ذمار.. الأرض والإنسان: قراءة في البنية النفسية

08:36 2022/04/23

المكان نص بصري مفتوح، يُقرأ بأكثر من طريقة، ومن أكثر من وجهة، المكان لوحة صامتة، تقول كل شيء بلغة الصمت، إيماء وحدسا بكيفية لا تُكيف.. المكان بامتداده التاريخي وهندسته الجغرافية، بتحولاته الهُويّاتية. باعتمالاته الوظيفية. المكان بمتنه الأصلي، بهامشه الثانوي. بقاعه المديد، بفضائه الرحب. المكان بما هو صورة كلية، له شخصيته المستقلة وذاته الاعتبارية. 
 
المكان بما هو روح فاعلة، تكاد تحفك بنسميها أو تلفحك بهجيرها. بما هو كائن يكاد يصافحك بحميمية متناهية حينا، وبما هو شبح أسطوري يبعث في جسدك القشعريرة حينا آخر، بما هو صورة في الواقع أو انعكاس لصورة في المخيلة، وفقا لإشارة كانط.. بما هو علائق من علاقات، وبُنًى من أبنية. تتأسطر فيه الحقائق، وتتحقق فيه الأساطير. ألم تتكون نسبية انشتاين من المكان مضاف إليه الزمان؟! لتنشأ معادلة جديدة سماها المكان الزماني بأبعاده الأربعة، أي أن الحقائق لا تدرك إلا ضمن البعد "الزمكاني". هذا تفسيرٌ فيزيائي يبدو بعيدا عن موضوعنا.  
 
للأمكنة لغتها وألوانها وتعبيراتها وفلسفتها وتأثيراتها. للأمكنة سطوتها الجبارة، وهيمنتها القاهرة، للأمكنة حكمُها وأحكامها.. ومن هنا استوحى مونتسكيو مقولته الشهيرة: أن الاستبداد يسهلُ في الأماكن التي تتميز بمناخاتٍ حارة، فيما يستحيل في الأماكن التي تتميز بمناخات باردة.
 
قبل مونتسكيو قالها محمد بن عبدالله، وهو عائد من معركة أُحد عن جبل أحد نفسه: "أحُد جبلٌ يحبنا ونحبه" في إشارة نفسية عميقة تؤصل لأهمية التصالح مع المكان، وقد حدسَ في أصحابه شيئا من التشاؤم من الجبل، بعد هزيمتهم فيه. إنهم جُزءٌ من المكان وهو جزء منهم. 
 
المكان شاهد ومشهود، دالٌّ ومدلول.. لوحة في ريشة الفنان، غنوة في فم الملحن، قصيدة بين أحاسيس الشاعر، نص في فكر الفيلسوف، محراب في وجدان العابد، وحضن دافئ في وجدان العاشق..!
يا لعظمتك المهيبة أيها المكان..! 
والآن.. هل آن لنا أن نُيَمّمَ وجهتنا نحو ذمار؟! 
لا بأس.. لكن قبل أن تدخل ذمار كن ذماريا.
 تَذمْرَرْ، وإلا..!
 
ذمار بجغرافيتها ذات صبغة كوسومبوليتية، أي من المُدن المفتوحة على العديد من المناطق الأخرى المتصلة بها اتصالا حميميا في حركة دائبة، يومية أو شبه يومية. وفي جدل مجتمعي لا ينفك في مختلف الأحداث والتطورات. مرتبطة بالسهل والجبل، بجدب الجبال الشمالية وخصب السُّهول الجنوبية. بدهاء الصنعاني وشهامة البيضاني. ببساطة إب وطيبة ريمة. بالقلم الحميري والسيف المذحجي. بالتبابعة و "الأبناء"، بالدولة والقبيلة معا. 
 
ذمار من اليمن كألمانيا من أوروبا، تمثل للجمهورية قلبها، وللإمامة ذيلها.
 
 من المعروف أن البنية النفسية للجغرافيات المفتوحة غير البنية النفسية للجغرافيات المغلقة على نفسها، إنها مزيج من الجميع وخليط من الكل. تماشجت أعراقُها عبر الزمن من عدة أجناس، وانصهرت مع بعضها، مكونة الشخصية الذمارية التي نعرفها. وبحسب جوستاف لوبون: الأمم مُسيّرةٌ بأخلاق عروقها، أي بمجموع المشاعر والاحتياجات والعادات والرغبات التي هي دعائم روحها الأساسية. 
 
إن رقة الحضارة الأوروبية وغضارتها اللدنة اليوم تخفي وراءها مخالبَ ناشبة وأنيابًا مُكشّرة، لا تزال كامنة في اللاوعي الجمعي منذ العهود السحيقة لأجدادهم الغزاة، تفصحُ عنها فصولُ الحروبِ التي يتسلون بها بين الحين والحين، فليس هتلر إلا الاسكندر، وليس موسوليني إلا نيرون.! 
 
إنّ المجتمعَ المتعدد الأعراق ينشأ أبناؤه بذكاء نادر، وإبداع متميز، وعباقرة التاريخ في مختلف العلوم من أنسال مختلطة، فعلى سبيل المثال: أحمد شوقي مصري من أب كردي وأم تركية، جدته لأبيه شركسية، وجدته من أمه يونانية. والبارودي مصري من أصل شركسي، والعقاد من أب مصري وأم كردية، وغيرهم الكثير. قبل هؤلاء إبداعات الحضارة الإسلامية التي كانت وليدة التلاقح بين مكة والمدينة ودمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وصنعاء. وفي العصر الحديث كانت إبداعات وذكاء الأوروبي من نتاج تلاقح مختلف شعوب أوروبا وانفتاحها على بعضها بعد طول انغلاق. ولنا أن نعتبر ذمار صورة "مجهرية" مصغرة من هذه الصورة الكبيرة، أنتجت شخصية مبدعة في مختلف المجالات، حتى بالفكاهة..! 
 
