن يراجعوا مواقفهم و يضاعفوا من جهدهم والعناية بلغتهم والتقليل من مساحات البياض واستيعاب تحديات البناء الحديث  الهادف إلى إضافة الجديد إلى الموروث وليس إلى كسر ثوابته وحسب.
 
الأشياء _ بالنسبة للشاعر الحقيقي _ لا تكون حاضرة في ذهنه و لا في بصره و إنما في وجدانه يستوي في ذلك من له عين زرقاء اليمامة و فاقد البصر فالمرائي التي يرسمها الشاعر بخياله ليست هي المرائي الخارجية التي يراها بعينيه و إنما هي تلك التي يضج بها محيطه الداخلي ولكل شاعر كبير مصباحه المتقد ليلا ليدله على هذه المرائي و هو عند فاقد البصر أكثر توهجا و اتقادا لأنه يظل في منجاة من الرؤية المباشرة و جبروتها و بمقدار ما تكون الأشياء حاضرة في الوجدان وفي الشعور يكون الشاعر مبدعا يستمد من داخله صور الأشياء و يستنطق العلاقات المتشابكة و يلبسها ثيابا من لغته التي لا تكون متميزة و صاعدة إلا بقدر ما تجيد رسم هذه العلاقات و التشابكات و من المؤكد أن البردوني كان واحدا من الشعراء المعاصرين القلائل الذين امتلكوا هذه الخاصية بامتياز و أجادوا توظيفها باقتدار . 
 
 
لا يمكن الحديث عن البردوني الشاعر في منأى عن البردوني الناقد و المؤرخ و الكاتب الصحفي وربما شغل الناس بأفكاره النقدية و بنظراته التاريخية _ في وقت من الأوقات _ بأكثر مما شغلهم بشعره بالرغم من الإجماع على أنه شاعر بالدرجة الأولى و من الدرجة الأولى و أن إضافته الجوهرية و الحقيقية تتجلى في إبداعه الشعري إلا أنه لا يمكن تجاهل كتابات النثرية و كان كتابه " رحلة في الأدب اليمني " خلاصة نظرية عن الشعر و الشعراء في اليمن و استقصاءات نقدية بالغة الأهمية في وقت لم تكن الجامعات قد أطلعت نقادها الأكاديميين و لا الساحة الأدبية قد هيأت لظهور النقاد المحترفين و غي الوقت ذاته فقد نجح البردوني في اقترابه من الأدب الشعبي و تقديم لمحات نقدية ذكية عن أنساقه المختلفة من شفهية و مدونة .
 
ولعل كتاباته السياسية هي الأحفل بالإثارة و استيعاب فكره النقدي و يبدو أن أكثر ما كان يكرهه في حياته الصمت فقد كان مسكونا بالقلق الذي سكن وجدان عدد من الشعراء الكبار أصحاب القضايا التي لا تستطيع القصيدة وحدها أن تستوفي الحديث عنها .
 
من الثابت بعد أن استكمل الموت في 30 / 8 / 1999 م تجربة الشاعر الكبير أنه كان يدرك أهمية الشعر ليس من وجهة نظر فنية صرف و حسب و إنما من وجهة نظر فكرية أيضا انطلاقا من أن الشعر لم يكن فنا طارئا على الروح بل نابعا من أشواقها إلى محاولة اكتشاف المجهول . و كل شاعر قديم أو حديث يستشعر بحدسه الفطري سعادة عميقة و كأنه الشاعر الأول ذلك الذي كان يستغرق في البحث عن معنى لوجوده و يرصد بالكلمات أبعاد الرحلة القاسية مع الحياة في إشراقاتها و ظلماتها و من المؤكد أن الشعر بالنسبة للإنسان لم يكن وسيلة الوعي بالزمان و المكان وحسب و إنما كان بمثابة وعي الإنسان لنفسه و لاحتواء تأملاته الشاردة و مهما يطرأ على الشعر من تغيرات في الأسلوب أو الشكل فإنه يبقى ذلك الملاذ الفاتن و الوسيلة المثلى للتعبير و هو الأكثر شبها بالأشجار التي تغير أوراقها و لا تغير جذوعها و فروعها و ذلك بعض ما تقوله النصوص المختارة من المجموعات الشعرية التي أنجزها شاعرنا الكبير خلال خمسين عاما هي كل عمره الإبداعي البالغ الخصوبة و الثراء .. و هو شاعر حديث بكل ما للكلمة من معنى لاسيما في مجموعاته الشعرية الأخيرة التي تخلص فيها من أصوات الآخرين و إذا كانت اللغة هي أهم عناصر الحداثة في الشعر فإن البردوني من الشعراء العرب القليلين الذين أدركوا أهمية اللغة و لم يدخروا وسعا للتعامل معها بحرارة و ألفة .