سيكولوجيا.. تنتمي الفكاهة إلى منظومة من نقاط القوة الإيجابية، لتحييد التوتر، كما يقرر علم النفس التجريبي. إنها على بساطتها وتلقائيتها تختزل فلسفة عميقة في التجربة الذاتية للمجتمع أو للشخص، كما تعكس شخصية مرحة لديها ثقة بالنفس إلى حد كبير، ووحدها الشخصية الوسواسيّة والمُحبَطة لا تتعاطى مع الفكاهة، ولذا تستخدم الفكاهة اليوم في العلاج النفسي؛ بل صار لها دارسون وباحثون ومُنظّرون من علماء النفس وعلماء الاجتماع، بعد أن دخلت حتى مجال السياسة. 
 
النكتة في مدلولها النفسي دليلُ استرخاءٍ عقلي، وهي انعكاسٌ لخيالٍ واسع وروح قوية. ولذا ففي الغالبِ تأتي الأجوبة المسددة ذات الصبغة الفكاهية في لحظاتِ الاسترخاء، ويصعب مجيئها في لحظات النزق أو الانفعال. فإذا ما مزحت مع شخص مسترخ هادئ الطباع فكن مستعدا لجواب مسكت. والذماري أبو النكتة وأمها وفارسها وابن بجدتها. 
 
الشخصية الذمارية مبدعة بنجومية متوهجة، تخطف الأنظار عادة، ولنتوقف هنا أمام شخصية يمنية تجاوزت المحلية إلى العالمية، كالبردوني على سبيل المثال، هل نستطيع القول أنه مبدع وكفى؟ فهناك مبدعون كثر على امتداد اليمن، أم مبدع بتوهج استثنائي نادر؟!
إنه نموذج بارز، كمبدع استثنائي، يُخفي خلفَه عدةَ مبدعين استثنائيين في مجاله. 
 
الإبداع حالة انفعالية أساسا، وهاتوا لي مبدعا لا يبدع منفعلا. يتأتى هذا الانفعال من قوة داخلية تفجر الطاقة الإبداعية حينما تكون تلك الانفعالات مرتبطة بالمدركات الحسية، في تلازم وثيق بين الخيال الجامح والعقل الناضج، ذلك أن الإبداع في جوهره الكُلي حالة من تلاقح الخيال مع العقل.
 
إلى جانب البردوني ــ وإن بمسافة بعيدة ــ نتوقفُ أمام شخصيّاتٍ وطنية أخرى كالوريث، الخطيب والسياسي والأديب، صاحب مجلة الحكمة، الذي قتله كرمه نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، كما قيل، أو بالأصح قتله الإمام يحيى. كالشاعر المناضل إبراهيم الحضراني، كالقائد الوطني وأبرز سياسي عسكري من الضباط الكبار في ملحمة السبعين الفريق حسن العمري، كالفنان المتميز علي الآنسي، كالمقرئ والمنشد محمد حسين عامر، كالفقيه أحمد بن أحمد سلامة، كالشاعر الغنائي المرتد عن جمهوريته عباس الديلمي. وقبل هؤلاء جميعا غزال المقدشية:
سوا سوا يا عبادالله متساوية      ما حد ولد حر والثاني ولد جارية
 
إلى جانب هؤلاء "آباء العهد القديم" إذا ما استعرنا المصطلح التوراتي، يأتي اليوم الذماريون الجدد، وكل من موقعه في حالة "ذمارية" ملفتة: محمد الأضرعي فنان ساخر، سام الغباري كاتب تصويري، علي البخيتي سياسي مشاغب، ملحد بذهنية موحد، وموحّد بعقليّة ملحد، عادل الآنسي "زنبقة" مبدع على غير عادة سابقة، خالد الآنسي معارض فيسبوكي شهير، عبدالعزيز جباري صوت مجلجل أينما ذهب. أينما التفت أمامك صوت ذماري بارز. أو قل حالة ذمارية خاصة. 
 
الذماري براجماتي بحسابات واعية ودقيقة.. لا يؤمن بالمجان ولا يكفر بالمجان، لديه قدرة على التكيف مع المتناقضات والتعاطي معها بمرونة عالية، لهذا يختلفون فيما بينهم، مُبقين على قليل من الود، ويتفقون مستبطنين قليلا من الاختلاف. ثمة مساحة احتياطية مشتركة بين طرفي الاتفاق والاختلاف، وهذه حالة نادرة في كثير من المجتمعات. إنه سليل الحرب والفقه والشعر والفنون والتاريخ. ومن هذا الخليط تشكلت البنية الداخلية للشخصية الذمارية. ومن يتتبع تاريخ المجتمعات اليمنية يجد أن ذمار استثناء من مجتمعات الحروب التي لم تأكل نفسها، كعادة المجتمعات الحربية التي تلتهم نفسها إذا لم تجد ما تلتهمه، في صورة من صور "الذكاء المرتد"، كما أشار الشاعر التغلبي القطامي: 
وأحـيـانـًا عـلى بكر أخينا     إذا ما لم نَجِد إِلا أخانا
 
ــ يولد الذماري بفائض من النشاط وفائض من الفضول، وفقا لإشارة البردوني، مهاجمًا ومدافعًا في وقت واحد، بحركة دائبة تشبه حركة خيل امرئ القيس..!
 
هذه هي ذمار، الطبيعة، وذمار الإنسان، وكلاهما واحد؛ لأن "الشيء المنسوب إلى المكان محاط بالمكان، فالمحيطُ محيطٌ بالمُحاط، والمُحاط محاطٌ به المحيط". وفقا للفارابي..!